مجازر وتشريد: متى تنتهي معاناة المسلمين بـ «نصر من الله»؟!

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّی يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ (٢١٤ - البقرة)

‏قال بعض المفسّرين: إنّ الآية نزلت عند ما حوصر المسلمون و اشتدّ الخوف و الفزع بهم في غزوة الأحزاب، فجاءت الآية لتثبّت علی قلوبهم و تعدهم بالنصر.

‏و قيل: إنّ عبد اللّه بن أبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلی متی تتعرّضون للقتل و لو كان محمّد نبيّا لما واجهتم الأسر و التقتيل، فنزلت الآية١.

‏الصعاب والمشاقّ سنّة إلهية

‏يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت تری أنّ إظهار الإيمان باللّه وحده كاف لدخولهم الجنّة، و لذلك لم يوطنوا أنفسهم علی تحمّل الصعاب‌ و المشاقّ ظانّين أنه سبحانه هو الكفيل بإصلاح أمورهم و دفع شرّ الأعداء عنهم.

‏الآية تردّ علی هذا الفهم الخاطئ و تشير إلی سنّة إلهية دائمة في الحياة، هي أنّ المؤمنين ينبغي أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة المشاقّ و التحدّيات علی طريق الإيمان ليكون ذلك اختبارا لصدق إيمانهم، و مثل هذا الاختبار قانون عامّ سری علی كلّ الأمم السابقة.

‏و يتحدّث القرآن الكريم عن بني إسرائيل- مثلا- و ما واجهوه من مصاعب بعد خروجهم من مصر و نجاتهم من التسلّط الفرعوني، خاصّة حين حوصروا بين البحر و جيش فرعون، فقد مرّوا بلحظات عصيبة فقد فيها بعضهم نفسه، لكن لطف اللّه شملهم في تلك اللحظات و نصرهم علی أعدائهم.

‏و هذا الذي عرضه القرآن عن بني إسرائيل عامّ لكلّ‌ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ‌ و هو سنّة إلهيّة تستهدف تكامل الجماعة المؤمنة و تربيتها. فكلّ الأمم ينبغي أن تمرّ في أفران الأحداث القاسية لتخلص من الشوائب كما يخلص الحديد في الفرن ليتحوّل إلی فولاذ أكثر مقاومة و أصلب عودا. ثمّ ليتبيّن من خلال هذا الاختبار من هو اللائق، و ليسقط غير اللائق و يخرج من الساحة الاجتماعية.

‏المسألة الأخری التي ينبغي التأكيد عليها في تفسير هذه الآية: أنّ الجماعة المؤمنة و علی رأسها النبيّ صلی اللّه عليه و آله و سلّم ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول‌ مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ‌؟!، و واضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا علی المشيئة الإلهية، بل هو نوع من الطلب و الدعاء.

‏فتقول الآية أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ ....

‏و بما أنّهم كانوا في غاية الاستقامة و الصبر مقابل تلك الحوادث و المصائب، و كانوا في غاية التوكّل و تفويض الأمر إلی اللّطف الإلهي، فلذلك تعقّب الآية أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ‌.

‏(بأساء) من مادّة (بأس) و كما يقول صاحب معجم مقاييس اللّغة أنّها في‌ الأصل تعني الشّدة و أمثالها، و تطلق علی كلّ نوع من العذاب و المشّقة، و يطلق علی الأشخاص الشّجعان الّذين يخوضون الحرب بضراوة و شدّة (بأيس) أو (ذو البأس).

‏و كلمة (ضرّاء) كما يقول الرّاغب في مفرداته هي النقطة المقابلة للسرّاء، و هي ما يسرّ الإنسان و يجلب له النفع، فعلی هذا الأساس تعني كلمة ضرّاء كلّ ضرر يصيب الإنسان، سواء في المال أو العرض أو النفس و أمثال ذلك.

‏جملة مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ‌ قيلت من قبل النبي و المؤمنين حينما كانوا في منتهی الشّدة و المحنة، و واضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا علی المشيئة الإلهيّة، بل هو نوع من الطلّب و الدعاء، و لذلك تبعته البشارة بالإمداد الإلهي.

‏و ما ذكره بعض المفسرين من احتمال أن تكون جملة (متی نصر اللّه) قيلت من طرف جماعة من المؤمنين، و جملة (ألا إنّ نصر اللّه قريب) قيلت من قبل النبي صلی اللّه عليه و آله و سلّم بعيد جدّا.

‏و علی ايّة حال، فإنّ الآية أعلاه تحكي أحد السنن الالهيّة في الأقوام البشريّة جميعا، و تنذر المؤمنين في جميع الأزمنة و الأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النّصر و التوفيق و المواهب الاخرويّة أن يتقبّلوا الصّعوبات و المشاكل و يبذلوا التضحيات في هذا السبيل، و في الحقيقة إنّ هذه المشاكل و الصّعوبات ما هي إلّا إمتحان و تربية للمؤمنين و لتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.

‏و عبارة الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ‌ تقول للمسلمين: أنّكم لستم الوحيدين في هذا الطريق الّذين ابتليتم بالمصائب من قبل الأعداء، بل أنّ الأقوام السّالفة ابتلوا أيضا بهذه الشدائد و المصائب إلی درجة أنّهم مسّتهم البأساء و الضرّاء حتّی استغاثوا منها.

‏و أساسا فإنّ رمز التكامل للبشريّة أن يحاط الأفراد و المجتمعات في دائرة البلاء و الشّدائد حتّی يكونوا كالفولاذ الخالص و تتفتّح قابليّاتهم الداخليّة و ملكاتهم النفسانيّة و يشتد إيمانهم باللّه تعالی، و يتميّز كذلك المؤمنون و الصّابرون‌ عن الأشخاص الانتهازيّين، و نختتم هذا الكلام بالحديث النبوي الشريف:

‏يقول (الخبّاب ابن الأرت) الّذي كان من المجاهدين في صدر الإسلام: قال قلنا يا رسول اللّه ألا تستنصر لنا ألا تدعو اللّه لنا.

‏فقال صلی اللّه عليه و آله و سلّم: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار علی مفرق رأسه فيخلص إلی قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه و يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه و عظمه لا يصرفه ذلك عن دينه؛ ثمّ قال: و اللّه ليتمن هذا الأمر حتّی يسير الراكب من صنعاء إلی حضرموت لا يخاف إلّا اللّه و الذئب علی غنمه و كلّكم يستعجلون»٢.

*مقتبس من تفسير الأمثل

الهوامش:

‏١ مجمع البيان، ج ١، ص ٣٠٨.

‏٢ الدر المنثور: ج ١ ص ٢٤٣، تفسير الكبير: ج ٦ ص ٢٠.