أدهشني وحيّرني: السيد الخوئي يتحدّث عن ولعه بـ «القرآن الكريم»

كنت ولعا منذ أيام الصبا بتلاوة كتاب الله الاعظم، واستكشاف غوامضه واستجلاء معانيه. وجدير بالمسلم الصحيح، بل بكل مفكر من البشر أن يصرف عنايته إلى فهم القرآن، واستيضاح أسراره، واقتباس أنواره، لانه الكتاب الذي يضمن إصلاح البشر، ويتكفل بسعادتهم وإسعادهم.

والقرآن مرجع اللغوي، ودليل النحوي، وحجة الفقيه، ومثل الاديب، وضالة الحكيم، ومرشد الواعظ، وهدف الخلقي، وعنه تؤخذ علوم الاجتماع والسياسة المدنية، وعليه تؤسس علوم الدين، ومن إرشاداته تكتشف أسرار الكون، ونواميس التكوين. والقرآن هو المعجزة الخالدة للدين الخالد، والنظام السامي الرفيع للشريعة السامية الرفيعة.

أولعت منذ صباي بتلاوته، واستيضاح معانيه، واستظهار مراميه، فكان هذا الولع يشتد بي كلما استوضحت ناحية من نواحيه، واكتشفت سرا من أسراره، وكان هذا الولع الشديد باعثا قويا يضطرني إلى مراجعة كتب التفسير، وإلى سبر أغوارها. وهنا رأيت ما أدهشني وحيرني :

رأيت صغارة الانسان في تفسيره وتفكيره أمام عظمة الله في قرآنه.

رأيت نقص المخلوق في تناهيه وخضوعه أمام كمال الخالق في وجوبه وكبريائه.

رأيت القرآن يترفع ويرتفع، ورأيت هذه الكتب تصغر وتتصاغر.

رأيت الانسان يجهد نفسه ليكتشف ناحية خاصة أوناحيتين، فيحرر ما اكتشفه في كتاب، ثم يسمي ذلك الكتاب تفسيرا يجلو غوامض القرآن، ويكشف أسراره، وكيف يصح في العقول أن يحيط الناقص بالكامل.

على أن هؤلاء العلماء مشكورون في سعيهم، مبرورون في جهادهم. فإن كتاب الله ألقى على نفوسهم شعاعا من نوره، ووضحا من هداه، وليس من الانصاف أن نكلف أحدا ـ وإن بلغ ما بلغ من العلم والتبحر ـ أن يحيط بمعاني كتاب الله الاعظم، ولكن الشئ الذي يؤخذ على المفسرين أن يقتصروا على بعض النواحي الممكنة، ويتركوا نواحي عظمة القرآن الاخرى، فيفسره بعضهم من ناحية الادب أو الاعراب، ويفسره الآخر من ناحية الفلسفة، وثالث من ناحية العلوم الحديثة أو نحو ذلك، كأن القرآن لم ينزل إلا لهذه الناحية التي يختارها ذلك المفسر، وتلك الوجهة التي يتوجه إليها.

وهناك قوم كتبوا في التفسير غير أنه لا يوجد في كتبهم من التفسير إلا الشئ اليسير، وقوم آخرون فسروه بآرائهم، أو اتبعوا فيه قول من لم يجعله الله حجة بينه وبين عباده.

على المفسر : أن يجري مع الآية حيث تجري، ويكشف معناها حيث تشير، ويوضح دلالتها حيث تدل. عليه أن يكون حكيما حين تشتمل الآية على الحكمة، وخلقيا حين ترشد الآية إلى الاخلاق، وفقيها حين تتعرص للفقه، واجتماعيا حين تبحث في الاجتماع، وشيئا آخر حين تنظر في أشياء أخر.

على المفسر: أن يوضح الفن الذي يظهر في الآية، والادب الذي يتجلى بلفظها، عليه أن يحرر دائرة لمعارف القرآن إذا أراد أن يكون مفسرا. والحق أني لم أجد من تكفل بجميع ذلك من المفسرين.

*مقتطف من كتاب: البيان في تفسير القرآن