قرآنيات
لماذا يهتم الإنسان بـ "التكاثر" و "التفاخر"؟!

‏من آيات السّورة يتبيّن أنّ أحد العوامل الأساسية للتفاخر و التكاثر و المباهات هو الجهل بجزاء الآخرة و عدم الإيمان بالمعاد. كما إنّ جهل الإنسان بضعفه و مسكنته ... ببدايته و نهايته ... من العوامل الاخری الباعثة علی الكبر و الغرور و التفاخر.

[اشترك]

و لهذا فإنّ القرآن الكريم بهدف كسر روح التفاخر و التكاثر في الأفراد، يقصّ علينا في مواضع كثيرة مصير الأقوام السالفة، و كيف إنّها كانت تمتلك كلّ وسائل القوّة و المنعة، لكنّها أبيدت بوسائل بسيطة ... بالريح ... بالصاعقة ... بالزلزال ... بالسيل ... بعبارة اخری بالماء و الهواء و التراب .. و أحيانا بالسجّيل و بطير أبابيل!! فلم- و الحال هذه- كلّ هذا التفاخر و الغرور؟! ثمّ عامل آخر لهذه الظاهرة هو الإحساس بالضعف و عقدة الحقارة الناتجة عن الفشل. و الأفراد الفاشلون من أجل أن يغطوا علی فشلهم يلجأون إلی الفخر و المباهات و لذلك‌

‏ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام قال: «ما من رجل تكبر أو تجبّر إلّا لذلة وجدها في نفسه»

[اصول الكافي، ج ٢، ص ٢٣٦: باب الكبر، الحديث ١٧.].

‏وعن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السّلام قال: «ثلاثة من عمل الجاهلية: الفخر بالأنساب، و الطعن بالأحساب و الاستسقاء بالأنواء (طلب الماء بواسطة النجوم)»

[بحار الأنوار، ج ٧٣، ص ٢٩١.]

‏وعن أمير المؤمنين علي عليه السّلام قال:«أهلك النّاس اثنان: خوف الفقر، و طلب الفخر»

[بحار الأنوار، ج ٧٣، ص ٢٩٠، الحديث ١٢.]

‏و الحق أنّ أهم عوامل الحرص و البخل و الخلود إلی الدنيا و المنافسات المخربة، و كثير من المفاسد الاجتماعية هو هذا الخوف الوهمي من الفقر و التفاخر و التعالي بين الأفراد و الأمم و القبائل.

‏و لذا ورد عن رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ما أخشی عليكم الفقر و لكن أخشی‌ عليكم التكاثر» [الدر المنثور، ج ٦، ص ٣٨٧.]

‏«التكاثر» كما أشرنا يعني في الأصل التفاخر، و لكنّه يعني أحيانا حبّ الاستزادة من المال و جمعه، كما ورد في الحديث عن رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم قال: «التكاثر في الأموال: جمعها من غير حقّها، و منعها من حقها، و شدّها في الأوعية» [نور الثقلين، ج ٥، ص ٦٦٢، الحديث ٨.]

‏هذا البحث الموسّع نختمه‌ بحديث عن رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم‌ في تفسير أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي؛ و ما لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت»[صحيح مسلم، نقلا عن مجمع البيان، ج ١٠، ص ٥٣٤.]

‏نعم، حقّا لا يعود علی الإنسان شي‌ء من ماله الذي جمعه و عدده، و تساهل- أحيانا- في حلاله و حرامه، إلّا ما يأكل و يشرب و يلبس، أو ما ينفقه في سبيل اللّه و ما ينفقه علی الاحتياجات الشخصية قليل، فما أفضل أن يزيد حظه من ماله بالإنفاق!

المصدر: تفسير الأمثل

2024/11/09

اليهود أم كفار قريش.. من هم المقصودون بآية القتال؟!

1- هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ‌ من هم؟! قال بعضهم: إنّ الآية تشير إلی اليهود، و إلی بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين و قاتلوهم بعد حين كالفرس و الرّوم.

[اشترك]

‏و قال بعضهم: هي إشارة إلی كفّار قريش.

‏و قال بعضهم: بل هي إشارة إلی المرتدين بعد إسلامهم.

‏إلّا أنّ ظاهر الآيات يدلّ- بوضوح- علی أن موضوعها هو جماعة المشركين و عبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين علی عدم القتال و المخاصمة، إلّا أنّهم نقضوا عهدهم.

‏و كان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز.

‏كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إلی قريش، لأنّ قريشا و رئيسها- أبا سفيان- أعلنوا إسلامهم- ظاهرا- في السنة الثامنة بعد فتح مكّة، و السورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة.

‏كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّا عن مفهوم الآية، لأنّ الآية- أو الآيات محل البحث- تتكلم عن مواجهة فعلية، لا علی مواجهات مستقبلية أضف إلی ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه.

‏كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإسلام، بعيد غاية البعد، لإن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين.

[اشترك]

‏ثمّ إنّ كلمة «أيمان» جمع «يمين» و كلمة «عهد» يشيران إلی المعاهدة بين المشركين و الرّسول علی عدم المخاصمة، لا إلی قبول الإسلام. فلاحظوا بدقة.

‏و إذا وجدنا في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ هذه الآية طبّقت علی «النّاكثين» في «معركة الجمل» و أمثالها، فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب، بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية و حكمها يصدقان في شأن الناكثين و من هم علی شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل.

‏و السؤال الوحيد الذي يفرض نفسه و يطلب الإجابة، هو: إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم، و قد جری الكلام عليهم في الآيات المتقدمة، فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ‌ مع أنّهم قد نكثوها فعلا.

‏و الجواب: إنّ المراد من هذه الجملة- المذكورة آنفا- أنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان، و لم يثوبوا إلی رشدهم، فينبغي مقاتلتهم. و نظير ذلك ما جاء في قوله تعالی: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‌ و مفهومها أنّنا نطلب من اللّه أن يوفقنا لأنّ نسير علی الصراط المستقيم و أن تستمرّ هدايته إيانا. و الشاهد علی هذا الكلام أنّ جملة وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ‌ جاءت في مقابل‌ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين، فإمّا أن يتوبوا و يعرضوا عن الشرك و يتجهوا نحو اللّه، و إمّا أن يستمرا علی طريقهم و نكث أيمانهم. ففي الصورة الأولی هم إخوانكم في الدين، و في الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم.

2- ممّا يسترعي الانتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول: قاتلوا الكفار، بل تقول: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ و هي إشارة إلی أن (القاعدة الجماهيرية) و عامّة الناس تبع لزعمائهم و رؤسائهم، فينبغي أن يكون الهدف القضاء علی رؤسائهم و أئمتهم، لأنّهم أساس الضلال و التضليل و الظلم و الفساد، فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها و أحرقوها. فمواجهة الكفار لا تجدي نفعا ما دام أئمتهم في الوجود، أضف إلی ذلك فإنّ هذا التعبير يعدّ ضربا من ضروب النظرة البعيدة المدی و علو الهمة و تشجيع المسلمين، إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين، فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار.

[اشترك]

‏و العجيب أنّ بعض المفسّرين يری أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان و أمثاله من زعماء قريش، مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر، و أسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّة- بحسب الظاهر- و كانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين، فمقاتلتهم لا مفهوم لها.

‏و اليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقيا علی قوته «ساري المفعول» فالكي نزيل الاستعمار و الفساد و الظلم، لا بدّ من مواجهة رؤوساء و الأكابر و أئمّة المنحرفين، و إلّا فلا جدوی من مواجهة من دونهم من الأفراد، فلاحظوا بدقة.

3- إنّ التّعبير ب فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ‌ الوارد في الآيات المتقدمة، من ألطف التعابير التي يمكن أن يعبّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع، و بيان أوثق العلائق العاطفية، لأنّ أجلی العلائق العاطفية و أقربها في الناس التي تمثل‌ المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين.

‏إلّا أنّ من المؤسف أن الانقسامات الطبقية و النداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها، و وقف الإخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يصدق، و قد يقاتل كلّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال، و هذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا.

‏4- يستفاد- إجمالا- من جملة «أ تخشونهم» أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الاستجابة للأمر بالجهاد، إمّا لقوّة العدوّ و قدرته، أو لأنّهم كانوا يعدو نقض العهد ذنبا.

‏فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف، بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر اللّه. ثمّ إن خشيتكم من نكث الإيمان و نقض العهد ليست في محلها، فهم الذين نكثوا أيمانهم و هم بدأوكم أوّل مرّة! ٥- يبدو أنّ جملة هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ‌ إشارة إلی مسألة عزمهم علی إخراج الرسول صلّی اللّه عليه و آله و سلّم من مكّة (عند هجرته إلی المدينة) بادئ الأمر، إلّا أن نياتهم تغيرت و تبدلت إلی الإقدام علی قتله، إلّا أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر اللّه.

‏و علی كل حال، فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس علی سبيل أنّهم نقضوا عهدهم، بل هو بيان ذكری مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام، حيث اشتركت قريش و القبائل الأخری في هذا الأمر. أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحا من طرق أخری.

[اشترك]

‏5- ممّا يثير الدهشة و التعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل علی مذهبه بالآية قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ‌ مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنی دليل علی مرادهم، و هذا يشبه تماما لو أردنا أن ننجز عملا- مثلا- فنمضي إلی بعض أصدقائنا و نقول له: نأمل أن يصلح اللّه هذا الأمر علی يدك، فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور علی أداء هذا الأمر، بل المراد أنّ اللّه منحك قدرة و نية طاهرة، و بالإفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك و بحرية تامّة.

المصدر: تفسير الأمثل

[اشترك]

2024/10/20

متی تنتهي الحرب بين الإسلام والكفر؟!

‏سؤال أجاب عنه المفسّرون إجابات مختلفة: فالبعض- كابن عباس- قال: حتی لا تبقی و ثنية علی وجه البسيطة، و حتی يقتلع دين الشرك و تجتث جذوره.

‏و قال البعض الآخر: إنّ الحرب بين الإسلام و الكفر قائمة حتی ينتصر المسلمون علی الدجال، و هذا القول يستند إلی‌ حديث روي عن الرّسول الأكرم صلی اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «و الجهاد ماض مذ بعثني اللّه إلی أن يقاتل آخر أمّتي‌ الدجال» [مجمع البيان، المجلد ٩، صفحة ٩٨.٥.

‏البحث حول «الدجّال» بحث واسع، لكن القدر المعلوم أنّ الدجّال رجل خدّاع، أو رجال خدّاعون ينشطون في آخر الزمان من أجل إضلال الناس عن أصل التوحيد و الحق و العدالة، و سيقضي عليهم المهدي (عج) بقدرته العظيمة، و علی هذا فإنّ الحرب قائمة بين الحق و الباطل ما عاش الدجّالون علی وجه الأرض.

‏إنّ للإسلام نوعين من المحاربة مع الكفر: أحدهما الحروب المرحلية كالغزوات التي غزاها النّبي صلی اللّه عليه و آله و سلّم حيث كانت السيوف تغمد بعد انتهاء كل غزوة. و الآخر هو الحرب المستمرة ضد الشرك و الكفر، و الظلم و الفساد، و هذا النوع مستمر حتی زمن اتساع حكومة العدل العالمية، و ظهورها علی الأرض جميعا علی يد المهدي (عج).

‏ثمّ تضيف الآية: ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اللَّـهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ‌ [« ذلك» خبر لمبتدأ محذوف، و التقدير: الأمر كذلك.]٦ بالصواعق السماوية، و الزلازل، و العواصف، و الابتلاءات الأخری، لكن باب الاختبار و ميدانه سيغلق في هذه الصورة: وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ‌.

‏هذه المسألة هي فلسفة الحرب، و النكتة الأساسية في صراع الحق و الباطل، ففي هذه الحروب ستتميز صفوف المؤمنين الحقيقيين و العاملين من أجل دينهم عن المتكلمين في المجالس المتخاذلين في ساعة العسرة، و بذلك ستتفتح براعم الاستعدادات، و تحيا قوّة الاستقامة و الرجولة، و يتحقق الهدف الأصلي للحياة الدنيا، و هو الابتلاء و تنمية قوّة الإيمان و القيم الإنسانية الأخری.

‏إذا كان المؤمنون يتوقعون علی ذواتهم و ينشغلون بالحياة اليومية الرتيبة، و في كل مرة تطغی فيها جماعة من المشركين و الظالمين يدحضهم اللّه سبحانه بالقوی الغيبية، و يدمّرهم بالطرق الإعجازية، فإنّ المجتمع سيكون خاملا ضعيفا عاجزا، ليس له من الإسلام و الإيمان إلّا اسمه.

‏و خلاصة القول: إنّ اللّه سبحانه غني عن سعينا و جهادنا من أجل تثبيت دعائم دينه، بل نحن الذين نتربّی في ميدان جهاد الأعداء، و نحن الذين نحتاج إلی هذا الجهاد المقدّس.

‏و قد ذكر هذا المعنی في آيات القرآن الأخری بصيغ أخری، فنقرأ في الآية (١٤٢) من سورة آل عمران: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّـهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‌.

‏و جاء في الآية التي سبقتها: وَ لِيُمَحِّصَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ‌.

‏و تحدّثت آخر جملة من الآية مورد البحث عن الشهداء الذين قدّموا أرواحهم هدية لدينهم في هذه الحروب، و لهم فضل كبير علی المجتمع الإسلامي، فقالت:

‏وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ‌.

‏فلن تذهب جهودهم و آلامهم و تضحياتهم سدی، بل كلها محفوظة عند اللّه سبحانه، فستبقی آثار تضحياتهم في هذه الدنيا، و كلّ نداء (لا إله إلّا اللّه) يطرق سمع البشر يمثل ثمرة جهود أولئك الشهداء، و كلّ سجدة يسجدها مسلم بين يدي اللّه هي من بركات تضحياتهم، فبمساعيهم تحطّمت قيود المذلّة و العبودية، و عزّة المسلمين و رفعتهم رهينة ما بذلوه من الأرواح و التضحيات.

‏هذه هي أحدی مواهب اللّه في شأن الشهداء.

‏و هناك ثلاث مواهب أخری أضيفت في الآيات التالية:

‏تقول الآية أوّلا: سَيَهْدِيهِمْ‌ إلی المقامات السامية، و الفوز العظيم، و رضوان اللّه تعالی.

‏و الأخری: يُصْلِحُ بالَهُمْ‌ فيهبهم هدوء الروح، و اطمئنان الخاطر، و النشاط المعنوي و الروحي، و الانسجام مع صفاء ملائكة اللّه و معنوياتهم، حيث يجعلهم جلساءهم و ندماءهم في مجالس أنسهم و لذّتهم، و يدعوهم إلی ضيافته في جوار رحمته.

‏و الموهبة الأخيرة هي: وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ‌.

‏قال بعض المفسّرين: إنّه تعالی لم يبيّن لهم الصفات الكلية للجنّات العلی و روضة الرضوان و حسب، بل عرف لهم صفات قصورهم في الجنّة و علاماتها، بحيث أنّهم عند ما يردون الجنّة يتوجّهون إلی قصورهم مباشرة [مجمع البيان، المجلد ٩، صفحة ٩٨.٧.

‏و فسر البعض (عرّفها) بأنّها من مادة «عرف»- علی زنة فكر- و هو العطر الطيب الرائحة، أي إنّ اللّه سبحانه سيدخلهم الجنّة التي عطّرها جميعا استقبالا لضيوفه.

‏إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.

‏و قال البعض: إذا ضممنا هذه الآيات إلی آية: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْواتاً [آل عمران، الآية ١٦٩.]٨، سيتّضح أنّ المراد من إصلاح البال إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء [الميزان، المجلد ١٨، صفحة ٢٤٤.٩.

المصدر:  تفسير الأمثل

2024/10/08

في الحروب.. 6 أوامر قرآنية للمسلمين!

‏١- يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا أي أن إحدی علائم الإيمان هي ثبات القدم في جميع الأحوال، و خاصّة في مواجهة الأعداء.

‏٢- وَ اذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‌.

‏و لا ريب أنّ المراد من ذكر اللّه هنا ليس هو الذكر اللفظي فحسب، بل حضور القلب، و ذكر علمه تعالی و قدرته غير المحدودة و رحمته الواسعة، فهذا التوجه إلی اللّه يقوّي من عزيمة الجنود المجاهدين، و يشعر الجندي بأنّ سندا قويّا لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه يدعمه في ساحة القتال، و إذا قتل فسينال السعادة الكبری و يبلغ الشهادة العظمی، و جوار رحمة اللّه، فذكر اللّه يبعث علی الاطمئنان و القوّة و القدرة و الثبات في نفسه.

‏بالإضافة إلی ذلك، فذكر اللّه و حبّه يخرجان حبّ الزوجة و المال، و الأولاد من قلبه، فإنّ التوجه إلی اللّه يزيل من القلب كل ما يضعفه و يزلزله، كما

‏يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام في دعائه المعروف- في الصحيفة السجادية- بدعاء أهل الثغور: «و أنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة، و امح عن قلوبهم خطرات المال الفتون، و اجعل الجنّة نصب أعينهم».

‏٣- كما أنّ من أهم أسس المبارزة و المواجهة هو الالتفات للقيادة و إطاعة أوامر القائد و الآمر، الآمر الذي لولاه لما تحقق النصر في معركة بدر، لذلك فإنّ الآية بعدها تقول: وَ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَ رَسُولَهُ‌.

‏٤- وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا لأنّ النزاع و الفرقة امام الأعداء يؤدي إلی‌ الضعف و خور العزيمة، و نتيجة هذا الضعف و الفتور هي ذهاب هيبة المسلمين و قوتهم و عظمتهم‌ وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ‌.

‏«و الريح» في اللغة، هي الهواء. فالنزاع يولد الضعف و الوهن.

‏و أمّا ذهاب الريح، فهو إشارة لطيفة إلی زوال القوّة و العظمة، و عدم سير الأمور كما يرام، و عدم تحقق المقصود، لأنّ حركة الريح فيما يرام توصل السفن إلی مقاصدها، و لما كانت الريح في ذلك العصر أهم قوّة لتحريك السفن فقد كانت ذات أهمية قصوی يؤمئذ.

‏و حركة الرّيح في الرّوايات و البيارق تدل علی ارتفاع الرّاية التي هي رمز القدرة و الحكومة، و التعبير آنف الذكر كناية لطيفة عن هذا المعنی.

‏٥- ثمّ تأمر الآية بالاستقامة بوجه العدوّ، و في قبال الحوادث الصعبة، فتقول: وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‌.

‏و الفرق بين ثبات القدم في الأمر الأوّل، و الاستقامة و الصبر في الأمر الخامس، هو من جهة أن ثبات القدم يمثل الناحية الظاهرية، «الجسمية» أمّا الاستقامة و الصبر فليسا ظاهريين، بل هما أمران نفسيان و معنويان.

‏٦- و تدعو الآية الأخيرة- من الآيات محل البحث- المسلمين إلی اجتناب الأعمال الساذجة البلهاء، و رفع الأصوات الفارغة، و تشير إلی قضية أبي سفيان و أسلوب تفكيره هو و أصحابه، فتقول: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّـهِ‌.

‏فأهدافهم غير مقدسة، و كذلك أساليبهم في الوصول إليها، و لقد رأينا كيف أبيدوا و تلاشی كلّ ما جاءوا به من قوّة و عدّة، و سقط بعضهم مضرجا بدمائه في التراب، و أسبل الآخرون عليهم الدّموع و العبرات في مأتمهم، بدل أن يشربوا الخمر في حفل ابتهاجهم، و تختتم الآية بالقول: وَ اللَّـهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.

 

المصدر: تفسير الأمثل

2024/10/02

تحذير قرآني.. مخاطر التحالف مع "اليهود" و "النصارى"!

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصاری‌ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَی الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشی‌ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَی اللَّـهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلی‌ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّـهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣).

‏سبب النّزول‌

‏نقل الكثير من المفسّرين أنّ (عبادة بن صامت الخزرجي) قدم إلی النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم بعد غزوة بدر و ذكر له أن له حلفاء من اليهود ذوي عدة و عدد، و أكّد للنبي أنّه يريد البراءة من صداقتهم و من عهده معهم ما داموا يهددون المسلمين بالحرب، و قال بأنّه يريد أن يكون حليفا للّه و لنبيه دون سواهما، أمّا عبد اللّه بن أبي فرفض التنصل من عهده مع اليهود، و اعتذر بأنّه يخشی المشاكل و ادعی أنّه يحتاج إلی اليهود. و أظهر النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم خشيته علی عبادة و عبد اللّه من صداقة اليهود مشيرا إلی أنّ خطر صداقة اليهود علی عبد اللّه أكبر من خطرها علی عبادة بن صامت، فقال عبد اللّه بأنّه ما دام الأمر كذلك فإنّه سيتخلی عن صداقته و عهده مع اليهود، فنزلت الآيات الأخيرة و هي تحذر المسلمين من التحالف مع اليهود و النصاری.

التّفسير

‏لقد حذرت الآيات الثلاث الأخيرة المسلمين- بشدّة- من الدخول في أحلاف مع اليهود و النصاری، فالآية الاولی منها تمنع المسلمين من التحالف مع اليهود و النصاری أو الاعتماد عليهم (أي أنّ الإيمان باللّه يوجب عدم التحالف مع هؤلاء إن كان ذلك لأغراض و مصالح مادية) حيث تقول الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصاری‌ أَوْلِياءَ ....

‏و كلمة «أولياء» صيغة جمع من «ولي» و هي مشتقة من مصدر «الولاية» و هي بمعنی التقارب الوثيق بين شيئين، و قد وردت بمعنی «الصداقة» و «التحالف» و «الإشراف».

‏لكن بالنظر إلی سبب النّزول و القرائن الأخری الموجودة، فإنّ المراد ليس منع المسلمين من اقامة أي علاقات تجارية و اجتماعية مع اليهود و النصاری، بل المقصود هو منع المسلمين من التحالف مع هؤلاء أو الاعتماد عليهم في مواجهة الأعداء.

‏و كانت قضية التحالف رائجة في ذلك العصر بين العرب، و كان يطلق علی ذلك «الولاء».

‏و الملفت للنظر في هذه الآية أنّها لم تعتمد تسمية «أهل الكتاب» لدی تحدثها عن اتباع الديانتين السماويتين المعروفتين، بل استخدمت كلمتي «اليهود و النّصاری» و ربّما يكون هذا إشارة إلی أنّ اليهود و النصاری لو كانوا يعملون‌ بكتابيهم السماويين، لكان اتباع هذين الدينين خير حليفين للمسلمين، لكنّهم اتّحدوا معا- لا بأمر من كتابيهم- بل لأغراض سياسية و تكتلات عنصرية و أمثال ذلك.

‏بعد ذلك تبيّن الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة، و تقول بأن هاتين الطائفتين إنّما هما أصدقاء و حلفاء أشباههما من اليهود و النصاری حيث تقول:

‏بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ‌ أي أنّهما يهتمان بمصالحهما و مصالح أصدقائهما فقط، و لا يعيران اهتماما لمصالح المسلمين، و لذلك فإن أي مسلم يقيم صداقة أو حلفا مع هؤلاء فإنّه سيصبح من حيث التقسيم الاجتماعي و الديني جزءا منهم، حيث تؤكّد الآية في هذا المجال بقولها: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‌.

‏و بديهي أنّ اللّه لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة بحق أنفسهم و إخوانهم و أخواتهم المسلمين و المسلمات، و يعتمدون علی أعداء الإسلام تقول الآية: إِنَّ اللَّـهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‌.

‏و تشير الآية التّالية إلی الأعذار التي كان يتشبث بها أفراد ذوي نفوس مريضة لتبرير علاقاتهم اللاشرعية مع الغرباء، و اعتمادهم عليهم و تحالفهم معهم، مبررين ذلك بخوفهم من الوقوع في مشاكل إن أصبحت القدرة يوما في يد حلفائهم الغرباء، فتقول الآية: فَتَرَی الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشی‌ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ[إنّ كلمة( دائرة) مشتقة من المصدر( دور) أي الشي‌ء الذي يكون في حالة دوران، و بما أن القدرات المادية و الحكومات هي في حالة دوران دائم علی طول التّأريخ، لذلك يقال لها( دائرة) كما تطلق هذه الكلمة- أيضا- علی أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.]١.

‏و يذكر القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء ذوي النفوس المريضة ردا علی تعللهم في التخلي عن حلفهم مع الغرباء، فيبيّن لهم أنّهم حين يحتملون أن يمسك اليهود و النصاری يوما بزمام القدرة و السلطة يجب أن يحتملوا- أيضا- أن ينصر اللّه‌ المسلمين فتقع القدرة بأيديهم، حيث يندم هؤلاء علی ما أضمروه في أنفسهم، كما تقول الآية: فَعَسَی اللَّـهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلی‌ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ‌.

‏و يشتمل هذا الجواب القرآني- في الحقيقة علی جانبين:

‏أوّلهما: أنّ أفكارا كهذه إنما تخرج من قلوب مريضة لأفراد تزلزل ايمانهم و أصبحوا يسيئون الظن باللّه، و لو لم يكونوا كذلك لما سمحوا لهذه الأفكار بأن تداخل نفوسهم.

‏أمّا الجانب الثّاني في هذا الجواب فهو مواجهتهم بنفس الحجة التي أوردوها لتعللهم ذلك، إذ أنّ احتمالهم لوقوع السلطة بيد اليهود و النصاری يقابله- بالضرورة- احتمال آخر و هو انتصار المسلمين و استلامهم لمقاليد الأمور، و بهذا لا يكون هناك أي مجال لتشبث هؤلاء بحلفهم مع أولئك أو الاعتماد عليهم.

‏و علی أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة (عسی) التي لها مفهوم الاحتمال و الأمل، تبقی في هذه الآية محتفظة بمعناها الأصلي لكن بعض المفسّرين قالوا بأنّها تعني هنا الوعد الجازم من قبل اللّه للمسلمين، و هذا ما لا يتلائم و ظاهر كلمة (عسی) البتة.

‏أمّا المراد من جملة أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‌ التي جاءت بعد كلمة (الفتح) في هذه الآية فيحتمل أنّها تعني أنّ المسلمين- في المستقبل- إمّا أن يتغلبوا و ينتصروا علی أعدائهم عن طريق الحرب أو بدونها كأن تتوسع قدرتهم إلی درجة يضطر بعدها الأعداء إلی الخضوع و الاستسلام للمسلمين دون الحاجة إلی الدخول في حرب.

‏و بتعبير آخر: كلمة (الفتح) تشير إلی الإنتصار العسكري للمسلمين، و أنّ جملة أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‌ إشارة إلی الانتصارات الاجتماعية و الاقتصادية و ما شابه ذلك. إنّ بيان هذا الاحتمال من قبل اللّه سبحانه و تعالی، مع كونه- عزّ و جلّ- عالما بجميع ما سيحصل في المستقبل، يدل علی أنّ الآية تشير إلی الانتصارات العسكرية و الاجتماعية و الاقتصادية التي سيحرمها المسلمون في المستقبل.

‏و تشير الآية في الختام إلی مصير عمل المنافقين، و تبيّن أنّه حين يتحقق الفتح للمسلمين المؤمنين و تنكشف حقيقة عمل المنافقين يقول المؤمنون- بدهشة-: هل أنّ هؤلاء المنافقين هم أولئك الذين كانوا يتشدقون بتلك الدعاوی و يجلفون بالايمان المغلظة بأنّهم معنا، فكيف وصل الأمر بهم إلی هذا الحدّ؟ حيث تقول الآية: وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّـهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ..[في هذه الآية تكون كلمة« هؤلاء» مبتدأ و خبرها جملة« الذين أقسموا باللّه» أمّا جملة« جهد إيمانهم» فهي مفعول مطلق.]٢.

‏إنّ هؤلاء لنفاقهم هذا ذهبت أعمالهم أدراج الرياح، لأنّها لم تكن نابعة من نيّة خالصة صادقة، و لهذا فقد أصبحوا من الخاسرين- سواء في هذه الدنيا أو الآخرة معا- حيث تؤكّد الآية هذا الأمر بقولها: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ‌.

‏و الجملة الأخيرة تشبه- في الحقيقة- جوابا لسؤال مقدر، و كأن شخصا يسأل: ماذا سيكون مصير هؤلاء؟

‏فيجاب بأنّ أعمالهم أدراج الرياح، و ستطوقهم الخسارة من كل جانب، أي أنّ هؤلاء- حتی لو كانت لهم أعمال صدرت عنهم بإخلاص و نية صادقة- فهم لا يحصلون علی أي نتيجة حسنة من تلك الأعمال الصالحة لانحرافهم صوب النفاق و الشّرك بعد ذلك: و قد شرحنا هذا الأمر في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا عند تفسير الآية (٢١٧) من سورة البقرة.

الاعتماد علی الغرباء:

‏علی الرّغم من أنّ الواقعة- التي ذكرت سببا لنزول الآيات الأخيرة- تحدثت عن شخصين هما «عبادة بن الصامت» و «عبد اللّه بن أبي» إلّا أنّ ممّا لا شك فيه أنّ هذين الشخصين لا يشار إليهما باعتبارهما شخصيتين تاريختين- فحسب- بل لأنّهما يمثلان مذهبين فكريين و اجتماعيين. يدعو أحدهما إلی التخلي عن التعاون و التحالف مع الغرباء، و عدم تسليم زمام المسلمين بأيديهم، و عدم الثقة بتعاونهم.

‏و المذهب الآخر يری أنّ كل انسان أو شعب في هذه الدنيا المليئة بالمشاكل و الأهوال يحتاج إلی من يتكئ و يعتمد عليه، و أن الحاجة تدعو أحيانا إلی انتخاب الدّعم و السند من بين الغرباء بحجة أن الصداقة معهم لا تخلو من قيمة و فائدة، و لا بدّ أن تظهر ثمارها في يوم من الأيّام.

‏و قد دحض القرآن الكريم رأي المذهب الثّاني بشدّة، و حذر المسلمين بصراحة من مغبة الوقوع و التورط في نتائج مثل هذا النوع من التفكير، لكن البعض من المسلمين- و مع الأسف- قد نسوا و تجاهلوا هذا الأمر القرآني العظيم، فانتخبوا من بين الغرباء و الأجانب من يعتمدون عليهم، و قد أثبت التّأريخ أن كثيرا من النكبات التي أصابت المسلمين تنبع من هذا الاتجاه الخاطئ! و بلاد الأندلس تعتبر دليلا حيّا و بارزا علی هذا الأمر، و تظهر كيف أن المسلمين بالاعتماد علی قواهم الذاتية- استطاعوا أن يبنوا أكثر الحضارات ازدهارا في الأندلس- أسبانيا اليوم- لكنّهم نتيجة لاعتمادهم علی قوی غريبة أجنبية فقدوا تلك المكتسبات العظيمة بكل سهولة.

‏و الإمبراطورية العثمانية التي سرعان ما ذابت كذوبان الجليد في الصيف، تعتبر دليلا آخر علی هذه الدعوی.

‏كما أنّ التّأريخ المعاصر يشهد علی ما أصاب المسلمين من خسائر و مصائب‌ كبيرة بسبب انحرافهم عن رسالتهم و اعتمادهم في كثير من الأمور علی الأجانب الغرباء، و العجب كل العجب من أن هذا السبات ما زال يلف العالم الإسلامي، و لم توقظه بعد الكوارث و النكبات التي أصابته بسبب اعتماده علی القوی الأجنبية.

‏علی أي حال فإن الأجنبي أجنبي، و مهما اشترك معنا في المصالح و تعاون معنا في مجالات محدودة فهو في النهاية يعتزل عنّا في اللحظات الحساسة، و كثيرا ما تنالنا منه- أيضا- ضربات مؤثرة.

‏و ما علی المسلمين اليوم إلّا أن ينتبهوا أكثر من أي وقت مضی إلی هذا النداء القرآني و لا يعتمدوا علی أحد سوی اللّه و قواهم الذاتية التي وهبها اللّه لهم.

‏لقد اهتمّ نبيّ الإسلام صلّی اللّه عليه و آله و سلّم كثيرا بهذا الأمر، حتی أنّه رفض مساعدة اليهود في واقعة «أحد» حين أعلن ثلاثمائة منهم استعدادهم للوقوف بجانب المسلمين ضد المشركين، فأعادهم النّبي إلی حيث كانوا و لما يصلوا إلی منتصف الطريق، و امتنع عن قبول عرضهم في حين أن مثل هذا العدد من الناس كان يمكن له أن يلعب دورا مؤثرا في واقعة أحد، فلما ذا رفضهم النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم؟

‏لقد رفضهم لأنّه لم يستبعد منهم أن يخذلوه و يخذلوا المسلمين في أحرج اللحظات و أكثرها خطورة أثناء الحرب، و يتحولوا إلی التعاون مع العدوّ و يقضوا علی ما تبقی من جيش المسلمين في ذلك الوقت.

الهوامش:

‏١ إنّ كلمة( دائرة) مشتقة من المصدر( دور) أي الشي‌ء الذي يكون في حالة دوران، و بما أن القدرات المادية و الحكومات هي في حالة دوران دائم علی طول التّأريخ، لذلك يقال لها( دائرة) كما تطلق هذه الكلمة- أيضا- علی أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.

‏٢ في هذه الآية تكون كلمة« هؤلاء» مبتدأ و خبرها جملة« الذين أقسموا باللّه» أمّا جملة« جهد إيمانهم» فهي مفعول مطلق.

2024/10/02

متى يأتي نصر الله؟!

‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّی يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ (٢١٤)

‏سبب النّزول‌

‏قال بعض المفسّرين: إنّ الآية نزلت عند ما حوصر المسلمون و اشتدّ الخوف و الفزع بهم في غزوة الأحزاب، فجاءت الآية لتثبّت علی قلوبهم و تعدهم بالنصر.

‏و قيل: إنّ عبد اللّه بن أبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلی متی تتعرّضون للقتل و لو كان محمّد نبيّا لما واجهتم الأسر و التقتيل، فنزلت الآية

[مجمع البيان، ج ١، ص ٣٠٨.]

١.

‏التّفسير

‏الصعاب و المشاقّ سنّة إلهية:

‏يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت تری أنّ إظهار الإيمان باللّه وحده كاف لدخولهم الجنّة، و لذلك لم يوطنوا أنفسهم علی تحمّل الصعاب‌ و المشاقّ ظانّين أنه سبحانه هو الكفيل بإصلاح أمورهم و دفع شرّ الأعداء عنهم.

‏الآية تردّ علی هذا الفهم الخاطئ و تشير إلی سنّة إلهية دائمة في الحياة، هي أنّ المؤمنين ينبغي أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة المشاقّ و التحدّيات علی طريق الإيمان ليكون ذلك اختبارا لصدق إيمانهم، و مثل هذا الاختبار قانون عامّ سری علی كلّ الأمم السابقة.

‏و يتحدّث القرآن الكريم عن بني إسرائيل- مثلا- و ما واجهوه من مصاعب بعد خروجهم من مصر و نجاتهم من التسلّط الفرعوني، خاصّة حين حوصروا بين البحر و جيش فرعون، فقد مرّوا بلحظات عصيبة فقد فيها بعضهم نفسه، لكن لطف اللّه شملهم في تلك اللحظات و نصرهم علی أعدائهم.

‏و هذا الذي عرضه القرآن عن بني إسرائيل عامّ لكلّ‌ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ‌ و هو سنّة إلهيّة تستهدف تكامل الجماعة المؤمنة و تربيتها. فكلّ الأمم ينبغي أن تمرّ في أفران الأحداث القاسية لتخلص من الشوائب كما يخلص الحديد في الفرن ليتحوّل إلی فولاذ أكثر مقاومة و أصلب عودا. ثمّ ليتبيّن من خلال هذا الاختبار من هو اللائق، و ليسقط غير اللائق و يخرج من الساحة الاجتماعية.

‏المسألة الأخری التي ينبغي التأكيد عليها في تفسير هذه الآية: أنّ الجماعة المؤمنة و علی رأسها النبيّ صلی اللّه عليه و آله و سلّم ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول‌ مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ‌؟!، و واضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا علی المشيئة الإلهية، بل هو نوع من الطلب و الدعاء.

‏فتقول الآية أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ ....

‏و بما أنّهم كانوا في غاية الاستقامة و الصبر مقابل تلك الحوادث و المصائب، و كانوا في غاية التوكّل و تفويض الأمر إلی اللّطف الإلهي، فلذلك تعقّب الآية أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ‌.

‏(بأساء) من مادّة (بأس) و كما يقول صاحب معجم مقاييس اللّغة أنّها في‌ الأصل تعني الشّدة و أمثالها، و تطلق علی كلّ نوع من العذاب و المشّقة، و يطلق علی الأشخاص الشّجعان الّذين يخوضون الحرب بضراوه و شدّة (بأيس) أو (ذو البأس).

‏و كلمة (ضرّاء) كما يقول الرّاغب في مفرداته هي النقطة المقابلة للسرّاء، و هي ما يسرّ الإنسان و يجلب له النفع، فعلی هذا الأساس تعني كلمة ضرّاء كلّ ضرر يصيب الإنسان، سواء في المال أو العرض أو النفس و أمثال ذلك.

‏جملة مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ‌ قيلت من قبل النبي و المؤمنين حينما كانوا في منتهی الشّدة و المحنة، و واضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا علی المشيئة الإلهيّة، بل هو نوع من الطلّب و الدعاء، و لذلك تبعته البشارة بالإمداد الإلهي.

‏و ما ذكره بعض المفسرين من احتمال أن تكون جملة (متی نصر اللّه) قيلت من طرف جماعة من المؤمنين، و جملة (ألا إنّ نصر اللّه قريب) قيلت من قبل النبي صلی اللّه عليه و آله و سلّم بعيد جدّا.

‏و علی ايّة حال، فإنّ الآية أعلاه تحكي أحد السنن الالهيّة في الأقوام البشريّة جميعا، و تنذر المؤمنين في جميع الأزمنة و الأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النّصر و التوفيق و المواهب الاخرويّة أن يتقبّلوا الصّعوبات و المشاكل و يبذلوا التضحيات في هذا السبيل، و في الحقيقة إنّ هذه المشاكل و الصّعوبات ما هي إلّا إمتحان و تربية للمؤمنين و لتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.

‏و عبارة الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ‌ تقول للمسلمين: أنّكم لستم الوحيدين في هذا الطريق الّذين ابتليتم بالمصائب من قبل الأعداء، بل أنّ الأقوام السّالفة ابتلوا أيضا بهذه الشدائد و المصائب إلی درجة أنّهم مسّتهم البأساء و الضرّاء حتّی استغاثوا منها.

‏و أساسا فإنّ رمز التكامل للبشريّة أن يحاط الأفراد و المجتمعات في دائرة البلاء و الشّدائد حتّی يكونوا كالفولاد الخالص و تتفتّح قابليّاتهم الداخليّة و ملكاتهم النفسانيّة و يشتد إيمانهم باللّه تعالی، و يتميّز كذلك المؤمنون و الصّابرون‌ عن الأشخاص الانتهازيّين، و نختتم هذا الكلام بالحديث النبوي الشريف:

‏يقول (الخبّاب ابن الأرت) الّذي كان من المجاهدين في صدر الإسلام: قال قلنا يا رسول اللّه ألا تستنصر لنا ألا تدعو اللّه لنا.

‏فقال صلی اللّه عليه و آله و سلّم: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار علی مفرق رأسه فيخلص إلی قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه و يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه و عظمه لا يصرفه ذلك عن دينه؛ ثمّ قال: و اللّه ليتمن هذا الأمر حتّی يسير الراكب من صنعاء إلی حضرموت لا يخاف إلّا اللّه و الذئب علی غنمه و كلّكم يستعجلون».

••••••••••••••••

الهوامش:

[الدر المنثور: ج ١ ص ٢٤٣، تفسير الكبير: ج ٦ ص ٢٠.]

٢.

‏١ مجمع البيان، ج ١، ص ٣٠٨.

‏٢ الدر المنثور: ج ١ ص ٢٤٣، تفسير الكبير: ج ٦ ص ٢٠.

2024/10/01

هل يعاقب البريء بجريرة المذنب؟

شاع بين الناس المثل القائل: "الشر يعم والخير يخص" بل خرج من حدود النظرية الى التطبيق الفعلي فقد ترى المسؤول يعاقب من تحت مسؤوليته عقاباً جماعياً بسبب تصرفات آحادهم، ظناً منه أن في ذلك مصلحة، ويبرر تصرفه بهذه المقولة: "الشر يعم والخير يخص".

[اشترك]

لكن إذا عرضنا المثل على ميزان الشريعة، نجدها صريحة في مناقضته، أما اختصاص الشر بفاعله وعدم تعديته لغيره، فالنصوص فيه كثيرة، كقوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، فصلت: 46. وقوله تعالى ايضاً: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، الأنعام: 164. فلا يجازى على السيئة من لا علاقة له بها، فيختص الشر بفاعله.

وأما تعميم الخير، وأن أثره لا يختص بفاعله فأيضاً كثيرة، كالنصوص عند الفريقين في أن عمل البعض يسقط العقوبة الدنيوية عن الباقين، ففي الكافي الشريف باب «إن الله يدفع بالعامل عن غير العامل»: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ولو أجمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج من شيعتنا ولو أجمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله عز وجل: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) فوالله ما نزلت إلا فيكم ولا عنى بها غيركم».

ويعلق الشيخ محمد صالح المازندراني على الحديث شارحاً:

قوله: (قال: إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ولو أجمعوا على ترك الصلاة لهلكوا - إلى آخره) المراد بالهلاك الهلاك الدنيوي وهو الاستيصال فيدل على أن وجود الصلحاء سبب لبقاء الأشقياء ولعل الدفع والهلاك غير مختصين بفعل الواجبات المذكورة وتركها مع احتماله ولعل المراد بقوله (عليه السلام): «فو الله ما نزلت إلا فيكم» أن تنزيلها فيكم وأنكم مقصودون أولا وبالذات فلا ينافي شمول تأويلها للغير. شرح أصول الكافي ج10، ص200.

فوفق هذا الحديث يكون الخير الصادر من البعض شافعاً لسقوط العقوبة الدنيوية ـ لا الأخروية ـ عن البعض الآخر، فيعم الخير.

فإن قلت: كذلك يوجد من النصوص ما يؤيد المثل المذكور، كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، الأنفال: 25.

أجبناك: بأن في الآية الكريمة قرائتين، الأولى بجعل اللام في (لتصيبن) للقسم، وهي قراءة الإمامين السجاد والباقر عليهما السلام، وكذا قراءة زيد بن ثابت والربيع بن انس وأبو العالية على ما في تفسير مجمع البيان، فيكون المعنى واتقوا فتنة أقسم أنها لا تصيب إلا الذين ظلموا منكم. فتكون العقوبة خاصة لا عامة.

وعلى القراءة الثانية تكون الـ(لا) ناهية، بمعنى أن الفتنة والعقاب لا يختص بالظالمين، وهنا قد يُتوهم الإشكال، إلا أننا إذا عرفنا بأنها نزلت فيمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصار الجميع عاصين، وبالتالي استحق الجميع العقاب إنحل الإشكال.

وبعبارة أخرى: إن جماعة ارتكبت المعاصي، ولم يقم الاخرون ممن لم يرتكبوا بنهيهم عن المنكر صار المجموع عاصين، الطائفة الأولى لارتكابهم المعصية، والطائفة الثانية لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فشمول العقوبة لهم من باب أنهم تركوا واجباً وعصوا أمراً، لا من باب تعدية عقوبة فعل من فرد لآخر.

والخلاصة أن مقتضى العدل تخصيص العقاب بالمستحق، وعدم تحميل الآخر وزره، ومقتضى الرحمة تعميم الخير وشمول حتى غير المستحقين، على خلاف المثل السائر، فرب مشهور لا أصل له، بل لعله يخالف الأصول الدينية التي بُنيت عليها الشريعة السمحة.

2024/09/30

هل كان النّبي أميّا؟
‏هناك احتمالات ثلاثة معروفة حول مفهوم «الأمّي» كما قلنا سابقا: ‏أوّلها: أن معناه: الذي لم يدرس. الثّاني: أنّ معناه: المولود في أرض مكّة، و الناهض منها.

[اشترك]

‏الثّالث: أنّ معناه الذي قام من بين صفوف الجماهير.

‏و لكن الرأي الأشهر هو التّفسير الأوّل، و هو أكثر انسجاما مع موارد استعمال هذه اللفظة، و يمكن أن تكون المعاني الثلاثة مرادة برمتها أيضا، كما قلنا.

‏ثمّ إنّه لا نقاش بين المؤرخين بأنّ الرّسول الأكرم صلّی اللّه عليه و آله و سلّم لم يدرس، و لم يكتب شيئا، و قد قال القرآن الكريم- أيضا- في الآية (٤٨) من سورة العنكبوت حول وضع النّبي قبل البعثة: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ‌.

‏و أساسا كان عدد العارفين بالكتابة و القراءة في المحيط الحجازي قليلا جدّا، حيث كان الجهل هو الحالة السائدة علی الناس بحيث أن هؤلاء العارفين بالكتابة و القراءة كانوا معروفين بأعيانهم و أشخاصهم، فقد كان عددهم في مكّة من الرجال لا يتجاوز (١٧) شخصا، و من النساء امرأة واحدة

[فتوح البلدان، للبلاذري، ط مصر، الصفحة ٤٥٩.]

٢.

‏من المسلّم أن النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم لو كان قد تعلّم القراءة و الكتابة- في مثل هذه البيئة- لدی أستاذ لشاع ذلك و صار أمرا معروفا للجميع، و علی فرض أنّنا لم نقبل بنبوته، و لكن كيف يمكنه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم أن ينفي- في كتابه- بصراحة هذا الموضوع؟ ألا يعترض عليه الناس و يقولون: إن دراستك و تعلّمك للقراءة و الكتابة أمر مسلّم معروف لنا، فكيف تنفي ذلك؟

‏إنّ هذه قرينة واضحة علی أميّة النّبي.

‏و علی كل حال، فإنّ وجود هذه الصفة في النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم كان تأكيدا علی نبوته حتی ينتفي أي احتمال في ارتباطه إلّا باللّه و بعالم ما وراء الطبيعة في صعيد دعوته. هذا بالنسبة إلی فترة ما قبل النّبوة، و أمّا بعد البعثة فلم ينقل أحد المورّخين أنّه تلقی القراءة أو الكتابة من أحد، و علی هذا بقي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم علی أميّته حتی نهاية عمره.

‏و لكن من الخطأ الكبير أن تتصوّر أنّ عدم التعلّم عند أحد يعني عدم المعرفة بالكتابة و القراءة، و الذين فسّروا «الأمّية» بعدم المعرفة بالكتابة و القراءة كأنّهم لم يلتفتوا إلی هذا التفاوت.

‏و لا مانع أبدا من أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم كان عارفا بالقراءة و الكتابة بتعليم اللّه، و من دون أن يتتلمذ علی يد أحد من البشر، لأنّ مثل هذه المعرفة هي بلا شك من الكمالات الإنسانية، و مكملة لمقام النّبوة.

‏و يشهد بذلك ما ورد في الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السّلام‌

[تفسير البرهان المجلد الخامس، الصفحة ٣٧٣ ذيل آيات سورة الجمعة.]

٣ أن نص الرواية و لكنّه لأجل أن لا يبقی أي مجال لأدنی تشكيك في دعوته لم يكن صلّی اللّه عليه و آله و سلّم يستفيد من هذه المقدرة.

‏و قول البعض: إنّ القدرة علی الكتابة و القراءة لا تعدّ كمالا، فهما وسيلة للوصول إلی الكمالات العلميّة، و ليسا بحدّ ذاتها علما حقيقيا و لا كمالا واقعيا فإن جوابه كامن في نفسه، لأنّ العلم بطريق الكمال كمال أيضا.

‏قد يقال: إنّه نفي في روايتين عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام بصراحة تفسير «الأمّي» بعدم القراءة و الكتابة، بل بالمنسوب إلی «أم القری» (مكّة).

‏و نقول في الردّ: إنّ إحدی هاتين الروايتين «مرفوعة» حسب اصطلاح علم الحديث فلا قيمة لها من حيث السند، و الرواية الأخری منقولة عن «جعفر بن محمّد الصوفي» و هو مجهول. و أمّا ما تصوّره البعض من أن الآية الثّانية من سورة الجمعة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ و آيات أخری دليل علی أن النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم كان يتلو القرآن علی الناس من شي‌ء مكتوب، فهو خطأ بالغ، لأنّ التلاوة تطلق علی التلاوة من مكتوب علی شي‌ء، كما تطلق علی القراءة حفظا و من ظهر القلب، و استعمال لفظة التلاوة في حق الذين يقرءون الأشعار أو الأدعية حفظا و من علی ظهر القلب كثير.

‏من مجموع ما قلناه نستنتج:

‏١- أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم لم يتلق القراءة و الكتابة من أحد حتما، و بهذا تكون إحدی صفاته أنّه لم يدرس عند أستاذ.

‏٢- أنّنا لا نملك أي دليل معتبر علی أن النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم قرأ أو كتب شيئا قبل النبوة، أو بعدها.

‏٣- إنّ هذا الموضوع لا يتنافی مع تعليم اللّه تعالی القراءة أو الكتابة لنبيّه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم.

المصدر: تفسير الأمثل
2024/09/01

تبرّج الجاهلية.. القرآن الكريم يخاطب النساء!
‏فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‌ بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ و بأسلوب عاديّ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ الملي‌ء بالعبارات المحرّكة للشهوة، و التي قد تقترن بترخيم الصوت و أداء بعض الحركات المهيّجة، أن يدفعن ذوي الشهوات إلی الفساد و ارتكاب المعاصي.

‏يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولی‌ وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّـهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلی‌ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّـهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّـهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) - سورة الأحزاب.

[اشترك]

‏التّفسير

‏هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!

‏كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي و مسئولياتهنّ الخطيرة، و يستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات، و تأمر الآيات نساء النّبي صلّی اللّه عليه و آله بسبعة أوامر مهمّة.

‏فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة: يا- نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ‌ اتَّقَيْتُنَ‌ فإنّ انتسابكنّ إلی النّبي من جانب، و وجودكنّ في منزل الوحي و سماع آيات القرآن و تعليمات الإسلام من جانب آخر، قد منحكن موقعا خاصّا بحيث تقدرن علی أن تكن نموذجا و قدوة لكلّ النساء، سواء كان ذلك في مسير التقوی أم مسير المعصية، و بناء علی هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ، و لا تنسين مسئولياتكنّ الملقاة علی عاتقكنّ، و اعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند اللّه المقام المحمود.

‏و بعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات و تحمّلها، فإنّه تعالی أصدر أوّل أمر في مجال العفّة، و يؤكّد علی مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاخری في هذا المجال تلقائيا، فيقول:

‏فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‌ بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ و بأسلوب عاديّ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ الملي‌ء بالعبارات المحرّكة للشهوة، و التي قد تقترن بترخيم الصوت و أداء بعض الحركات المهيّجة، أن يدفعن ذوي الشهوات إلی الفساد و ارتكاب المعاصي.

‏إنّ التعبير ب الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‌ تعبير بليغ جدّا، و مؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عند ما تكون في حدود الاعتدال و المشروعية فهي عين السلامة، أمّا عند ما تتعدّی هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضا قد يصل إلی حدّ الجنون، و الذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي، و قد فصّل العلماء اليوم أنواعا و أقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة، و الخضوع للمفاسد الجنسية و البيئات المنحطّة الملوّثة.

‏و يبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقول عزّ و جلّ: يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق و مرضي للّه و رسوله، و مقترنا مع الحقّ و العدل: وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً.

‏إنّ جملة فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ‌ إشارة إلی طريقة التحدّث، و جملة: وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً إشارة إلی محتوی الحديث.

‏«القول المعروف» له معنی واسع يتضمّن كلّ ما قيل، إضافة إلی أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه و لا هدف من ورائه، و كذلك ينفي المعصية و كلّ ما خالف الحقّ.

‏ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولی لئلّا يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا و بعيدا عن الأدب الإسلامي، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ، و في الوقت نفسه يكون خاليا من كلّ صفة مهيّجة.

‏ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة، فيقول: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولی‌.

‏«قرن» من مادّة الوقار، أي الثقل، و هو كناية عن التزام البيوت. و احتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار)، و هي لا تختلف عن المعنی الأوّل كثيرا[طبعا يكون فعل الأمر( أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار، و حذفت الراء الاولی للتخفيف، و انتقلت فتحة الراء إلی القاف، و مع وجودها لا نحتاج إلی الهمزة، و تصبح( قرن)- تأمّلوا جيّدا-]١.

‏و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس، و هو مأخوذ من مادّة (برج)، حيث يبدو و يظهر لأنظار الجميع.

‏لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟

‏الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبي صلّی اللّه عليه و آله، و لم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ، و كنّ يلقين أطراف خمرهن علی ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ و جزء من صدورهنّ و أقراطهنّ و قد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.

‏و لا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ، و التركيز علی نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ، تماما كما نقول لعالم: أنت عالم فلا تكذب، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز و مباح‌ للآخرين، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.

‏إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اخری ستأتي كالجاهلية الاولی التي ذكرها القرآن، و نحن نری اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي، إلّا أنّ المفسّرين القدامی لم يتنبّؤوا و يعلموا بمثل هذا الأمر، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة، و لذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاولی هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح»، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن، و فسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية! و لكن لا حاجة إلی هذه الكلمات كما قلنا، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاولی هي الجاهلية قبل الإسلام، و التي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم- في الآية (١٤٣) من سورة آل عمران، و الآية (٥٠) من سورة المائدة، و الآية (٢٦) من سورة الفتح- و الجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد، كجاهلية عصرنا. و سنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.

‏و أخير يصدر الأمر الرابع و الخامس و السادس، فيقول سبحانه: وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّـهَ وَ رَسُولَهُ‌.

‏إذا كانت الآية قد أكّدت علی الصلاة و الزكاة من بين العبادات، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الاتّصال و الارتباط بالخالق عزّ و جلّ، و تعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق اللّه، و هي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. و أمّا جملة: أَطِعْنَ اللَّـهَ وَ رَسُولَهُ‌ فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.

‏إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلی أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي، بل هي للجميع، و إن أكّدت عليهنّ.

‏و يضيف اللّه سبحانه في نهاية الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.

‏إنّ التعبير ب (إنّما) و الذي يدلّ علی الحصر عادة- دليل علی أنّ هذه المنقبة خاصّة بأهل بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله. و جملة (يريد) إشارة إلی إرادة اللّه التكوينية، و إلّا فإنّ الإرادة التشريعية- و بتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم- لا تنحصر بأهل بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب و معصية.

‏من الممكن أن يقال: إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا، إلّا أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء و الأئمّة معصومين، و يمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم، و لهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل اللّه سبحانه، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس.

‏و بتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية و أعمالهم الطاهرة، لا يقدمون علی المعصية مع امتلاكهم القدرة و الإختيار في إتيانها، تماما كما لا نری عاقلا يرفع جمرة من النار و يضعها في فمّه، مع أنّه غير مجبر و لا مكره علی الامتناع عن هذا العمل، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات و الاطلاع، و المبادئ الفطرية و الطبيعية، من دون أن يكون في الأمر جبر و إكراه.

‏و لفظة «الرجس» تعني الشي‌ء القذر، سواء كان نجسا و قذرا من ناحية طبع الإنسان، أو بحكم العقل أو الشرع، أو جميعها[ذكر الراغب في مفرداته، في مادّة( رجس) المعنی المذكور أعلاه، و أربعة أنواع كمصاديق له.]٢. و ما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل و الحسد، أو الإعتقاد بالباطل، و أمثال ذلك، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، و إلّا فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ و شامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف و اللام) التي وردت هنا، و التي تسمّی بألف و لام الجنس.

‏و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس، هو تأكيد علی مسألة إذهاب الرجس‌ و نفي السيّئات، و يعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر علی هذا المعنی.

‏و أمّا تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ‌ فإنّه إشارة إلی أهل بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله باتّفاق علماء الإسلام و المفسّرين، و هو الشي‌ء الذي يفهم من ظاهر الآية، لأنّ البيت و إن ذكر هنا بصيغة مطلقة، إلّا أنّ المراد منه بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله بقرينة الآيات السابقة و اللاحقة[ما ذكره البعض من أنّ« البيت» هنا إشارة الی بيت اللّه الحرام، و أهله هم« المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات.]٣.

‏إلّا أنّ هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟

‏اعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختصّ بنساء النّبي، لأنّ الآيات السابقة و اللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله، فاعتبروا ذلك قرينة علی مدّعاهم.

‏غير أنّ الانتباه إلی مسألة في الآية ينفي هذا الادّعاء، و هي: أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة و اللاحقة، جاءت بصيغة ضمير النسوة، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر، و هذا يوحي بأنّ هناك معنی آخر هو المراد، و لذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع و اعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله رجالا و نساء.

‏و من جهة اخری فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله، و تقول: إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط، و هم: محمّد صلّی اللّه عليه و آله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و مع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة علی تفسير الآية، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.

‏و السؤال الوحيد الذي يبقی هنا هو: كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي و لا يشملهنّ هذا المطلب؟ و قد أجاب المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاولی التي نری فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها و تتحدّث عن مواضيع مختلفة، فإنّ القرآن ملي‌ء بمثل هذه البحوث، و كذلك توجد شواهد كثيرة علی هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب و أشعارهم.

‏و أضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخّصه: لا دليل لدينا علی أنّ جملة: إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ... قد نزلت مع هذه الآيات، بل يستفاد جيّدا من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة، و قد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدی جمعه آيات القرآن في عصر النّبي صلّی اللّه عليه و آله أو بعده.

‏و الجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو: أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي: إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون، و الذي يعيش في ظلّ العصمة و منزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين، و لا تنسين أنّ انتسابكنّ إلی بيت فيه خمسة معصومين يلقي علی عاتقكنّ مسئوليات ثقيلة، و ينتظر منه اللّه و عباده انتظارات كثيرة.

‏و سنبحث في الملاحظات القادمة- إن شاء اللّه تعالی- روايات السنّة و الشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.

‏و بيّنت الآية الأخيرة- من الآيات مورد البحث- سابع وظيفة و آخرها من وظائف نساء النّبي، و نبّهتهن علی ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام و العلم بها و بأبعادها، فتقول: وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلی‌ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّـهِ وَ الْحِكْمَةِ.

‏فإنكنّ في مهبط الوحي، و في مركز نور القرآن، فحتّی إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات علی أن تستفدن جيّدا من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ، و من تعليمات الإسلام و حديث النّبي صلّی اللّه عليه و آله الذي كان يتحدّث به، فإنّ كل نفس من أنفاسه درس، و كلّ لفظ من كلامه برنامج حياة! و فيما هو الفرق بين «آيات اللّه» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين: إنّ كليهما إشارة إلی القرآن، غاية ما في الأمر أنّ التعبير ب (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن، و التعبير ب (الحكمة) يتحدّث عن المحتوی العميق و العلم المخفي فيه.

‏و قال البعض الآخر: إنّ «آيات اللّه» إشارة إلی آيات القرآن، و «الحكمة» إشارة إلی سنّة النّبي صلّی اللّه عليه و آله مواعظه و إرشاداته الحكيمة.

‏و مع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام و ألفاظ الآية، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات اللّه أكثر، إضافة إلی أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات و الحكمة، كالآية (٢٣١) من سورة البقرة: وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ و يشبهه ما جاء في الآية (١١٣) من سورة النساء.

‏و أخيرا تقول الآية: إِنَّ اللَّـهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً و هي إشارة إلی أنّه سبحانه مطّلع علی أدقّ الأعمال و أخفاها، و يعلم نيّاتكم تماما، و هو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

‏هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع علی الدقائق و الخفيات، و أمّا إذا فسّر بصاحب اللطف، فهو إشارة إلی أنّ اللّه سبحانه لطيف و رحيم بكنّ يا نساء النّبي، و هو خبير بأعمالكنّ أيضا.

‏و يحتمل أيضا أن يكون التأكيد علی «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن، و علی «الخبير» باعتبار محتواه الحكمي. و في الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني و يمكن جمعها.

‏بحوث‌

‏١- آية التطهير برهان واضح علی العصمة:

‏اعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلی الشرك أو الكبائر- كالزنا- فقط، في حين لا يوجد دليل علی هذا التحديد، بل إنّ إطلاق‌ الرجس- و خاصّة بملاحظة ألفه و لامه، و هي ألف لام الجنس- يشمل كلّ أنواع الذنوب و المعاصي، لأنّ كلّ المعاصي رجس، و لذلك فإنّ هذه الكلمة أطلقت في القرآن علی الشرك و الخمور و القمار و النفاق و اللحوم المحرّمة و النجسة و أمثال ذلك.

‏انظر الآيات: الحجّ- ٣٠، المائدة- ٩٠، التوبة- ١٢٥، الأنعام- ١٤٥.

‏و بملاحظة أنّ الإرادة الإلهيّة حتمية التنفيذ و الوقوع، و أنّ جملة: إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ‌ دليل علی إرادته الحتمية، و خاصّة بوجود كلمة (إنّما) الدالّة علی الحصر و التأكيد، سيتّضح أنّ إرادة اللّه سبحانه قد قطعت بأن يكون أهل البيت منزّهين عن كلّ رجس و خطأ، و هذا هو مقام العصمة.

‏و ثمّة مسألة تستحقّ الانتباه، و هي أنّه ليس المراد من الإرادة الإلهيّة في هذه الآية الأوامر و الأحكام الإلهيّة في مسائل الحلال و الحرام، لأنّ هذه الأحكام تشمل الجميع، و لا تختّص بأهل البيت، و بناء علی هذا فإنّها لا تتناسب مع مفهوم (إنّما).

‏إذن، فهذه الإرادة المستمرّة نوع من الإمداد الإلهي الذي يعيّن أهل أهل البيت علی العصمة و الاستمرار فيها، و هي في الوقت نفسه لا تنافي حرية الإرادة و الإختيار، كما فصّلنا ذلك سابقا.

‏إنّ مفهوم هذه الآية في الحقيقة هو عين ما

‏جاء في الزيارة الجامعة: «عصمكم اللّه من الزلل، و آمنكم من الفتن، و طهّركم من الدنس و أذهب عنكم الرجس و طهّركم تطهيرا».

‏و ينبغي أن لا نشكّ بعد هذا الإيضاح في دلالة الآية المذكورة علی عصمة أهل البيت عليهم السّلام.

‏٢- فيمن نزلت آية التطهير؟

‏قلنا: إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت ضمن الآيات المتعلّقة بنساء النّبي، إلّا أنّ تغيير سياقها- حيث تبدّل ضمير الجمع المؤنث إلی ضمير الجمع المذكّر- دليل علی أنّ لهذه الآية معنی و محتوی مستقلا عن تلك الآيات، و لهذا فحتّی أولئك الذين لم يعتبروا الآية مختّصة بمحمّد صلّی اللّه عليه و آله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، فإنّهم اعتقدوا أنّ لها معنی واسعا يشمل هؤلاء العظام و نساء النّبي صلّی اللّه عليه و آله.

‏إلّا أنّ الرّوايات الكثيرة التي بين أيدينا تبيّن أنّ هذه الآية خاصّة بهؤلاء الأجلّاء، و لا تدخل الزوجات ضمن الآية، بالرغم من أنهنّ يتمتّعن باحترام خاصّ، و نضع بين أيديكم بعضا من هذه الروايات:

‏أ: الرّوايات التي رويت عن أزواج النّبي صلّی اللّه عليه و آله أنفسهنّ، و التي حدثن فيها: إنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله عند ما كل يتحدّث عن هذه الآية الشريفة سألناه: أ نحن من أصحاب هذه الآية؟ فكان يجيب: بأنكنّ إلی خير، و لكن لستنّ من أصحابها.

‏و من جملتها الرواية التي‌

‏رواها «الثعلبي» عن «امّ سلمة» في تفسيره، و ذلك‌ أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله كان في بيتها إذ أتته فاطمة عليها السّلام بقطعة حرير، فقال النّبي صلّی اللّه عليه و آله: «ادعي لي زوجك و ابنيك- الحسن و الحسين-» فأتت به فطعموا، ثمّ ألقی عليهم النّبي صلّی اللّه عليه و آله كساء له خيبريا و قال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي و عترتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» فنزلت آية التطهير، فقلت: يا رسول اللّه و أنا معهم؟ قال: «إنّك إلی خير» و لكنّك لست منهم‌[روی الطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، هذا الحديث بهذا المضمون بطرق متعدّدة عن أمّ سلمة. راجع شواهد التنزيل، للحاكم الحسكاني، المجلّد ٢، صفحة ٥٦ و ما بعدها.]٤.

‏و يروي «الثعلبي» أيضا عن «عائشة» أنّها عند ما سئلت عن حرب الجمل و تدخّلها في تلك الحرب المدمّرة الطاحنة، قالت بأسف: كان ذلك قضاء اللّه.

‏و

‏عند ما سئلت عن علي عليه السّلام قالت: تسأليني عن أحبّ الناس كان إلی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله، و زوج أحبّ الناس كان إلی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله؟ لقد رأيت عليا و فاطمة و حسنا و حسينا عليهم السّلام، و جمع رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله بثوب عليهم ثمّ قال: «اللهمّ هؤلاء أهل‌ بيتي و حامتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» قالت: فقلت: يا رسول اللّه، أنا من أهلك! قال: «تنحّي فإنّك إلی خير»[مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.]٥- إلّا أنّك لست جزءا منهم-.

‏إنّ هذه الرّوايات تصرّح أنّ زوجات النّبي صلّی اللّه عليه و آله لسن جزءا من أهل البيت في هذه الآية.

‏ب: لقد

‏وردت روايات كثيرة جدّا بصورة مجملة في شأن حديث الكساء، يستفاد منها جميعا أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله دعا عليا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام- أو أنّهم أتوا إليه- فألقی عليهم عباءة و قال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا»، فنزلت الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ....

‏و قد روی العالم المعروف «الحاكم الحسكاني النيسابوري» هذه الروايات في (شواهد التنزيل) بطرق مختلفة عن رواة مختلفين‌[شواهد التنزيل، المجلّد ٢، صفحة ٣١ و ما بعدها.]٦.

‏و هنا سؤال يلفت النظر، و هو: ماذا كان الهدف من جمعهم تحت الكساء؟

‏كأنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله كان يريد أن يحدّد هؤلاء و يعرّفهم تماما، و يقول: إنّ الآية أعلاه في حقّ هؤلاء خاصّة، لئلّا يری أحد أو يظنّ ظانّ أنّ المخاطب في هذه الآية كلّ من تربطه بالنّبي صلّی اللّه عليه و آله قرابة، و كلّ من يعدّ جزءا من أهله، حتّی جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله قد كرّر هذه الجملة ثلاث مرّات:

‏«اللهمّ هؤلاء أهل بيتي و خاصّتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا»[الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث.]٧.

‏ج: نقرأ في روايات عديدة اخری أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله بقي ستّة أشهر بعد نزول هذه الآية ينادي عند مروره من جنب بيت فاطمة سلام اللّه عليها و هو ذاهب إلی صلاة الصبح:

‏«الصلاة يا أهل البيت! إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا». و قد روی الحاكم الحسكاني هذا الحديث عن أنس بن‌ مالك‌[شواهد التنزيل، المجلّد ٢، صفحة ١١.]٨.

‏و روی ابن عبّاس أيضا هذا الحديث عن النّبي صلّی اللّه عليه و آله‌[الدرّ المنثور، ذيل الآية مورد البحث.]٩.

‏و هنا مسألة تستحقّ الانتباه، و هي أنّ تكرار هذه الأمر ستّة أشهر أو ثمانية أو تسعة أشهر بصورة مستمرّة جنب بيت فاطمة إنّما هو لبيان هذه المسألة تماما لئلّا يبقی مجال للشكّ لدی أيّ شخص بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء النفر فقط، خاصّة و أنّ الدار الوحيدة التي بقي بابها مفتوحا إلی داخل المسجد بعد أن أمر اللّه نبيّه بأن تغلق جميع أبواب بيوت الآخرين، هي دار فاطمة عليها السّلام، و لا شكّ أنّ جماعة من الناس كانوا يسمعون ذلك القول من النّبي صلّی اللّه عليه و آله حين الصلاة هناك- تأمّلوا ذلك-.

‏و مع ذلك، فإنّ ممّا يثير العجب أنّ بعض المفسّرين يصرّون علی أنّ للآية معنی عامّا تدخل فيه أزواج النّبي، بالرغم من أنّ أكثر علماء الإسلام، السنّة منهم و الشيعة، قد حدّدوها بهؤلاء الخمسة.

‏و ممّا يستحقّ الالتفات أنّ عائشة- زوجة النّبي لم تكن تدع شيئا في ذكر فضائلها، و دقائق علاقتها بالنّبي صلّی اللّه عليه و آله بشهادة الروايات الإسلامية، فإذا كانت هذه الآية تشملها فلا بدّ أنّها كانت ستتحدّث بها في المناسبات المختلفة، في حين لم يرو شي‌ء من ذلك عنها مطلقا.

‏د: رويت روايات عديدة عن الصحابي المعروف «أبي سعيد الخدري» تشهد بصراحة بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء الخمسة الأطهار: «نزلت في خمسة: في رسول اللّه، و علي، و فاطمة، و الحسن، و الحسين». و هذه الرّوايات كثيرة بحيث عدّها بعض المحقّقين متواترة. و ممّا قلناه نستنتج أنّ المصادر و رواة الأحاديث التي تدلّ علی اختصاص الآية بالخمسة المطهّرة و حصرها بهم كثيرة بحيث لا تدع لأحد المجال للشكّ في هذه الدلالة، حتّی أنّه ذكر في شرح (إحقاق الحقّ) أكثر من سبعين مصدرا من مصادر العامّة المعروفة، و أمّا مصادر الشيعة في هذا الباب فتربو علی الألف‌[يراجع الجزء الثّاني، من إحقاق الحقّ و هوامشه.]١٠. و قد روی صاحب كتاب (شواهد التنزيل)- و هو من علماء الإخوة السنّة المشهورين- أكثر من (١٣٠) حديثا في هذا الموضوع‌[يراجع المجلّد الثّاني، من شواهد التنزيل، صفحة ١٠- ٩٢.]١١.

‏و بغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ بعض أزواج النّبي قد قمن بأعمال طوال حياتهنّ تخالف مقام العصمة، و لا تناسب كونهنّ معصومات، كحادثة «حرب الجمل» التي كانت ثورة و خروجا علی إمام الزمان، و التي تسبّبت في إراقة دماء كثيرة، فقد بلغ عدد القتلی في هذه الحرب- عند بعض المؤرخّين- سبعة عشر ألف قتيل.

‏و لا شكّ أنّ هذه المعركة لا يمكن توجيهها، بل إنّنا نری أنّ عائشة نفسها قد أظهرت الندم بعدها، و قد مرّ نموذج من هذا الندم في البحوث السابقة.

‏إنّ انتقاص عائشة من خديجة- و التي هي من أعظم نساء المسلمين، و أكثر هنّ تضحية و إيثارا، و أجلّهنّ فضيلة و قدرا- مشهور في تاريخ الإسلام، و قد آلم هذا الكلام رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله حتّی ظهرت علی وجهه الشريف آثار الغضب و

‏قال: «لا و اللّه ما أبدلني اللّه خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، و صدّقتني إذ كذّبني الناس، و واستني في مالها إذ حرمني الناس»[الإستيعاب، و صحيح البخاري، و صحيح مسلم. طبقا لنقل المراجعات صفحة ٢٢٩ الرسالة ٧٢.]١٢.

‏٣- هل أن الإرادة الإلهية هنا تكوينية أم تشريعية؟

‏مرّت الإشارة في طيّات تفسير هذه الآية إلی هذا الموضوع، و قلنا: إنّ الإرادة في جملة: إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ‌ إرادة تكوينية لا تشريعية.

‏و لمزيد التوضيح ينبغي أن نذكّر بأنّ المراد من «الإرادة التشريعية» هي أوامر اللّه و نواهيه، فنعلم مثلا أنّ اللّه سبحانه يريد منّا أداء الصلاة و الصوم و الحجّ و الجهاد، و هذه إرادة تشريعية. و من المعلوم أنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بأفعالنا لا بأفعال اللّه عزّ و جلّ. في حين أنّ الآية أعلاه تتعلّق بأفعال اللّه سبحانه، فهي تقول:

‏إنّ اللّه أراد أن يذهب عنكم الرجس، و بناء علی هذا فإنّ مثل هذه الإرادة يجب أن تكون تكوينية، و مرتبطة بإرادة اللّه سبحانه في عالم التكوين.

‏إضافة إلی ذلك، فإنّ مسألة الإرادة التشريعية فيما يتعلّق بالتقوی و العفّة لا تنحصر بأهل البيت عليهم السّلام، لأنّ اللّه قد أمر الجميع بالتقوی و التطهّر من الذنوب، و بذلك لا تكون لهم مزيّة و خاصيّة، لأنّ كلّ المكلّفين مشمولون بهذا الأمر.

‏و علی أيّة حال، فإنّ هذا الموضوع- أي الإرادة التشريعيّة- مضافا إلی أنّه لا يناسب ظاهر الآية، فانّه لا يتناسب مع الأحاديث السابقة بأيّ وجه من الوجوه، لأنّ كلّ تلك الأحاديث تتحدّث عن فضيلة سامية و هبة مهمّة خاصّة بأهل البيت عليهم السّلام.

‏و من المسلّم أيضا أنّ «الرجس» هنا لا يعني الرجس الظاهري، بل هو إشارة إلی الأرجاس الباطنية، و إطلاق هذه الكلمة ينفي انحصارها و كونها محدودة بالشرك و الكفر و الأعمال المنافية للعفّة و أمثال ذلك، فإنّها تشمل كلّ الذنوب و المعاصي و المفاسد العقائدية و الأخلاقية و العملية.

‏و المسألة الاخری التي ينبغي الالتفات إليها بدقّة هي أنّ الإرادة التكوينية التي تعني الخلقة و الإيجاد، تعني هنا «المقتضي» لا العلّة التامّة لتكون موجبة للجبر و سلب الإختيار.

‏و توضيح ذلك، إنّ مقام العصمة يعني حالة تقوی اللّه التي توجد عند الأنبياء و الأئمّة بمعونة اللّه سبحانه، لكن وجود هذه الحالة لا يعني أنّهم غير قادرين علی‌ ارتكاب المعصية، بل إنّهم قادرون علی إتيانها، غير أنّهم يعفّون أنفسهم و يجلّونها عن التلوّث بها باختيارهم، و يغضّون الطرف عنها طوعا، تماما كالطبيب الحاذق الذي لا يتناول مطلقا مادّة سمّية جدّا و هو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها، و مع أنّه قادر علی تناولها، إلّا أنّ علومه و اطلاعه و مبادئه الفكرية و الروحية تدفعه إلی الامتناع إراديا و اختيارا عن هذا العمل.

‏و يجب التذكير بهذه المسألة، و هي أنّ هذه التقوی موهبة خاصّة منحت للأنبياء لا للآخرين، لكن اللّه سبحانه قد منحهم إيّاها للمسؤوليات الثقيلة الخطيرة الملقاة علی عاتقهم في قيادة الناس و إرشادهم، و بناء علی هذا فإنّه امتياز يعود نفعه علی الجميع، و هذه عين العدالة، تماما كالامتياز الخاصّ الذي منحه اللّه لطبقات العين و أغشيتها الرقيقة و الحسّاسة جدّا، و التي يستفيد منها جميع البدن.

‏إضافة إلی أنّ الأنبياء تعظم مسئولياتهم و واجباتهم بنفس المقدار الذي يتمتّعون بهذا المواهب الإلهية و الامتيازات، فإنّ ترك الاولی من قبلهم يعادل ذنبا كبيرا يصدر من الناس العاديين، و هذا معيار و تشخيص لخطّ العدالة.

‏و النتيجة أنّ هذه الإرادة إرادة تكوينية في حدود المقتضی- و ليست علّة تامّة- و هي في الوقت نفسه لا توجب الجبر و لا تسلب الإختيار و الإرادة الإنسانية.

‏٤- جاهلية القرن العشرين!

‏مرّت الإشارة إلی أنّ جمعا من المفسّرين تورّطوا في تفسير (الجاهلية الاولی) و كأنّهم لم يقدروا أن يصدّقوا ظهور جاهلية اخری في العالم بعد ظهور الإسلام، و أنّ جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة، إلّا أنّ هذا الأمر قد تجلّی للجميع اليوم، حيث نری مظاهر جاهلية القرن العشرين المرعبة، و يجب أن تعدّ تلك إحدی تنبؤات القرآن الإعجازية.

‏إذا كان العرب في زمان الجاهلية يغيرون و يحاربون، و إذا كان سوق عكاظ- مثلا- ساحة لسفك الدماء لأسباب تافهة عدّة مرّات، و قتل علی أثرها أفراد معدودون، فقد وقعت في جاهلية عصرنا حروب ذهب ضحيّتها عشرون مليون إنسان، و جرح و تعوّق أكثر من هذا العدد! و إذا كانت النساء «تتبرّج» في زمن الجاهلية و يلقين خمرهنّ عن رؤوسهن بحيث كان يظهر جزء من صدورهنّ و نحورهنّ، و قلائدهنّ و أقراطهنّ، ففي عصرنا تشكّل نواد تسمّی بنوادي العراة- و نموذجها مشهور في بريطانيا- حيث يتعرّی أفرادها كما ولدتهم امّهاتهم، و فضائح البلاجات علی سواحل البحار و المسابح، بل و حتّی في الأماكن العامّة و علی قارعة الطريق يخجل القلم من ذكرها.

‏و إذا كانت في الجاهلية «زانيات من ذوات الأعلام»، حيث كنّ يرفعن أعلاما فوق بيوتهنّ ليدعين الناس إلی أنفسهنّ، في جاهلية قرننا أناس يطرحون أمورا و مطالب في هذا المجال عبر صحف خاصّة، يندی لها الجبين، و لجاهلية العرب مائة مرتبة من الشرف علی هذه الجاهلية.

‏و الخلاصة: ماذا نقول عن وضع المفاسد التي توجد في عصرنا الحاضر .. عصر التمدّن المادّي الآلي الخالي من الإيمان، فعدم الحديث عنها أولی، و لا ينبغي أن نلوّث هذا التّفسير بذكرها.

‏إنّ ما قلناه كان جانبا من العب‌ء الملقی علی عاتقنا لبيان حياة الذين يبتعدون عن اللّه تعالی، فإنّهم و إن امتلكوا آلاف الجامعات و المراكز العلمية و العلماء المعروفين، فهم غارقون في و حل الفساد و مستنقع الرذيلة، بل إنّهم قد يضعون هذه المراكز العلمية و علماءها في خدمة هذه الفجائع و المفاسد أحيانا.

*مقتطف من تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل

---------------- الهوامش: ‏١ طبعا يكون فعل الأمر( أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار، و حذفت الراء الاولی للتخفيف، و انتقلت فتحة الراء إلی القاف، و مع وجودها لا نحتاج إلی الهمزة، و تصبح( قرن)- تأمّلوا جيّدا- ‏٢ ذكر الراغب في مفرداته، في مادّة( رجس) المعنی المذكور أعلاه، و أربعة أنواع كمصاديق له. ‏٣ ما ذكره البعض من أنّ« البيت» هنا إشارة الی بيت اللّه الحرام، و أهله هم« المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات. ‏لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبي صلّی اللّه عليه و آله و أزواجه، لا عن بيت اللّه الحرام، و لا يوجد أيّ دليل علی قولهم. ‏٤ روی الطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، هذا الحديث بهذا المضمون بطرق متعدّدة عن أمّ سلمة. راجع شواهد التنزيل، للحاكم الحسكاني، المجلّد ٢، صفحة ٥٦ و ما بعدها. ‏٥ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث. ‏٦ شواهد التنزيل، المجلّد ٢، صفحة ٣١ و ما بعدها. ‏٧ الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث. ‏٨ شواهد التنزيل، المجلّد ٢، صفحة ١١. ‏٩ الدرّ المنثور، ذيل الآية مورد البحث. ‏١٠ يراجع الجزء الثّاني، من إحقاق الحقّ و هوامشه. ‏١١ يراجع المجلّد الثّاني، من شواهد التنزيل، صفحة ١٠- ٩٢. ‏١٢ الإستيعاب، و صحيح البخاري، و صحيح مسلم. طبقا لنقل المراجعات صفحة ٢٢٩ الرسالة ٧٢.

2024/08/13

ما معنى: «كل يوم هو في شأن»؟
ما معنى قوله تعالى من سورة الرحمن: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾؟

الجواب: المراد من اليوم هو الوقت والآن، فهو تعالى له تدبيرٌ في الوجود والكون -بمختلف تفاصيله وأجزائه- في كلِّ آنٍ ووقت، فكلُّ مَن في السماوات والأرض يسألُه، أي شأنُه الفقر والحاجة إلى تدبير الله تعالى وقيوميَّته فلا يَستغني مِن شيءٍ عن تدبيره ولا يمتنعُ مِن شيءٍ عما يُريدُه له أو عليه.

وفي الآية إشارةٌ إلى حضِّ العباد ودعوتِهم إلى استشعار الفقر الدائم لله تعالى وملازمةِ الرجاءِ والخوف منه تعالى، فهو كلُّ يومٍ في شأنٍ يستحدث أشياءَ ويُجدِّد أحوالًا، فيَهبُ المُلك لمَن يشأء وينزعُه عمَّن يشاء، ويُذلُّ مَن يشاء وقد كان عزيزًا، ويُعزُّ مَن يشاء وقد كان ذليلًا، ويُصيب ببلائه مَن يشاء بما يشاء وقد كان في عافية، ويُعافي مَن يشاء وقد كان مكروبًا، ويَهبُ الغنى لبعض عباده وقد يسلبُه منه، ويُعطي القوَّة ثم يستبدلُها بضعفٍ، ويمنحُ العقل ثم يُصيِّر مِن واجده معتوهًا، ويُرادِفُ بين العُسر واليُسر والشدَّة والرخاء، ويستدرجُ ويُملي ويَعفو وقد يُعاجِل بالعقوبة، فليس للعبد العاقل أنْ يطمئنَّ لحال أو يقنط من حال، فاللهُ تعالى كلُّ يومٍ هو في شأن. لا ندرى في أيِّ وجهةٍ تعلَّقتْ إرادتُه وعلى أيِّ نحوٍ اقتضتْ مشيئتُه.

وقد رُوي أنَّ أبا الدرداء رحمه الله سأل النبيَّ (ص) عن قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ فقال (ص): "من شأنه أنْ يغفر ذنبًا، ويُفرِّج كربًا، ويرفعَ قومًا، ويضعَ آخرين"(1).

وفي تفسير القمِّي قال: قال عليُّ بنُ الحسين (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾(2) قال: "يُحيي ويُميت ويرزق ويزيد ويُنقِص"(3).

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ لله تعالى مع كلِّ عبدٍ في كلِّ آنٍ فعلٌ وتدبيرٌ قد يتشابه ولكنَّه لا يتكرر، فإحياؤه له في الآنِ الأول ليس كالإحياء له في الآن الثاني، وتمكينه في الآنِ الأول ليس كتمكينه في الآن الثاني وإن تشابه كلٌّ من التمكينين، فله تعالى مع كلِّ عبد شأنٌ في كلِّ آن، لذلك فهو لا يستغني عن تدبير الله تعالى، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾(4) فالفقر لله تعالى دائمٌ ومتجدِّد لا يخلو منه آن، ولله مع كلِّ آنٍ شأنٌ وتدبير قد يتشابه، وقد يتفاوت، وقد يتباين.

فليس معنى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ أنَّه تعالى معرضٌ للحوادث والأحوال، فلا يطرأ عليه تعالى تغييرٌ وهو لكماله المطلق غيرُ قابلٍ للزيادة والتحوُّل، فالتحوُّل إنَّما هو بلحاظ ما يفعله تعالى بخلقه، فهو جلَّ وعلا يستحدثُ الخلائق ثم لا يمتنعُ عليه تحويلُها من حالٍ إلى حال، ولا يترتَّب عن استحداثِها استغناؤها واستقلالُها عن تدبيره، فلها في كلِّ آنٍ تدبيرٌ منه وتحويل، ولعلَّ ذلك هو ما يُشير إليه قولُه تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾(5).

=======

الهوامش: 1- مجمع البيان للطبرسي ج9 ص 338. 2- سورة الرحمن / 29. 3- تفسير القمي: ج2 ص 345. 4- سورة فاطر / 15. 5- سورة  ق / 15.
2024/06/29

أجزاء وأحزاب.. من رتّب القرآن الكريم؟
من المعلوم أن ترتيب السور والآيات في القرآن الكريم ليس بحسب النزول، فسورة البقرة مثلاً هي سورةٌ مدنيةٌ، تجدها في أول القرآن، بينما سورة الكوثر هي سورةٌ مكيةٌ تجدها في آخر القرآن، وهذا الترتيب يذهب الأكثر إليه - سنةً وشيعةً - على أنه توقيفيٌّ، أي من ترتيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقابله رأيٌّ آخرُ عند الفريقين أيضاٌ يقول أنه ليس بتوقيفيٍّ، وأنه من ترتيب الصحابة، ومازال الجدل قائماً من هذه الناحية.

ومن هنا قد تجد في بعض الأحيان معاني الآيات متّصلةً مع بعضها وتعطي دلالةً واضحةً بفعل هذا الاتصال يطلق عليها دلالة السياق، وفي البعض الآخر تجدها ليست كذلك.

ولكن الأمر المتفق عليه بين السواد الأعظم من المسلمين أن هذا الموجود بين الدفتين هو الكتاب المنزل من عند الله تعالى. [ انظر : بحوث في تأريخ القرآن وعلومه ، محمد مير زرندي ] 

أمّا الأحزاب والتجزئة في القرآن فهي أمرٌ اصطلاحيٌّ اجتهاديٌّ بالاتفاق ، أي ليست من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإنما هي من وضع الناس لغرض تسهيل القراءة لا أكثر .

والمراد بالأجزاء: هو تقسيم كل القرآن على ثلاثين قسمًا، فالجزء الواحد هو حاصل قسمة كل القرآن الكريم على ثلاثين.

والمراد بالحزب: هو نصف الجزء، وهو تقسيم كل القرآن الكريم على 60، وعليه فالقرآن كما أنه يتكون من ثلاثين جزءاً، فهو يتكون أيضا من ستين حزباً. ثمّ يتم تقسيم الحزب الواحد على نصفين فيطلق على كل نصف منهما «نصف حزب». وتستمر عملية التقسيم في ربع الحزب وثُمنه. 

قال الزرقاني في "مناهل العرفان في علوم القرآن" ، تحت عنوان " تجزئة القرآن " :

( كانت المصاحفُ العثمانيةُ مجردةً من التجزئة التي نذكرها ، كما كانت مجردة من النقط والشكل . ولما امتد الزمان بالناس جعلوا يتفننون في المصاحف وتجزئتها عدة تجزئات مختلفة الاعتبارات :

فمنهم من قسَّم القرآن ثلاثين قسما ، وأطلقوا على كل قسمٍ منها اسم الجزء ، بحيث لا يخطر بالبال عند الإطلاق غيره ، حتى إذا قال قائلٌ : قرأت جزءاً من القرآن ، تبادر إلى الذهن أنه قرأ جزءاً من الثلاثين جزءاً التي قسموا المصحف إليها .

ومن الناس من قسموا الجزء إلى حزبين ، ومن قسموا الحزب إلى أربعة أجزاء ، سموا كل واحد منها ربعا .

ومن الناس من وضعوا كلمة " خمس " عند نهاية كل خمس آياتٍ من السورة ، وكلمة " عشر " عند نهاية كل عشر آياتٍ منها ، فإذا انقضت خمسٌ أخرى بعد العشر أعادوا كلمة خمس ، فإذا صارت هذه الخمس عشراً أعادوا كلمة عشر ، وهكذا دواليك إلى آخر السورة .

وبعضهم يكتب في موضع الأخماس رأس الخاء بدلا من كلمة خمس ، ويكتب في موضع الأعشار رأس العين بدلاً من كلمة عشر . 

وبعض الناس يرمز إلى رؤوس الآي برقم عددها من السورة ، أو من غير رقم .

وبعضهم يكتب فواتح للسور كعنوان ينوّه فيه باسم السورة وما فيها من الآيات المكية والمدنية ، إلى غير ذلك .

وللعلماء في ذلك كلام طويل بين الجواز بكراهة ، والجواز بلا كراهة ، ولكن الخطب سهلٌ على كل حال ما دام الغرض هو التيسير والتسهيل ، وما دام الأمر بعيداً عن اللبس والتزيد والدخيل ، وعلى الله قصد السبيل ). انتهى[ مناهل العرفان 1: 283]

2024/06/19

3 معطيات تربوية قرآنية.. من آية الله السيد محمد باقر السيستاني
 معطياتٌ تربويةٌ قرآنيّةٌ قيّمةٌ:

1 - إنَّ القرآن الكريم يرشدنا إلى ضرورة استذكار الموتِ والمصير الذي سيواجهنا حتماً ، ويدعو المؤمنين إلى الصبر على ابتلاءات الحياة الدنيا ، والثبات على المبادئ والقيم والوظائف الشرعية .

2 - يؤكّد القرآن الكريم على أنّ وظيفة علماء الدين بيان الحقّ في مواضعه ، وعدم كتمانه رعايةً للمنافع الشخصيّة .

3 - يُنبّه القرآنُ الكريمُ النّاسَ على أنّه مِن المحاذير الأخلاقيّة - أن يحبّوا أن يُحمَدوا على ما لم ينجزوه بآكثر ممّا هو عليه مِن خصالٍ ومعانٍ وأفعال. 

سماحة السيّد الأستاذ محمّد باقر السيستاني (دامت بركاته) .

الأربعاء - 27 ذي القعدة - 1445هجزية. 

مرتضى علي الحلّي - النجف الأشرف 
2024/06/06

سورة الحمد.. لماذا سميت بـ «فاتحة الكتاب»؟
«فاتحة الكتاب» اسم اتخذته هذه السّورة في عصر رسول اللّه صلّی اللّه عليه و اله و سلّم، كما يبدو من الأخبار و الأحاديث المنقولة عن النّبي الأعظم صلّی اللّه عليه و اله و سلّم.

[اشترك]

‏و هذه المسألة تفتح نافذة علی مسألة مهمّة من المسائل الإسلامية، و تلقي الضوء علی قضية جمع القرآن، و توضّح أنّ القرآن جمع بالشكل الذي عليه الآن في زمن الرّسول صلّی اللّه عليه و اله و سلّم، خلافا لما قيل بشأن جمع القرآن في عصر الخلفاء، فسورة الحمد ليست أول سورة في ترتيب النّزول حتی تسمّی بهذا الاسم و لا يوجد دليل آخر لذلك، و تسميتها بفاتحة الكتاب يرشدنا إلی أنّ القرآن قد جمع في زمن الرّسول صلّی اللّه عليه و اله و سلّم بهذا الترتيب الذي هو عليه الآن.

‏و ثمّة أدلّة اخری تؤيّد حقيقة جمع القرآن بالترتيب الذي بأيدينا اليوم في عصر الرّسول صلّی اللّه عليه و اله و سلّم و بأمره.

‏روی عليّ بن إبراهيم، عن الإمام الصادق عليه السّلام، أنّ رسول اللّه صلّی اللّه عليه و اله و سلّم قال لعلّي عليه السّلام: «يا عليّ، إنّ القرآن خلف فراشي في الصّحف و الحرير و القراطيس، فخذوه و اجمعوه و لا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التّوراة، و انطلق عليّ عليه السّلام فجمعه في ثوب أصفر، ثمّ ختم عليه»

[تاريخ القرآن، أبو عبد اللّه الزنجاني، ص ٤٤.]

٧.

‏و يروي (الخوارزمي) في المناقب عن (علي بن رباح) أنّ علي بن أبي طالب و أبيّ بن كعب جمعا القرآن في عصر رسول اللّه صلّی اللّه عليه و اله و سلّم.

‏و روی (الحاكم) في (المستدرك) عن (زيد بن ثابت) قال: «كنّا نؤلّف القرآن من الرّقاع».

‏و يقول العالم الجليل السيد المرتضی رحمة اللّه: «إنّ القرآن كان علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه عليه و اله و سلّم مجموعا مؤلّفا علی ما هو عليه الآن»

[مجمع البيان، ج ١، ص ١٥.]

٨.

‏و يروي الطبراني و ابن عساكر عن الشعبي أنّ القرآن جمعه ستة من الأنصار في عصر النّبي صلّی اللّه عليه و اله و سلّم‌

[منتخب كنز العمال، ج ٢، ص ٥٢.]

٩.

‏و يروي قتادة أنّه سأل أنس عن جمع القرآن في عصر النّبي صلّی اللّه عليه و اله و سلّم فقال:

‏أربعة من الأنصار هم: أبيّ بن كعب، و معاذ، و زيد بن ثابت، و أبو زيد

[صحيح البخاري، ج ٦، ص ١٠٢.]

١٠ و هناك روايات اخری يطول ذكرها.

‏علی أيّ حال، اتّخاذ سورة الحمد اسم (فاتحة الكتاب) دليل واضح علی إثبات هذه المسألة، إضافة إلی الأدلة الاخری المستفيضة في مصادر الشيعة و السنّة.

‏سؤال:

‏و هنا يثار سؤال حول المشهور بين بعض العلماء بشأن جمع القرآن بعد عصر النّبي صلّی اللّه عليه و اله و سلّم.

‏و في الجواب نقول: ما روي بشأن جمع القرآن علی يد الامام عليّ عليه السّلام بعد عصر الرّسول، لم يكن القرآن وحده، بل مجموعة تتضمّن القرآن و تفسيره و أسباب نزول الآيات، و ما شابه ذلك ممّا يحتاجه الفرد لفهم كلام اللّه العزيز.

‏و أمّا ما فعله عثمان في هذا الصدد، فتدلّ القرائن أنّه أقدم علی كتابة قرآن واحد عليه علامات التلاوة و الإعجام، منعا للاختلاف في القراءات، إذ لم يكن التنقيط معمولا به حتی ذلك الوقت.

‏و ما نراه من إصرار لدی جماعة علی عدم جمع القرآن في عصر رسول اللّه صلّی اللّه عليه و اله و سلّم، و علی نسبة هذا الأمر للخليفة عثمان أو للخليفة الأول أو الثاني، فإنّما يعود إلی ظروف و ملابسات و عصبيات تأريخية لسنا بصددها الآن.

‏و إذا رجعنا إلی استقصاء طبيعة الأشياء في مجال جمع القرآن، ألفينا أنّه من غير المعقول أن يترك النّبي صلّی اللّه عليه و اله و سلّم هذه المهمّة الكبيرة، بينما نجده يهتمّ بدقائق الأمور المرتبطة بالرسالة.

‏أليس القرآن دستور الإسلام، و كتاب هداية البشرية، و أساس عقائد الإسلام و أحكامه؟

‏أليس من الممكن أن يتعرّض القرآن- إن لم يجمع- في عصر الرّسول اللّه صلّی اللّه عليه و اله و سلّم إلی الضياع، و إلی الاختلاف فيه بين المسلمين؟! (حديث الثقلين) المروي في المصادر الشيعية و السنّية، حيث أوصی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و اله و سلّم بوديعته: كتاب اللّه و عترته، يؤكّد أيضا أن القرآن كان قد جمع في مجموعة واحدة في عصر الرّسول الأعظم.

‏أمّا اختلاف الرّوايات في عدد الصحابة الذين جمعوا القرآن خلال عصر النّبي فلا يشكّل عقبة في البحث، و من الممكن أنّ تتّجه كلّ رواية إلی ذكر عدد منهم.

تفسير الأمثل ج1
2024/06/04

خيرات حسان: تعرّف على صفات الزوجات في الجنّة
‏فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلی‌ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (٧٨)

‏زوجات الجنّة .. مرّة اخری:

‏استمرار لشرح نعم الجنّتين التي ذكرت في الآيات السابقة، تتحدّث هذه الآيات عن قسم آخر من هذه النعم التي تزخر بها جنان اللّه التي أعدّها للصالحين من عباده، حيث يقول سبحانه في البداية: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ‌. تستعمل كلمة (خير) غالبا للصفات الجيّدة و الجمال المعنوي، أمّا «حسن» فإنّها تستعمل للجمال الظاهر. لذا فإنّ المقصود ب خَيْراتٌ حِسانٌ‌ أولئك النسوة اللواتي جمعن بين حسن السيرة، وحسن الظاهر.

‏و جاء في الرّوايات في تفسير هذه الآية أنّ الصفات الحسنة للزوجات في الجنّة كثيرة و من جملتها طيب اللسان و النظافة و الطهارة، و عدم الإيذاء، و عدم النظر للرجال الأجانب.. و الخلاصة أنّ جميع صفات الخير و الجمال التي يجب أن تكون في الزوجة الصالحة موجودة فيهنّ، و هذه الصفات إشارة للصفات العالية التي يجب أن تكون في نساء هذه الدنيا و يجسّدن الأسوة بذلك لجميع الناس و القرآن الكريم يعبّر عنهنّ باختصار رائع أنهنّ‌ خَيْراتٌ حِسانٌ‌ [قال البعض: إنّ خيرات جمع (خيّرة) علی وزن (سيّدة)، و قيل لها خيرات للتخفيف، واعتبرها آخرون أنّها جمع (خيرة) علی وزن (حيرة) و علی كلّ حال فإنّها تعطي معنی الوصف، و ليس بمعنی( أفعل التفضيل) لأنّه لا يجمع.]١.

‏ثمّ يضيف مستمرّا في وصف الزوجات في الجنّة: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ‌.

‏«حور»: جمع حوراء و أحور، و تطلق علی الشخص الذي يكون سواد عينه قاتما و بياضها ناصعا، و أحيانا تطلق علی النساء اللواتي يكون لون وجوههنّ أبيض.

‏و التعبير بـ «مقصورات» إشارة إلی أنهنّ مرتبطات و متعلّقات بأزواجهنّ و محجوبات عن الآخرين.

‏«خيام»: جمع خيمة، و كما ورد في الرّوايات الإسلامية، فإنّ الخيم الموجودة في الجنّة لا تشبه خيم هذا العالم من حيث سعتها و جمالها.

‏و «الخيمة» كما ذكر علماء اللغة وبعض المفسّرين لا تطلق علی الخيم المصنوعة من القماش المتعارف فحسب. بل تطلق أيضا علی البيوت الخشبية و كذلك كلّ بيت دائري. و قيل أنّها تطلق علی كلّ بيت لم يكن من الحجر و أشباهه‌ [لسان العرب و مجمع البحرين و المنجد.]٢.

‏و مرّة أخری يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالی: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ‌.

‏و يضيف سبحانه وصفا آخر لحوريات الجنّة حيث يقول: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ‌ [حول معنی الطمث أعطينا توضيحا كافيا في نهاية الآية رقم( ٥٦) من نفس السورة.]٣.

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ الزوجين المؤمنين في هذه الدنيا سيلتحقان في الجنّة مع بعضهما ويعيشان في أفضل الحالات‌ [الرعد، ٢٣، و المؤمن، ٨.]٤.

‏ويستفاد أيضا من الرّوايات أنّ درجة و مقام زوجات المؤمنين الصالحات أعلی و أفضل من حوريات الجنّة [الدّر المنثور، ص ١٥١.]٥ و ذلك بما قمن به في الدنيا من صالح الأعمال و عبادة اللّه سبحانه.

‏ثمّ يضيف تعالی: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ‌.

‏و في آخر وصف للنعم الموجودة في هذه الجنّة يذكر سبحانه تعالی: مُتَّكِئِينَ عَلی‌ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ‌.

‏«رفرف» في الأصل بمعنی الأوراق الواسعة للأشجار، ثمّ أطلقت علی الأقمشة الملوّنة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق.

‏«عبقري» في الأصل بمعنی كلّ موجود قلّ نظيره، و لذا يقال للعلماء الذين يندر وجودهم بين الناس (عباقرة) و يعتقد الكثير أنّ كلمة (عبقر) كان في البداية اسما لمدينة (بريان) انتخبه العرب لها، لأنّ هذه المدينة كانت في مكان غير معلوم و نادر. لذا فإنّ كلّ موضوع يقلّ نظيره ينسب لها و يقال «عبقري»، و ذكر البعض أنّ «عبقر» كانت مدينة تحاك فيها أفضل المنسوجات الحريرية. و المعنی الأصلي لهذه الكلمة متروك في الوقت الحاضر و تستعمل كلمة «عبقري» ككلمة مستقلّة بمعنی نادر الوجود، و تأتي جمعا في بعض الأحيان، كما في الآية مورد البحث.

‏و (حسان) جمع (حسن) علی وزن «نسب» بمعنی جيّد و لطيف.

‏و علی كلّ حال فإنّ هذه التعابير حاكية جميعا عن أنّ كلّ موجودات الجنّة رائعة: الفاكهة، الغذاء، القصور، الأفرشة ... و الخلاصة أنّ كلّ شي‌ء فيها لا نظير له و لا شبيه في نوعه، و لا بدّ من القول هنا أنّ هذه التعبيرات لا تستطيع أبدا أن تعكس تلك الإبداعات العظيمة بدقّة، و إنّها تستطيع- فقط- أن ترسم لنا صورة تقريبية من الصورة الحقيقيّة للموجودات في الجنّة.

‏و للمرّة الأخيرة و هي (الحادية و الثلاثون) يسأل سبحانه جميع مخلوقاته من الجنّ و الإنس هذا السؤال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ‌.

‏هل النعم المعنوية؟ أم النعم الماديّة؟ أم نعم هذا العالم؟ أم الموجودة في الجنّة؟

إنّ كلّ هذه النعم شملت وجودكم و غمرتكم .. إلّا أنّه- مع الأسف- قد أنساكم غروركم و غفلتكم هذه الألطاف العظيمة، و مصدر عطائها و هو اللّه سبحانه الذي أنتم بحاجة مستمرّة إلی نعمه في الحاضر و المستقبل .. فأيّا منها تنكرون و تكذّبون؟

‏و يختم السورة سبحانه بهذه الآية الكريمة: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ‌.

‏«تبارك» من أصل (برك) علی وزن (درك) بمعنی صدر البعير، و ذلك لأنّ الجمال حينما تبرك تضع صدرها علی الأرض أوّلا، و من هنا استعمل هذا المصطلح بمعنی الثبات و الدوام و الاستقامة، لذا فإنّ كلمة (مبارك) تقال للموجودات الكثيرة الفائدة، و أكرم من تطلق عليه هذه الكلمة هي الذات الإلهيّة المقدّسة باعتبارها مصدرا لجميع الخيرات و البركات. و استعملت هذه المفردة هنا لأنّ جميع النعم الإلهيّة- سواء كانت في الأرض و السماء في الدنيا و الآخرة و الكون و الخلق- فهي من فيض الوجود الإلهي المبارك، لذا فإنّ هذا التعبير من أنسب التعابير المذكورة في الآية لهذا المعنی.

‏و المقصود من (اسم) هنا هو صفات اللّه تعالی خصوصا الرحمانية التي هي منشأ البركات، و بتعبير آخر فإنّ أفعال اللّه تعالی مصدرها من صافته، و إذا خلق عالم الوجود فذلك من إبداعه و نظام خلقه، و إذا وضع كلّ شي‌ء في ميزان فذلك ما أوجبته حكمته، و إذا وضع قانون العدالة حاكما علی كلّ شي‌ء فإنّ (علمه و عدالته) توجبان ذلك. و إذا عاقب المجرمين بأنواع العذاب الذي مرّ بنا في هذه السورة فإنّ (انتقامه يقضي ذلك، و إذا شمل المؤمنين الصالحين بأنواع الهبات و النعم العظيمة الماديّة و المعنوية- في هذا العالم و في الآخرة- فإنّ رحمته الواسعة أوجبت ذلك، و بناء علی هذا فإنّ اسمه يشير إلی صفاته و صفاته هي نفس ذاته المقدّسة.

‏و التعبير ب ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ‌ إشارة إلی كلّ صفات جماله و جلاله: ذِي الْجَلالِ‌ إشارة إلی الصفات السلبية، و (ذي الإكرام) إشارة إلی الصفات الثبوتية.

‏و الملفت للنظر هنا أنّ هذه السورة بدأت باسم اللّه (الرحمن) و انتهت باسم اللّه ذي الجلال و الإكرام) و كلاهما ينسجمان مع مجموعة مواضيع السورة.

‏ملاحظات‌

‏١- في الآية رقم (٣٧) من هذه السورة بعد ذكر النعم الإلهيّة المختلفة المعنوية و الماديّة في الدنيا يقول سبحانه: وَ يَبْقی‌ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ‌.

‏و في نهاية السورة و بعد ذكر أنواع النعم الاخروية يقول سبحانه: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ‌. إنّ هاتين الآيتين توضّحان حقيقة مهمّة و هي أنّ جميع الخطوط تنتهي إلی ذاته المقدّسة، و أنّ جميع ما في الوجود مصدره اللّه سبحانه، فالدنيا منه، و العقبی كذلك، و إنّ جلاله و إكرامه قد شمل كلّ شي‌ء.

‏٢- و نقرأ في حديث للرسول الأعظم صلّی اللّه عليه و آله و سلّم‌ أنّ رجلا كان يدعو اللّه في حضرته حيث قال: «يا ذا الجلال و الإكرام فقال صلّی اللّه عليه و آله و سلّم: قد استجيب لك فسل‌ [تفسير الدرّ المنثور، ج ٦ ص ١٥٣.]٦.

‏وجاء في حديث آخر أنّ الرّسول صلّی اللّه عليه و آله و سلّم شاهد رجلا يقيم الصلاة حيث دعا بعد الركوع و السجود و التشهّد بهذا الدعاء: اللهمّ انّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، المنّان بديع السماوات و الأرض يا ذا الجلال و الإكرام يا حي يا قيّوم انّي أسألك ... فقال صلّی اللّه عليه و آله و سلّم: لقد دعا اللّه باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، و إذا سئل به أعطی» [تفسير الدرّ المنثور، ج ٦، ص ١٥٣.]٧.

‏٣- نقرأ في حديث للإمام الباقر عليه السّلام‌ في تفسير الآية: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ‌ أنّه قال: «نحن جلال اللّه و كرامته التي أكرم العباد بطاعتنا» [تفسير البرهان، ج ٤، ص ٢٧٢.]٨.

‏و من الواضح أنّ أهل البيت عليه السّلام لا يدعون لغير اللّه، و لا يأمرون بغير طاعته و هم هداة الطريق إليه، و سفن النجاة في بحر الحياة المتلاطم. و بناء علی هذا، فإنّهم يمثّلون مصاديق جلال اللّه و إكرامه، لأنّ اللّه تعالی قد شمل الناس بنعمة الهداية بواسطة أوليائه.

‏٤- ذكر البعض أنّ أوّل آيات قرئت في مكّة علی قريش علنا هي الآيات الأوائل لهذه السورة يقول عبد اللّه بن مسعود رضی اللّه عنه قال: اجتمع يوما أصحاب رسول اللّه فقالوا: و اللّه ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ. فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد اللّه بن مسعود: أنا، قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإنّ اللّه سيمنعني، قال: فغذا ابن مسعود حتّی أتی المنام في الضحی، و قريش في أنديتها، حتّی قام عند المقام ثمّ قرأ: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌ رافعا بها صوته: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ‌ قال: ثمّ استقبلها يقرؤها قال: فتأمّلوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أمّ عبد؟ قال: ثمّ قالوا: إنّه ليتلو بعض ما جاء به محمّد فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه، و جعل يقرأ حتّی بلغ منها ما شاء اللّه أن يبلغ. ثمّ انصرف إلی أصحابه و قد أثّروا في وجهه.

‏فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء اللّه أهون عليّ منهم الآن، و لئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا، قالوا: لا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون‌ [سيرة ابن هشام، ج ١، ص ٣٣٦.]٩.

‏و لهذا السبب فقد اعتبر ابن مسعود أوّل مسلم جهر بالقرآن في مكّة أمام المشركين‌ [اسد الغابة، ج ٣، ص ٢٥٧.]١٠.

‏ربّنا، يا ذا الجلال و الإكرام، نقسم عليك بجلالك و إكرامك ألّا تحرمنا من نعم و هبات الجنّة.

‏ربّاه، إنّ دائرة رحمتك واسعة جدّا، و إنّنا لم نعمل عملا يليق برحمتك، فعاملنا بما يليق بمقام رحمانيّتك.

‏إلهنا، نحن لا نكذّب أيّا من نعمك، و نعتبر أنفسنا غارقين بإحسانك دائما، فأدم نعمك علينا.

‏آمين يا ربّ العالمين.

مقتطف من تفسير الأمثل ج ١٧

الهوامش: ‏١ قال البعض: إنّ خيرات جمع( خيّرة) علی وزن( سيّدة)، و قيل لها خيرات للتخفيف، و اعتبرها آخرون أنّها جمع( خيرة) علی وزن( حيرة) و علی كلّ حال فإنّها تعطي معنی الوصف، و ليس بمعنی( أفعل التفضيل) لأنّه لا يجمع. ‏٢ لسان العرب و مجمع البحرين و المنجد. ‏٣ حول معنی الطمث أعطينا توضيحا كافيا في نهاية الآية رقم( ٥٦) من نفس السورة. ‏٤ الرعد، ٢٣، و المؤمن، ٨. ‏٥ الدّر المنثور، ص ١٥١. ‏٦ تفسير الدرّ المنثور، ج ٦ ص ١٥٣. ‏٧ تفسير الدرّ المنثور، ج ٦، ص ١٥٣. ‏٨ تفسير البرهان، ج ٤، ص ٢٧٢. ‏٩ سيرة ابن هشام، ج ١، ص ٣٣٦.
2024/05/13

الصلاة أفضل وسيلة لذكر اللّه‌
واحدة من أهم أسرار الصلاة، و هي أن الإنسان يحتاج في حياته في هذا العالم- و بسبب العوامل المؤدية إلی الغفلة- إلی عمل يذكّره باللّه و القيامة و دعوة الأنبياء و هدف الخلق في فترات زمنية مختلفة، كي يحفظه من الغرق في دوامة الغفلة و الجهل، و تقوم الصلاة بهذه الوظيفة المهمّة.

‏إنّ الإنسان يستيقظ في الصباح من النوم ... ذلك النوم الذي عزله عن كل‌ موجودات العالم، و يريد أن يبدأ نشاطه الحياتي، فقبل كل شي‌ء يتوجه إلی الصلاة، و يصفي قلبه و روحه بذكر اللّه، و يستمد منه القوّة و المدد، و يستعد للجد و السعي الممتزج بالصدق و المودة.

‏و عند ما يغرق في زحمة الأعمال اليومية، و تمضي عدة ساعات و قد نسي ذكر اللّه، و فجأة يحين الظهر، و يسمع صوت المؤذن: اللّه أكبر! حي علی الصلاة! فيتوجه إلی الصلاة و يقف بين يدي ربّه و يناجيه، و إذا كان غبار الغفلة قد استقر علی قلبه فإنّه يغسله بهذه الصلاة، و من هنا يقول اللّه سبحانه لموسی في أوّل الأوامر في بداية الوحي: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي‌.

‏و ممّا يجلب الانتباه أنّ هذه الآية تقول: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي‌ أمّا الآية (٢٨) من سورة الرعد فتقول: أَلا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ‌ و الآيات (٢٧- ٣٠) من سورة الفجر تقول: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلی‌ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي‌ و إذا جعلنا هذه الآيات الثلاثة جنبا إلی جنب فسنفهم جيدا أن الصلاة تذكر الإنسان باللّه، و ذكر اللّه يجعل نفسه مطمئنة، و نفسه المطمئنة ستوصله إلی مقام العباد المخلصين و الجنّة الخالدة.

مقتطف من تفسير الأمثل
2024/05/05

القصّة المفصّلة لأصحاب الكهف
بعد أن ذكرت الآيات بشكل مختصر قصّة أصحاب الكهف، بدأت الآن مرحلة الشرح المفصّل لها ضمن (١٤) آية و كان المنطلق في ذلك قوله تعالی:

‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ‌ كلام خال من أي شكل من أشكال الخرافة و التزوير. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدیً‌. و كما قلنا فإنّ (فتية) جمع‌ (فتی) و هي تعني الشاب الحدث. و بما أنّ الجسم يكون قويا في مرحلة الشباب، فهو علی استعداد لقبول نور الحق، و منبع للحب و السخاء و العفة. و لذا كثيرا ما تستخدم كلمة (الفتی و الفتوة) للتدليل علی مجموع هذه الصفات حتی لو كان أصحابها من المسنيّن.

‏و تشير الآيات القرآنية- و ما هو ثابت في التأريخ- إلی أنّ أصحاب الكهف كانوا يعيشون في بيئة فاسدة و زمان شاعت فيه عبادة الأصنام و الكفر، و كانت هناك حكومة ظالمة تحتمي مظاهر الشرك و الكفر و الانحراف.

‏مجموعة أهل الكهف- الذين كانوا علی مستوی من العقل و الصدق- أحسّوا بالفساد و قرروا القيام ضدّ هذا المجتمع، و في حال عدم تمكنهم من المواجهة و التغيير فإنّهم سيهجرون هذا المجتمع و المحيط الفاسد.

‏لذا يقول القرآن بعد البحث السابق: وَ رَبَطْنا عَلی‌ قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً.

‏فإذا عبدنا غيره: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً.

‏نستفيد من تعبير رَبَطْنا عَلی‌ قُلُوبِهِمْ‌ أنّ بذرة التوحيد و فكرته كانت منذ البداية مرتكزة في قلوبهم، إلّا أنّهم لم تكن لديهم القدرة علی إظهارها و التجاهر بها. و لكن اللّه بتقوية قلوبهم أعطاهم القدرة علی أن ينهضوا و يعلنوا علانية نداء التوحيد.

‏و ليس من الواضح فيما إذا كان هذا الإعلان قد تمّ أوّلا أمام ملك زمانهم الظالم (دقيانوس) أو أنّه تمّ أمام الناس، أو أمام الاثنين معا (الحاكم الظالم و الناس) أو أنّهم تجاهروا به فيما بينهم أنفسهم؟

‏لكن يظهر من كلمة (قاموا) أنّ إعلانهم كان وسط الناس، أو أمام السلطان الظالم.

‏(شطط) علی وزن (وسط) تعني الخروج عن الحد و الإفراط في الابتعاد لذا فإنّ (شطط) تقال للكلام البعيد عن الحق، و يقال لحواشي و ضفاف الأنهار الكبيرة (شط) لكونها بعيدة عن الماء، و كونها ذات جدران مرتفعة.

‏و في الواقع، إنّ هؤلاء الفتية المؤمنين ذكروا دليلا واضحا لإثبات التوحيد و نفي الآلهة. و هو قولهم: إنّنا نری و بوضوح أنّ لهذه السماوات و الأرض خالقا واحدا، و أنّ نظام الخلق دليل علی وجوده، و ما نحن إلّا جزء من هذا الوجود، لذا فإنّ ربّنا هو نفسه ربّ السماوات و الأرض.

‏ثمّ ذكروا دليلا آخر و هو: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.

‏فهل يمكن الإعتقاد بشي‌ء بدون دليل و برهان؟: لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ‌.

‏و هل يمكن أن يكون الظن أو التقليد الأعمی دليلا علی مثل هذا الإعتقاد؟

‏ما هذا الظلم الفاحش و الانحراف الكبير:فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَری‌ عَلَی اللَّـهِ كَذِباً.

‏و هذا الافتراء هو ظلم للنفس، لأنّ الإنسان يستسلم حينئذ لأسباب السقوط و الشقاء، و هو أيضا ظلم بحق المجتمع الذي تسري فيه هذه الانحرافات، و أخيرا هو ظلم للّه و تعرض لمقامه العظيم سبحانه و تعالی.

‏هؤلاء الفتية الموحدون قاموا بما يستطيعون لإزالة صدأ الشرك عن قلوب الناس، و زرع غرسة التوحيد في مكانها، إلّا أنّ ضجة عبادة الأصنام في ذلك المحيط الفاسد، و ظلم الحاكم الجبار كانتا من الشدّة بحيث حبستا أنفاس عبادة اللّه في صدورهم و انكمشت همهمات التوحيد في حناجرهم.

‏و هكذا اضطروا للهجرة لانقاذ أنفسهم و الحصول علی محيط أكثر استعدادا و قد تشاوروا فيما بينهم عن المكان الذي سيذهبون إليه ثمّ كان قرارهم: وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ فَأْوُوا إِلَی الْكَهْفِ‌. حتی: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً.

‏«يهيّئ» مشتقة من «تهيئة» بمعنی الإعداد. «مرفق» تعني الوسيلة التي تكون سببا للطف و الرفق و الراحة، و بذا يكون معنی الجملة وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً أنّ الخالق سبحانه و تعالی سيرتب لكم وسيلة للرفق و الراحة.

‏و ليس من المستبعد أن يكون (نشر الرحمة) الوارد في الجملة الأولی إشارة إلی الألطاف المعنوية للّه تبارك و تعالی، في حين أنّ الجملة الثّانية تشير إلی الجوانب المادية التي تؤدي إلی خلاصهم و نجاتهم.

‏ملاحظات‌

‏١- الفتوة و الإيمان‌

‏تتزامن روح التوحيد دائما مع سلسلة من الصفات الإنسانية العالية، فهي تنبع منها و تؤثّر فيها أيضا، و يكون التأثير فيما بينهما متبادلا. و لهذا السبب فإننا نقرأ في قصّة أصحاب الكهف أنّهم كانوا فتية آمنوا بربّهم.

‏و علی هذا الأساس قال بعض العلماء: رأس الفتوة الإيمان.

‏و قال البعض الآخر منهم: الفتوة بذل الندی، و كف الأذی، و ترك الشكوی.

‏و البعض الثّالث فسّر الفتوة بقوله: هي اجتناب المحارم و استعمال المكارم.

‏٢- الإيمان و الإمداد الإلهي‌

‏في عدّة مواقع من الآيات أعلاه تنعكس بوضوح حقيقة الإمداد الإلهي للمؤمنين، فإذا وضع الإنسان خطواته في طريق اللّه، و نهض لأجله فإنّ الإمداد الإلهي سيشمله، ففي مكان تقول الآية: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدیً‌.

‏و فی مكان آخر تقول: وَ رَبَطْنا عَلی‌ قُلُوبِهِمْ‌. و في نهاية الآيات كانوا بانتظار رحمة الخالق:يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ‌. الآيات القرآنية الأخری تؤيد هذه الحقيقة بوضوح، فعند ما يجاهد الإنسان من أجل اللّه، فإنّ اللّه يهديه إلی طريق الحق: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا

[العنكبوت، الآية الأخيرة.]

١ و في سورة محمّد صلّی اللّه عليه و آله و سلّم آية (١٧) نقرأ قوله تعالی: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدیً‌.

‏إنّ طريق الحق ملي‌ء بالموانع و الصعوبات، و من العسير علی الإنسان طي هذا الطريق و الوصول إلی الأهداف من دون لطف اللّه و عنايته.

‏و نعلم أيضا إنّ لطف اللّه أكبر من أن يترك العبد في طريق الحق لوحده.

‏٣- ملجأ باسم الغار

‏إنّ وجود (أل) التعريف في كلمة «الكهف» قد تكون إشارة إلی أنّهم (أصحاب الكهف) كانوا مصممين علی الذهاب إلی مكان معين في حال عدم نجاح دعوتهم التوحيدية، و ذلك لإنقاذ أنفسهم من ذلك المحيط الملوّث.

‏(الكهف) كلمة ذات مفهوم واسع، و تذكرنا بنمط الحياة الابتدائية للإنسان، حيث ينعدم فيه الضوء، و لياليه مظلمة و باردة، و تذكرنا بآلام المحرومين، إذ ليس ثمّة شي‌ء من زينة الحياة المادية، أو الحياة الناعمة المرفّهة.

‏و يتّضح الأمر أكثر إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أنّ التأريخ ينقل لنا أنّ أصحاب الكهف كانوا من الوزراء و أصحاب المناصب الكبيرة داخل الحكم. و قد نهضوا ضدّ الحاكم و ضدّ مذهبه، و كان اختيار حياة الكهوف علی هذه الحياة قرارا يحتاج إلی المزيد من الشهامة و الهمّة و الروح و الإيمان العالي.

‏و في هذا الغار البارد المظلم الذي قد يتضّمن خطر الحيوانات المؤذية، هناك عالم من النور و الإخلاص و التوحيد و المعاني السامية.

‏إنّ خطوط الرحمة الإلهية متجلية علی جدران هذا الغار، و أمواج لطف‌ الخالق تسبح في فضائه، ليس هناك وجود للأصنام من أي نوع كانت، و لا يصل طوفان ظلم الجبارين إلی هذا الكهف.

‏هؤلاء الفتية الموحدون تركوا الدنيا الملوثة الواسعة و التي كان سجنا لأرواحهم و ذهبوا إلی غار مظلم جاف. و فعلهم هذا يشبه فعل النّبي يوسف عليه السّلام حين أصروا عليه أن يستسلم لشهوة امرأة العزيز الجميلة، و إلّا فالسجن الموحش المظلم سيكون في انتظاره، لكن هذا الضغط زاد في صموده و قال متوجها إلی ربّه العظيم: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ‌٢.

*مقتطف من تفسير الأمثل الهوامش: ‏١ العنكبوت، الآية الأخيرة. ‏٢ يوسف، ٣٣
2024/05/05

من هو «الأعمى»؟!
في القرآن الكريم تعابير لطيفة في وصف المشركين والظالمين، حيث يصفهم هنا ب (الأعمى) وهذا الوصف كناية عن الحقيقة التي تقول بأنّ الحق يكون واضحا دوما وفي متناول البصر إذا كانت هناك عين بصيرة تنظر، العين التي تشاهد آيات الله في هذا العالم الواسع، العين التي تعتبر الدروس المكتوبة على صفحات التأريخ؛ العين التي تشاهد عاقبة الظالمين والمستكبرين، العين التي تنظر الحق دون غيره.

أمّا عندما تكون هناك ستائر وحجب الجهل والغرور والتعصّب والعناد والشهوة أمام هذه العين، فإنّها لا تستطيع مشاهدة جمال الحق بالرغم من أنّه غير محجوب بستار.

وفي حديث عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير الآية نقرأ : «من لم يدله خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ودوران الفلك والشمس والقمر والآيات العجيبات، على أن وراء ذلك أمر أعظم منه، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا» (١).

وجاء في روايات مختلفة في تفسير هذه الآية أنّها تعني الشخص الذي يكون مستطيعا للحج ولكنّه لا يؤديه حتى نهاية عمره (٢).

وبدون شك فإنّ هذا المعنى هو أحد مصاديق الآية وليس كلّها. وقد يكون ذكر هذا المصداق والتأكيد عليه من زاوية دفع المسلمين للمشاركة فيه لمشاهدة هذا الاجتماع الإسلامي العظيم، بما يحويه من أسرار عبادية ومصالح سياسية تتجلى لعين الإنسان يحضر الموسم، ويتعلم الحقائق الكثيرة والمتعدّدة منه.

وفي روايات أخرى ورد أنّ «شرّ العمى عمى القلب» (٣).

على أي حال ـ كما قلنا سابقا ـ فإنّ عالم القيامة، هو انعكاس لهذا العالم في كل ما يحويه وجودنا من أفكار ومواقف ومشاعر وأعمال. لذلك نقرأ في الآيات ١٢٤ ـ ١٢٦ من سورة طه ، قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى).

الهوامش: __________________ (١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٩٦. (٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٩٦ ـ ١٩٧. (٣) المصدر السابق.
2024/04/20

تفسير الفاتحة: البيان التفصيلي للسورة.. «آية الله السيد محمد باقر السيستاني»
وتفصيل الكلام في هذه السورة يقع في أبحاثٍ تدور حول كل واحدة من آياتها السبع:

الآية الأولى: هي البسملة.

وفيها خمسة أبحاث حول المعنى التركيبي، والكلمات الأربع (الاسم، الله، الرحمن، الرحيم)، ولم نخصّ الباء ببحث إيجازاً، وأشرنا إلى القول فيها في البحث حول المعنى التركيبي.

البحث الأوّل: في المعنى التركيبي للبسملة.

وفيه إيضاحات عدة معنوية ولفظية وهي كما يلي:

1 ــــ في توضيح مضمون البسملة

الإيضاح الأوّل: لا شكّ أنّ مضمون البسملة إنّما جاء كأدب مناسب لأوّل الرسالة الإلهية، وهذا أدب معهود في الرسائل الشخصية من قبل، كما جاء في القرآن الكريم عن سليمان (عليه السلام) أنّه كتب إلى ملكة سبأ: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾([1])، كما أنّ أدب الابتداء باسم الإله كان معهوداً في الجاهلية، حيث كانوا يقولون في بداية الرسائل على ما حُكي([2]): (بسمك اللهم)، وكلمة (اللهم) ذكرٌ لله سبحانه، لأنّ كلمة (اللهم) تتألف من كلمة (الله) ومن الميم المشدّدة، وهذه الميم على أقرب الأقوال تفيد معنى النداء، وهي في ذلك تناسب بعض اللغات المشتركة مع العربية في أصولها من كون حرف النداء ميماً يلحق بآخر الكلمة، فلعل العربية أخذت هذه الكلمة فيها بالاختلاط.

وربما حُكي أنّ بعض المشركين كانوا يقولون (بسم اللات والعزى) أو يسمّون باسم سائر أصنامهم([3]).

وبناء على ذلك فقد جاءت البسملة في بداية السور القرآنية من باب حسن ابتداء الرسالة بالبسملة كأدب.

وهنا نلفت النظر إلى أمور:

1-إنّا نعني بالرسالة الرسالة التي تتمثل في كل سورة في حدِّ نفسها، وليست الرسالة التي تتمثل في القرآن الكريم مجموعاً، إذ ليست سورة الحمدُ هي أوّل القرآن الكريم نزولاً وإن كانت قد جُعلت أوّله في المصحف من دون أخواتها القصار التي جُعلت في آخر المصحف تمييزاً للفاتحة لأهميتها ووجوب تعلمها بخصوصها لكونها جزءاً ثابتاً من الصلاة، فالقرآن الكريم بمثابة رسائل نصية متوالية من الله سبحانه، تُمثل كل سورة منها رسالة مستقلة.

بيان ذلك: أنّ القرآن أُنزِل على أنه رسالة نصية من الله سبحانه إلى الخلق كما هو ظاهر، ولأجل ذلك سُمّي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالرسول كما سُمِّي سائر الأنبياء المبعوثين إلى أقوامهم بالرسل في مئات الآيات القرآنية، وعُبّر عما بُعثوا به بالرسالة، كقوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي﴾([4])، ﴿اللَّـهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾([5])، ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي﴾([6])، ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ﴾([7])، ﴿لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ﴾([8])، ﴿إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِسَالَاتِهِ﴾([9])، ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾([10]).

ثمّ كل سورة قرآنية هي رسالة مستقلة من الله تعالى، لأنّ السورة هي كلام تام، لها بداية مقصودة ونهاية مقصودة وانفصال مقصود واستقلال منظور عن سائر السور الأخرى، فكانت بداية السورة بالبسملة تطبيقاً لهذا الأدب وهو ابتداء الرسالة بأدب البسملة.

2-إنّا نعني بالسورة التي روعي الابتداء فيها بالبسملة في القرآن الكريم هي السورة وفق إطلاق المصحف، فهي التي تبدأ بالبسملة، فلكلمة (السورة) إطلاق آخر وهي كل فقرة مقصودة لذاتها سواء كانت سورة مستقلة أم جزءَ سورةٍ، وبناء على ذلك قد تعتبر السورة الواحدة من السور الطوال التي نزلت متفرقة ولغايات متعددة مثل سورة البقرة سوراً متعددة باعتبار آخر، وربما قيل إنّ هذا المعنى هو المراد بالسورة في الإطلاق القرآني كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾([11])، فهي تعني مجموعة آيات تتضمن ذكر القتال وإن لم تكن لوحدها سورة في المصحف.

لكن إطلاق السورة على جزء من السور الطويلة كالبقرة لا ينافي صحة التعبير عن جميع تلك السورة الطويلة التي هي من هذا القبيل أيضاً بالسورة الواحدة بالنظر إلى التنظيم الكلي النهائي المقصود في الكلام، حيث كان من المقصود في السور الطوال التي نزلت متفرقة ضمّ بعضها إلى بعض في سياق واحد ومتصل ومستقل عما سواه، فصح أن يطلق عليها أنها سورة واحدة بهذا الاعتبار.

إذاً للسورة إطلاقان:

أ-إطلاق قرآني واسع([12]) ـــ يبدو أنه كان هو الأصل ـــ وهو إطلاقها على كل فقرة نزلت مستقلةً لغاية منظورة بها.

ب-وإطلاق أخص على كل مجموعة من الكلام اعتبرت في النهاية كُلاً واحداً، وهذا هو الإطلاق الذي شاع وغلب لاحقاً، وعليه جرى تصنيف السور في المصحف.

 ووفق هذا الإطلاق تنقسم السور القرآنية إلى قسمين:

منها: سور ذات وحدة حقيقية واضحة، منها سورٌ قصارٌ مثل سورة الحمد، ومنها سورٌ طوالٌ مثل سورة يوسف (عليه السلام).

ومنها: ذات وحدة اعتبارية، ونعني أنّها قد ضُمّنت فقرات نزلت متفرقة لأغراض مختلفة مثل سورة البقرة وآل عمران.

والبسملة أدب للسورة بهذا الإطلاق الثاني الذي جرى عليه المصحف، وليس بالإطلاق القرآني الأوّل الذي تكون به السورة الطويلة كالبقرة عدة سور، ولذلك فإنّ ابتداء فقرة قرآنية ما بالبسملة وابتداء الفقرة التي تليها ايضا بالبسملة دليل على أنّ تلك الفقرة سورة كاملة مستقلة بهذا المعنى.

3-إنّ التسمية أو البسملة إنما هي أدب للرسالة الكتبية وما بمثابتها، وليست لكل رسالة ولو كانت شفوية.

بيان ذلك: أنّ الرسالة قد تكون شفوية بالمعنى أو بالنص، وقد تكون كتبية، وقد تكون شفوية بمثابة الكتبية.

والرسالة الشفوية المحضة قد لا تقتضي أدباً إضافياً، كما نجد ذلك في العرف، فلو بلّغ أحد كلاماً لشخص آخر من خلال رسولٍ فإنه لا يضمن كلامه التسمية أو البسملة، وإنما قد يُضمنه السلام، فيقول الرسول (سلّم عليك فلان ويقول كذا)، وإنّما ذلك شأن الرسالة الكتبية وما بمثابتها.

والمقصود بما بمثابة الرسالة الكتبية أن تكون الرسالة شفوية، ولكن تكون نصيّة ويكون المراد حفظها وكتابتها وبقاؤها لاطلاع الآخرين ـــ من نفس الجيل وربما الأجيال اللاحقة ـــ على نصها.

والقرآن الكريم هو بهذه المثابة، فهو وإن كان كلاماً شفوياً ألقاه جبرائيل (عليه السلام) على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليبلّغه للناس ولم ينزل على شكل قراطيس وألواح كألواح موسى (عليه السلام) من السماء، ولكن اعتُبر وفق الآيات القرآنية نفسها منذ نزوله كتاباً وصحيفة، بمعنى أنّ من شأنه أن يُكتب ويُحرر ويحتفظ به كما هو الحال في الكتب الأخرى، كما بيّنا ذلك في مباحث النبوة في الدين([13]).

ولذلك اتخذ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ البداية كاتباً أو كتبةً مضافاً إلى عنايته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتحفيظ القرآن للمسلمين ليبقى، وإنشاء الكلام وإلقاؤه شفوياً لكي يُكتب ويبقى ظاهرة معهودة، فالقصائد كثيراً ما تُلقى لتُكتب وتَبقى، وقد جاء أنّ العرب كتبوا المعلقات السبع لشعراء الجاهلية وعلقوها بالكعبة.

ولا تختص هذه الحالة في الرسالات بالقرآن الكريم، فالرسائل الإلهية كانت تنزل على أنّها كتب وصحائف منذ عرف الإنسان الكتابة والصحيفة، كما قال سبحانه: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾([14])، وذلك لكي تبقى هذه الرسالات محفوظة على وجه موثوق لسائر الناس والأجيال وتتم بها الحجة عليهم.

إذاً لاحظنا بهذه الجهة أنّ البسملة أدبٌ، وابتداء الفاتحة وسائر السور القرآنية بالبسملة يندرج ضمن أدب ابتداء الرسالة بالبسملة والتسمية.

هذا بيان حقيقة البسملة ومحتواها، فحقيقتها هي نوع من الأدب ملائم لابتداء الرسائل.

الهوامش: ([1]) سورة النمل: آية 30ــــ31. وربما يقال: في حديث رسالة سليمان في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، أنّه لم يقع الابتداء بالبسملة لتقدم قوله: (إنه من سليمان) على البسملة، وإذا كان الابتداء فيها قد وقع بالبسملة اقتضى تأخير هذه الجملة عن البسملة كما يرد في رسائل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورسائل أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد البسملة (من محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الملك الفلاني)، أو (مِن عبد الله علي أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان). والجواب: إنه لم يتبين من سياق الآية أنّ قوله (إنه من سليمان) كان جزءاً مما كتبه سليمان، بل قد يكون إيضاحاً من ملكة سبأ، لأنّ حكاية مضمون الرسالة إنما جاء نقلاً عنها حيث إنها:﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (سورة النمل: آية 29 ـــ 30)، فهي إذاً أخبرتهم: (أنّ هذا الكتاب الكريم من سليمان..)، ولا دلالة لهذا العرض على أنّ جملة (إنه من سليمان) كانت مكتوبة في الرسالة، وإذا فُرِض أنّ سليمان (عليه السلام) كان قد كتب (من سليمان) فمن الجائز أن يكون مكتوباً على الظرف ـــ إن كان ـــ أو على أعلى الورقة قبل ابتداء الرسالة كما كان من المتعارف في الزمان السابق أن يكتبوا على غلاف الرسالة أو ظهرها: (ليصل إلى محضر العالم الفلاني) مثلاً، ولا تشتمل بداية الرسالة حينئذٍ على ذكر المرسل إليه، كما أنّ من الجائز أن يكون سليمان قد كتب في أوّل الرسالة (من سليمان إلى ملكة سبأ) أو كتب ذلك في آخر الرسالة، إلا أنّ ملكة سبأ وجدت عند عرضها للرسالة أنّ من المناسب أن يذكر أوّلاً مرسل الرسالة ثم مضمونها، ولما ذكرت المرسل أوّلاً لم تكرر ذكره الوارد في مضمون الرسالة. ([2]) لاحظ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: (6/86 ـــ 87): (قال (الواحدي) في أسباب نزول الآية: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُل هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}: قال أهل التفسير: نزلت في صلح الحديبية، حين أرادوا كتاب الصلح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم). فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن، إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب. اكتب باسمك اللهم. وهكذا كانت الجاهلية يكتبون، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية). وأيضاً في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 6/113(وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين الوثنيين كانوا يفتتحون كتبهم بجملة (باسمك اللهم)..). ([3]) لاحظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 6/113، قال: (كانت عوائدهم القديمة افتتاح رسائلهم بأسماء آلهتهم كاللات والعزى). ([4]) سورة الأعراف: آية 93. ([5]) سورة الأنعام: آية 124. ([6]) سورة الأعراف: آية 62، وآية 68. ([7]) سورة الأحزاب: آية 39. ([8]) سورة الجن: آية 28. ([9]) سورة الجن: آية 23. ([10]) سورة الأعراف: آية 144. ([11]) سورة محمد (صلى الله عليه وآله): آية 20. ([12]) التعبير عنه بـ(واسع) إنما هو لأنه أوسع ـــ من الإطلاق الثاني ـــ، لأنّه يستعمل في الجزء من السور الطوال الذي نزل مستقلاً. ([13]) منهج التثبت في الدين: 5/16 وما بعد القسم الثالث (رسالة الله إلى الإنسان). ([14]) سورة الأعلى: آية 19.
2024/04/07

تفسير سورة الفاتحة: أهم مضامين السورة من «آية الله السيد محمد باقر السيستاني»
تفسير سورة الحمد([1]).. إنّ ألفاظ هذه السورة ومعانيها سهلة وواضحة، فهي لا تتضمّن مفردات غريبة أو معاني تركيبية معقدة ولو على وجه التعقيد العارض كما قد يتفق في بعض السور والآيات القرآنية، ولكننا نريد أن نتأملها مزيد تأمل ونستنطقها عن المعاني العامة المنظورة بها.

موضع السورة نزولاً: وهي على المشهور السورة الخامسة في النزول بعد العلق والقلم والمزمل والمدثر، وقيل إنها الثانية وقيل إنها الأولى، وهي على كل حال من السور القصار الأوائل، ولذا ينبغي النظر في مقام تفسيرها إلى موقعها.

لكننا مع ذلك تحدثنا عن البسملة فيها حتى كأنها أوّل السور المشتملة عليها وإن كان الذي رجحناه كون البسملة جزء من سورة العلق وسائر السور التي قد تكون قد نزلت قبلها [أو بعدها]، على أنّ سورة العلق على كل حال هي أوّل سورة تتضمن أدب التسمية إذ جاء فيها بعد البسملة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾([2]) إلا أنّ حديث المفسرين عن التسمية في سورة الحمد اقتضى حديثنا أيضاً عنها في هذا الموضع.

البيان الإجمالي لسورة الحمد

ونتطرق أوّلاً لتوضيح إجمالي لمفاد هذه السورة، ثم نعود إلى الحديث عن كل فقرة فيها لتأمّل مداليلها أو بعض ما شابها في كلمات بعض الباحثين تفصيلاً.

تتميّز هذه السورة بين السور القصار أنّها تركز على إثبات كل الأمور الراجعة إلى الإله لله سبحانه حصراً ونفيها عمّا يعبد مع الله سبحانه أو من دونه، فالله سبحانه هو المستوجب للحمد في ما يشهده الإنسان في الكون من الإبداع وينتفع به من نِعَمٍ، وهو رب الإنسان ـــ المعني به ـــ كسائر العالمين، وهو الذي يرحم الإنسان في مواضع الحاجة، وهو صاحب يوم القيامة الحاكم فيه، ولذلك فإنّ الإنسان الراشد الواعي يعبد الله سبحانه وحده ويستعين به ويستهديه في مسيرته في هذه الحياة التي تنتهي إلى الله سبحانه، فهذه السورة هي رسالة إلهية قصيرة ومعبّرة إلى الخلق.

الآية الأولى

وقد بدأت بالأدب الذي أُسس له منذ السورة الأولى وهي سورة العلق، حيث بُدئ فيها ـــ أي سورة العلق ـــ بالبسملة لتكون جملة منسقة مشتركة بين بدايات السور، وأُوضحَت هذه البسملة بقوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾([3])، فكانت البسملة بياناً للأدب اللائق لبداية الرسالة الإلهية كما كانت أدباً متعارفاً قبل الإسلام في الرسائل، وقد جاء أنهم كانوا يكتبون: (بسمك اللهم)([4])، وجاء قبل ذلك بمئات السنين عن سليمان (على نبينا وآله وعليه السلام) ـــ الذي ذكر أنه تُوفي سنة (914) قبل الميلاد ـــ أنه كتب في رسالته إلى ملكة سبأ: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ﴾([5])، فكانت بداية الرسالة تسمية لله سبحانه.

فهذا فيما يبدو أدب كان سائداً، وربما كان هذا الأدب مما أرساه الله سبحانه من خلال رسله (عليهم السلام)، ثم وقعت تسريته إلى سائر الآلهة وغيرها.

وقد اختير في هذا الأدب توصيف الله سبحانه بالرحمن كلقبٍ له، وهو لقب كان معهوداً في القسم [الجنوبي الغربي] من الجزيرة العربية ـــ أي اليمن ـــ، وربما كان من آثار الرسل السابقة في تلك البقعة أو غيرها، وكأن هذا الاختيار كان لأمرين:

1-رفع توهم تعدّد الآلهة في الجزيرة العربية وإزالة العصبية بين أهل الجزيرة وبين أهل اليمن في الإله المعبود، حيث كان التعبير السائد عند أهل الجزيرة عن الله سبحانه هو لفظ الجلالة (الله)، والتعبير السائد عند اليمنيين هو (الرحمن)، وربما يكون مثل هذا التعدد مبعثاً للمِراء والمجادلة بأنّ الإله الأعظم لأهل الجزيرة غير الإله الأعظم لأهل اليمن وما إلى ذلك، فاستُخدم لفظ (الرحمن) لدفع توهم تعدد الآلهة([6]).

2-التعبير عن الصفة المميزة التي يُحب الله سبحانه أن يُعرف بها كلقب له، فإنّ الألقاب تعبّر عن الصفات المميزة للأسماء، مثل لقب الأمين للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الجاهلية، ولقب الرسول له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الإسلام، ولقب أمير المؤمنين للإمام علي (عليه السلام)، ولقب زين العابدين لحفيده علي بن الحسين (عليهم السلام) وهكذا، فالرحمان المعبِّر عن سعة الرحمة بصيغة المبالغة فيها هو الوجه الذي أراد الله سبحانه أن يكون لقبه الخاص بين عباده كما قال سبحانه: ﴿رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾([7])، فجعلت صفة الذات الإلهية العامة هي الرحمة تعبيراً عما يليق بها وليكون ذلك باعثَ اهتداءٍ إليه، إذ كانت حاجة الفرد إلى الإله إنّما هي رغبةً في رحمته وعنايته.

وقد أكّد ذلك بصفة (الرحيم) لأنّ البُعد الوصفي في اللقب يضعف بصيرورته لقباً، بل قد تبقى دلالته على معناه الوصفي كتلميح فقط من غير تركيز عليه، وربما يُغفل عنه، فعقّب سبحانه كلمة الرحمن عنايةً بتمثيل صفة الرحمة عن نفسه بلفظ (الرحيم) ليؤكد على صفة الرحمة قبل كل شيء في بداية الكلام ليكون مخرج الكلام منذ بدايته مخرج الاسترحام والاستعانة بالله سبحانه وليبطل الالتجاء لطلب الرحمة من الأصنام في مستوى الشرك كما كانت عليه البيئة التي نزلت الآية فيها.

فهذا المعنى الذي تمثله البسملة على الإجمال، وذلك أمر مشترك بين سورة الحمد وسائر السور بعد ما تقدّم من أنّ البسملة جزء من السور جميعاً، وأنّ سورة الحمد ليست هي أوّل السور نزولاً، وإنّما سلمت سورة الحمد عن توهم أنّ البسملة ليست جزءاً منها إلى حدٍ كبير بالمقارنة مع باقي السور باعتبار الإشارة إلى عدد آياتها في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾([8])، ووقوع التركيز عليها في بداية الصلاة والمواظبة المروية على البسملة فيها من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإلّا فالبسملة جزء مشترك بين السور على ما رجحناه ولا تمتاز بها هذه السورة عن غيرها.

وأما امتياز هذه السورة عن باقي السور القصار فهي بما بعد البسملة من مضامين السورة.

الآية الثانية

لقد كانت هذه السورة مميزة بين السور بالثناء الجميل على الله تعالى وشد الإنسان إليه تعالى رغم قصرها، فبدأت بحمد الله سبحانه معبِّرةً بذلك أنّ كل حمد يُستوجَب بموجب الألوهية في هذا الكون والوجود فهو كله لله سبحانه مشيرةً بهذا إلى أنّه تعالى الإله الوحيد للخلق والمخلوقات كلّها والمدبّر لأمورها، فكل حمد وثناء يحفّز عليه هذا الوجود بما فيه من أنواع الخلق والمخلوقات وبدائع صنعها وسنّ سننها والملاءمة بينها سواء في البعد الكوني العام في السماء والأرض أو في البعد المتعلّق بالإنسان نفسه من حيث خلق الإنسان في أحسن تقويم وجعله في ضمن مجتمع يتناسل ويكون له أولاد وأقرباء وحفدة وأصحاب ويكون الناس شعوباً وأقواماً يتضامنون في المصالح، أو كان في سائر أنواع الكائنات من الحيوانات والنباتات وتسخيرها للإنسان، فللّه سبحانه الحمد في صناعة كل ذلك وتدبيره كما تواتر ذكر هذا المعنى في السور القرآنية المتوسطة والمفصلة.

وهذا الكون بما فيه من دقائق وإبداع ينطق كله بالحمد والثناء لله سبحانه، ولكننا قد نحتاج إلى نفض غبار الاعتياد عنه، ولولا الاعتياد على هذا الكون لشعرنا بمدى مستوى الإتقان والإبداع والقدرة والدقة في تفاصيل هذا الكون وفي أنواع الكائنات والملاءمة بينها وسننها وخصوصياتها حقاً كما يعرض القرآن الكريم في كثير من آياته، فهذا الكون معرض الصنائع الإلهية والقدرة الإلهية والفن والإبداع الإلهي، وكل هذه المقدرة والفن والإبداع من يُثنَى عليه بها هو الله سبحانه حقاً، فإذا أثنينا على شيء بأن قلنا ـــ مثلاً ـــ كم هذه الزهرة جميلة، كم هذا الشيء عجيب، كم هذا الشيء مذهل، كم هذه السماوات واسعة، فذلك ثناء على الله سبحانه، وإذا نطقنا بحمد وثناء وإعجاب وإكبار لشيءٍ ما في الكون من الإنسان، وقدراته، وقابليته على الاكتشاف والاختراع والاهتداء والتحليل والتفكير، وكل ما أثنينا به في شيء ومدحنا شيئاً وأُعجبنا بشيء وراقنا شيء فهذا الحمد في الحقيقة يعود إلى الله سبحانه، فالإنسان يبدي الإعجاب بالمعرض الكوني والمعروضات فيه ولكنه لغفلته لا يعرف صاحب هذا المعرض ولا ينتقل إلى صاحب هذا المعرض، فالحمد حقاً كله لله سبحانه.

ثم نَبَّه الله سبحانه على ربوبيته للعالمين كلهم بقوله بعد الحمد لله: (ربّ العالمين)، وذلك أنّ للّه سبحانه دَوْران:

دور الخلق: الذي كانت تعترف به الأقوام عموماً، وكان محل إذعان العرب في الجزيرة رغم شركهم، قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ﴾([9]).

ودور الربوبية: وهو دور التعهد بتدبير الخلق وقضاء حوائجهم وأمورهم، وهو المعبَّر عنه بدور الربوبية، فرَبُّ الشيء هو الذي يكون صاحبه المعني به، مثلاً: ربُّ الغنم يطلق على مالك الغنم باعتبار عنايته، وقد يطلق على الراعي الذي يدبرها ويذهب بها للرعي.

فالربوبية تعني أنّ الرب صاحب هذا الشيء والمعني به.

هذا، وكأنّ الناس بطبيعتهم يميلون إلى اتخاذ إله أدنى مشهودٍ لهم، قريب إلى أحاسيسهم، يتكفل حوائجهم ويُعنى بهم، ولذا كانت الأديان التوحيدية دائماً تُحرَّف إلى أديان شركية، وربما تتمحّض في الشرك أصلاً أو يُترك فيها الله سبحانه تدريجاً؛ لأنّ هذا الكائن الأدنى يتبدل إلى الأيقونة التي يتمثل فيها الإله، ولا يعتقدون بشيء وراءه، فهذا من الميول البشرية الملحوظة، والتي أفسدت كثيراً من الأديان كدين المسيح (عليه السلام).

وربما كانوا يعتقدون بأنّ هذا إله أدنى وفي السماء إله أعلى، وكأنّ الإله الأعظم ــــ وهو الله سبحانه ــــ غير معني بالأرض وبالإنسان، إذ ليس قريباً منهم، فهو ـــ مثلاً ـــ معني بالملائكة الذين هم في السماء، فيحتاج الإنسان إلى ربٍّ يتعهده ويتكفل حوائجه، ومثل هذه الأوهام هي سبب بحث الناس عن آلهة أخرى.

فالمراد بقوله ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ التأكيد للناس في سياقٍ مرتبطٍ بالرحمة الإلهية العامة أنّه سبحانه معني بالإنسان وهو ربه وصاحبه كما قال عز من قائل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾([10])، فلماذا يذهبون يميناً وشمالاً؟ ولماذا يبحثون عن أرباب مصطنعة؟ ولماذا يتيهون؟ فهو سبحانه ربّ العالمين كلهم، وليس خصوص الملائكة التي كان بعض العرب يفترض أنّ الله سبحانه معني بها وهي بنات الرحمن باعتبارها في السماء مثلاً حسب طرق تفكيرهم، ولذلك قال عز من قائل في رد هذا الوهم: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَـهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَـهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾([11])، إذن هؤلاء يعتبرون الله تعالى إلهاً معنياً بالسماء وأنّه لا يعتني بالبشر، ولذلك قال الله سبحانه: إنّه رب العالمين جميعاً.

الآية الثالثة

وعقّب ذلك سبحانه مرة أخرى بالرحمن الرحيم تأكيداً على ما يحتاجه الإنسان من جهة ضعفه البالغ في نفسه وفي خضم تحديات هذه الحياة من الرحمة في شؤونه كلها، فهو سبحانه فاتحٌ أبواب عطائه بالرحمة للخلق، فربوبيته للخلق هي ربوبية رحمة ورفق وتيسير، وهذا المعنى من شأنه أن يشدَّ الإنسان إلى الله تعالى ويوجه أمله إليه، لأنّ الإنسان يبحث عن اللفتة الحانية والرحيمة والودودة والرؤوفة.

فلم يكتفِ سبحانه بذكر الرحمن الرحيم في البسملة، وكأنه من جهة أنّ البسملة بعد أن أصبحت أدباً عاماً لبداية الكلام قلّ التركيز فيها بالنسبة إلى ما يَرِد فيها من توصيف، فلذلك اعتنى بتكرار هذا المعنى تأكيداً على أنّ ربوبيته ربوبية رحيمة ومقرونة بالرحمة مؤكداً، كما يقتضيه لقبه: الكريم (الرحمن).

الآية الرابعة

ثمّ عقّب ذلك سبحانه بـ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، بلسان فارغ عن ثبوت يوم الدين الذي كانت كثير من الأقوام لا تؤمن به، مثل عامة العرب في مكة والجزيرة العربية، وهم يرون فناء الإنسان بالممات، ويرجون الإله لشؤون الحياة، وفي هذا ما قد يؤشّر إلى أنّ هذه السورة حيث تكلمت بلسان المفروغية عن وجود يوم الدين يمكن أن تكون قد نزلت عقيب الأخبار عن وجود هذا اليوم كما جاء في سورة العلق قبلها: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾([12])، وجاء أيضاً في سورة القلم والمزمل والمدثر، وهناك سور عديدة قصار من الجزء الثلاثين (جزء عم) والجزء التاسع والعشرين (جزء تبارك) خُصصت لإثبات يوم الدين، مثل سورة التكوير (السابعة في النزول، والتكاثر (السادسة عشر بحسب النزول) والقارعة (الثلاثين في النزول) والقيامة (الواحد والثلاثين في النزول).

لقد لفتت هذه الآية الإنسان إلى أنّ أبعاد حياته وحاجته إلى رحمة الله سبحانه، وأنّ أبعاد ربوبية الله سبحانه للإنسان لا تنحصر بهذه النشأة الدنيا، فللإنسان موعد مع يوم الدين والجزاء مما يعني أنّه يُجازى بأعماله في هذه الحياة في نشأة لاحقة، وتلك نشأة لم يترك الله سبحانه فيها الأمور لطبيعتها ولم يُخفِ دوره فيها، بل يتجلى ملكه فيها دون خفاء وحجاب، فهذه النشأة الدنيا قد يكون استحضار الإنسان فيها مُلكَ الله تعالى بحاجة إلى الاستنطاق والتنبّه خصوصاً أنّ الله سبحانه حليم عفوّ، أجرى الأمور على سنن وإن كان هو المدبر لها آناً فآناً، فهذا المشهد قد يُفضي بالإنسان إلى الغفلة، لكن في اليوم الآخر يتجلى ملك الله تعالى بوضوح: ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾([13])، والإنسان أحوج ما يكون إلى رحمة الله تعالى ولطفه في تلك الحياة بحسن الاستجابة له في هذه الحياة، وبذلك أشارت هذه الآية إلى أنّ الإنسان سائر إلى الله تعالى بخطواته في هذه الحياة، فهو لن يعيش هذه الحياة ليفنى من دون غاية قد أُعدّ لها وعليه أن يسعى إليها.

الآيتين الخامسة والسادسة

ثم بعد بيان تفرده سبحانه بالحمد كله وبالمُلك في غدٍ وعنايته بالخلق بالرحمة والربوبية حوّر الخطاب من توصيف الله سبحانه لنفسه إلى إقرارٍ ودُعاءٍ يعلّمه للإنسان يمثّل الاستجابة المناسبة من الإنسان لتلك الصفات، ويخاطب فيه الإنسان الله سبحانه مذعناً ومستعيناً به سبحانه، وتتمثل الاستجابة المطلوبة من الإنسان في أمور ثلاثة مفصلية هي لبّ ما ينبغي أن يمثل علاقة الإنسان بالله سبحانه وهي: العبادة، والاستعانة، والاستهداء.

فالأوّل: إذعان الإنسان بألوهية الله سبحانه حصراً وذلك بعبادته سبحانه وحده اعتقاداً وإذعاناً وعملاً، والعبادة هي الخضوع اللائق للإله، فهي تكون للإله حصراً، فالتوحيد في العبادة يعني التوحيد في الألوهية والربوبية.

وهذه الفقرة تكون استجابةً من الإنسان لتوصيف الله سبحانه بأنّه المحمود بكل حمدٍ مستوجبٍ، وهو ربّ الإنسان كسائر العالمين، وهو مالك الأمور في هذه الحياة وفي النشأة الأخرى جميعاً، فالاستجابة لهذه المعاني أن يقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، فلا يوجد شيء غير الله سبحانه، فإذا كان الحمد يعود إليه في كل شيء وهو رب كل شيء ومعني بكل شيء وهو المالك لكل شيء فلا يبقى محلٌ لافتراض إله ورب ومعبود غير الله سبحانه، لأنّ الإنسان إنما يبحث عن آلهة لأنه يريد عناية واهتماماً، فربما يتصوّر أنّ الآلهة التي اتخذوها غير الله تعالى تملك شيئاً ولها دور تُحمَد عليه تجاه الإنسان! فإذا كانت لا تملك شيئاً وكان الحمد كله لله تعالى وهو سبحانه المتكفل بربوبية العالمين جميعاً وهو سبحانه المالك للحياة الأخروية التي ينتهي إليها الإنسان، فإنّ المفروض بالإنسان أن يعبد الله تعالى وحده: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، فهذا استجابة مناسبة للمعاني المتقدمة.

الثاني: الاستعانة بالله تعالى حصراً فيما يستعان فيه بالإله، قال تعالى: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فالإنسان في كثير من الحالات تضيق الأسباب الدنيوية عنه ويتمنى عوناً من الإله، وهذا أمر طبيعي وفطري للإنسان، فكما يحتاج الإنسان إلى الاستعانات الطبيعية التي جعل الله سبحانه لها أسباباً كالاستعانة بالقرابة والجيران والآلات والأجهزة، فإنه أيضاً يحتاج إلى الاستعانة فيما هو فوق هذه الأسباب وهو الإله القادر، وهذا الأمر هو من أهم أسباب نزوع الإنسان إلى الإيمان بالإله، فهو مطبوع على الشعور بالحاجة إلى كائن أعلى.

ويتفرع التوحيد في الاستعانة على الإذعان بالتوحيد بالألوهية والربوبية والملك لله سبحانه، فهو استجابة لما أبداه سبحانه من رحمته بالخلق وتعهده بربوبيتهم بنفسه، فالله سبحانه هو المتكفّل بنا وهو ربنا، فنستعين به نفسه، ولا محل للاستعانة بالأصنام ونحوها.

الثالث: الاستهداء بالله سبحانه لهداية الإنسان إلى الصراط المستقيم في الحياة الذي ينتهي إلى رضوان الله سبحانه في الحياة الأخرى، فالإنسان مظنة لأن يفقد بوصلته في هذه الحياة ويزلّ فيها عقيدةً أو سلوكاً ولا سيما من نشأ في بيئة مشركة وضالة، بل عاش على الشريك منذ نشأته، فإنه لا يزال تراوده وساوس الحالة السابقة كما حُكيت الشكاية عن ذلك من بعض الصحابة، ولذلك فإنّ عليه أن يستعين بالله تعالى في مزالق هذه الحياة دائماً ليثبّته على الطريقة المستقيمة، فهو يحتاج إلى الاستهداء بالله سبحانه دائماً.

وقد أعطت الآية بذكر الصراط المستقيم للإنسان انطباعاً رائعاً عن أنّ في هذه الحياة سبلاً، ولكنْ سبيلٌ واحد مستقيم ينتهي إلى الغاية التي يتمناها الإنسان من السعادة ويصل به إلى رضوان الله تعالى ربه وخالقه، وهناك سبل للسير تذهب يميناً وشمالاً وتنحرف عن الجادة إذا سلكها الإنسان ضلّ عن غايته وأوجبت له شقاءً وعناءً.

فالإنسان سائر في هذه الحياة في دربٍ نحو نهاية جادة ومرسومة وعليه أن يختار بين الصراط المستقيم الذي رسمه له الله سبحانه وبين أن يركب رأسه ويتنكب عن الطريق يميناً وشمالاً، وهذا المعنى الرائع ـــ الذي يمثل الإنسان سائراً في درب ويرسم دروباً مختلفة يكون الدرب المستقيم واحداً من بينها وتنحرف سائر الدروب عن النهاية التي تليق وتكون مطلوبة للإنسان ـــ متواتر في الآيات الشريفة كقوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾([14]).

الآية السابعة

ثمّ لم يقتصر سبحانه وتعالى على ذكر الصراط المستقيم الذي هو صراطه سبحانه، بل أشار إلى أنّ في هذا الطريق ككلِّ طريقٍ دوالّ على المسير تُقتفى آثارها ويوطأ عقبها، وهذه الدوال في الصراط المستقيم إلى الله سبحانه هم الذين أنعم الله تعالى عليهم أوّلاً بالهداية فاستجابوا لها فكانوا القادة إلى الهدى دون الذين تنكّبوا عن الطريق وتخبّطوا إما لأنّهم عرفوا الطريق وامتنعوا عن سلوكه فاستوجبوا غضب الله سبحانه أو لأنّهم ضلوا الطريق وتاهوا فيه إذ قصروا عن إدراك سبيله.

وفي ذلك تنبيه للإنسان على أنّ عليه بعد الإيمان بالله تعالى أن يتخذ إمام هدىً يجتاز خلفه الطريق ويتأسى به في السلوك، وأبرز مصاديق هؤلاء القادة هم الأنبياء الذين ورد في الآيات الشريفة أنّ الله سبحانه بدأ الهداية بهم وأنعم عليهم وأمر بعضهم بأن يهتدي بهدي من سبقه فيهم، كما قال سبحانه بعد ذكر الأنبياء: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾([15])، وقال تعالى لرسوله بعد ذكرهم: ﴿وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾([16]).

وقد تكرر في القرآن الكريم فيما نزل بعد سورة الحمد التأكيد على أنّ الأنبياء (عليه السلام) هم الذين أنعم الله عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم، وهدى بهم الناس إليه، كما قال سبحانه عن رسوله الكريم: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾([17])، وجاء أيضاً: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾([18])، ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾([19])، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾([20]).

وكذلك قال عن إبراهيم (عليه السلام): ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾([21]).

وجاء عنه أيضاً قوله: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾([22]).

وجاء عن موسى وهارون (عليهما السلام): ﴿وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾([23])، وجاء عن عيسى (عليه السلام) قوله: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾([24]) إلى آيات أخرى.

فأوضح ذلك أنّ المراد بالذين أنعم الله عليهم هم الأنبياء الذين أنعم عليهم بأن هداهم وهدى بهم إلى الصراط المستقيم.

هذا شرح إجمالي لهذه السورة المميزة وهي من السور الهادئة للغاية، ليس فيها معنى شديد أصلاً، نعم، فيها معان تنذر بالخطورة وذلك قوله سبحانه: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وكلمة الغضب في قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، وإن كانت تعبر عن شدةٍ، ولكنّ الغضب فيها فُرِضَ على الآخرين وليس على المخاطبين.

وهذه السورة لم تتضمن ذكر الرسالة صريحاً، بل ذكرت الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر صريحاً، ربما لوّحت إلى الرسالة بقوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾.

 وهذا الأمر مما يتكرر في العديد من الآيات القرآنية حيث يقتصر فيها في وصف المؤمنين على ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر فحسب من دون الرسالة([25])، وكذلك الحال في بعض السور القصار كسورة الإخلاص ولا يبعد أن يكون السبب في ذلك أنّ هذا النص بنفسه متلوّ على أنه رسالة الله سبحانه إلى الخلق من خلال رسوله الكريم، فتكون الرسالة حاضرة ومفترضة في مشهد الكلام، ولذلك كان الاهتمام في الكلام بالإيمان بمضمون الرسالة من الإنباء عن توحيد الله سبحانه وعن يوم القيامة، ولا سيما في العهد المكي حيث كان اشتمال الرسالة على هذين النبأين هو العائق الأساس للمشركين عن تصديق هذه الرسالة، ولأجل ذلك ربما اكتفي بالتلويح إلى الإيمان بالرسل بقوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، إذ الرسل أبرز مصداق لمن أنعم الله عليه بالهداية إلى المعاني المتقدمة في هذه السورة، كما قال سبحانه عن المسيح (عليه السلام): ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾([26]).

هذا محصل مضمون هذه السورة على وجه الإجمال.

ومن الظاهر من خلال ذلك حقاً أنّ هذه سورة مميزة في مضمونها كبلاغتها وفصاحتها، وهي من السهل الممتنع، وقد لا يشعر الإنسان المسلم العارف باللغة العربية بمدى الجمال في هذا النصّ، لأنه معتاد عليه وعلى أمثاله من خلال القرآن الكريم، ولكنه كان مما يجد العرب جماله آنذاك بالمقارنة مع المضامين الدينية التي كانت مألوفةً لديهم لآلهتهم، ولذلك لم تكن مباهاة القرآن الكريم بهذه السورة بشكل خاص في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ﴾([27]) إلا بما يشهد بصدقه واقع الحال، فلم يكن يتاح لأحد أن ينكر امتياز هذه السورة، ولذلك يمكن عدّها أبرز السور التي تحدى بها القرآن الكريم العرب، كما يجد جمالها عامة المعنيّين بالمضامين الدينية وبالمقارنة بين القرآن الكريم وكتب الأديان الأخرى، بل أنّ أهل الأديان الأخرى ـــ ومنهم البلغاء من المسيحيين العرب ـــ يجدون هذا الجمال بالمقارنة مع ما جاء في كتبهم الدينية([28]).

الهوامش: ([1]) تقدم في الجزء الأوّل من الكلام في مكانة هذه السورة وزمان نزولها وجزئية البسملة منها ومن سائر السور، وقد تخلل ذلك باقتضاء البحث جملة مما يتعلق بتفسير البسملة وهذه السورة. ([2]) سورة العلق: آية 1. ([3]) سورة العلق: آية 1. ([4]) وقيل إنّهم كانوا يكتبون: (بسم اللات والعزى)، لاحظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 6/113. ([5]) سورة النمل: آية 30. ([6])  تقدم الحديث عن ذلك تفصيلاً في الكلام على كون البسملة جزءاً منها ومن السور. ([7]) سورة الأعراف: آية 156. ([8]) سورة الحجر: آية 87. ([9]) سورة لقمان: آية 25. ([10]) سورة البقرة: آية 186. ([11]) سورة الزخرف: آية 86. ([12]) سورة العلق: آية 8. ([13]) سورة غافر: آية 16. ([14]) سورة الأنعام: آية 153. ([15]) سورة مريم: آية 58. ([16]) سورة الأنعام: آية 87 ـــ 90. ([17]) سورة المائدة: آية 15 ـــ 16. ([18]) سورة الأنعام: آية 161. ([19]) سورة إبراهيم: آية 1. ([20]) سورة الشورة: آية 52 ـــ 53. ([21]) سورة النحل: آية 120 ـــ 121. ([22]) سورة مريم: آية 43. ([23]) سورة الصافات: آية 117 ـــ 118. ([24]) سورة آل عمران: آية 51. ([25]) منها: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ سورة التوبة: آية 18، ومنها: قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ سورة البقرة: آية 62، ومنها: قوله جلت آلاؤه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ سورة البقرة: آية 126، ومنها: قوله عزّت آلاؤه: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ سورة البقرة: آية 228، ومنها: قوله جل جلاله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ سورة البقرة: آية 232. ([26]) سورة الزخرف: آية 59. ([27]) سورة الحجر: آية 87. ([28]) وربما تكلف بعضٌ السعي إلى اقتفاء هذه السورة في معانيها مع تغيير ألفاظها مضاهاة معها، لكن هذه الطريقة في المضاهاة خاطئة من جهة اقتفاء مضامين النص، ومن المعلوم أنّ بلاغة النص ليست في مفرداتها ووزنها فقط، بل في انتقاء المضامين المناسبة للمقصد المنظور جزء مهم من البلاغة، على أنّ الكلام الذي أُنشئ لا يتضمن بلاغة خاصة من حيث المفردات المناسبة، ولا يرقى إلى مستوى هذه السورة في شيء (لاحظ عرض ذلك ونقده في تفسير البيان للسيد المحقق الخوئي ورسالته نفحات الإعجاز (لاحظ: البيان في تفسير القرآن (طبعة المؤسسة): ص95 وما بعد)).
2024/04/04

المؤمن والإيمان بالغيب: أهلاً بك في عالم يتجاوز المحسوس!
«الغيب و الشهود» نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، و عالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن و خفي.

‏و قيل عن عالم ما وراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسّنا. التقابل بين العالمين مذكور في آيات عديدة كقوله تعالی: عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ‌

[الحشر، ٢٢.]

‏الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاولی بين المؤمنين بالأديان السماوية، و بين منكري الخالق و الوحي و القيامة. و من هنا كان الإيمان بالغيب أول سمة ذكرت للمتّقين.

‏المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي، و اجتازوا جدرانه، إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه. بينما يصرّ معارضوهم علی جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات، محصورا في موقعه من العالم المادي. و هذه الرؤية المادية تقمّصت في عصرنا صفات العلمية و التقدمية و التطورية! لو قارنّا بين فهم الفريقين و رؤيتهما، لعرفنا أن: «المؤمنين بالغيب» يعتقدون أن عالم الوجود أكبر و أوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، و خالق عالم الوجود غير متناه في العلم و القدرة و الإدراك، و أنّه أزليّ و أبديّ. و أنّه صمّم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس. و يعتقدون أنّ الإنسان- بما يحمله من روح إنسانية- يسمو بكثير علی سائر الحيوانات. و أنّ الموت ليس بمعنی العدم و الفناء، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان، و نافذة تطل علی عالم أوسع و أكبر.

‏بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه و نراه. و أن العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. و الإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشی بدنه، و تندمج أجزاؤه مرّة اخری بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان، و ليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه و بين سائر الحيوانات‌

[نقلا عن:« محمّد و القرآن».]

٢! ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون و الحياة! و ما أعظم الفرق بين ما تفرزه كل رؤية، من حياة اجتماعية و سلوك و نظام! الرؤية الاولی تربّي صاحبها علی أن ينشد الحق و العدل و الخير و مساعدة الآخرين. و الثانية، لا تقدّم لصاحبها أي مبرّر علی ممارسة الأمور اللهم إلّا ما عاد عليه بالفائدة في حياته المادية. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم و الإخاء و الطّهر و التعاون، بينما تهيمن علی حياة الماديين روح الاستعمار و الاستغلال و سفك الدماء و النهب و السلب. و لهذا السبب نری القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوی.

‏يدور البحث في كتب التّفسير عن المقصود بالغيب، أهو إشارة إلی ذات الباري تعالی، أم أنه يشمل- أيضا- الوحي و القيامة و عالم الملائكة و كل ما هو وراء الحس؟ و نحن نعتقد أن الآية أرادت المعنی الشامل لكلمة الغيب، لأن الإيمان بعالم ما وراء الحس- كما ذكرنا- أول نقطة افتراق المؤمنين عن‌ الكافرين، إضافة إلی ذلك، تعبير الآية مطلق ليس فيه قيد يحدده بمعنی خاص.

‏بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السّلام تفسّر الغيب في الآية، بالمهدي الموعود المنتظر (سلام اللّه عليه) و الذي نعتقد بحياته و خفائه عن الأنظار، و هذا لا ينافي ما ذكرناه بشأن معنی الغيب، لأن الروايات الواردة في تفسير الآيات تبين غالبا مصاديق خاصة للآيات، دون أن تحدد الآيات بهذه المصاديق الخاصة، و سنری في صفحات هذا التّفسير أمثلة كثيرة لذلك. و الروايات المذكورة بشأن تفسير معنی الغيب، تستهدف في الواقع توسيع نطاق معنی الإيمان بالغيب، ليشمل حتی الإيمان بالمهدي المنتظر عليه السّلام و يمكننا القول أنّ الغيب له معنی واسع قد نجد له بمرور الزمن مصاديق جديدة.

*مقتطف من تفسير الأمثل ج1
2024/02/05

ما هي مصادر معلومات القرآن الكريم؟
سؤال أثارته شاكلة المستشرقين الأجانب لكنّه رجع قول قد قاله رجال من قبلهم : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان 25 : 5) الوحي مصدر القرآن الوحيد!

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)

قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى). (1)

كانت الدلائل على أنّ القرآن كلّه ـ بلفظه ونظمه ومحتواه جميعا ـ كلام ربّ العالمين ، وافرة وظافرة ، وقد تكفّل عرضها مباحث الإعجاز القرآني باستيفاء وإحكام. (2) كما وأصبحت سفاسف المعاكسين لذلك الاتّجاه الناصع هباء منثورا تذروه عواصف الرياح.

والآن ، فلنشهد تجوالهم الحديث في هذا الميدان الرهيب :

وليعلم أنّ عمدة مستند القول باستيحاء القرآن تعاليمه الدينية من زبر الأوّلين هو تواجد التوافق ـ نسبيّا ـ بين شريعة الإسلام وشرائع سالفة.

لكن هذا لا يجدي نفعا بعد اعترافنا بوحدة أصول الشرائع وأنّها جميعا مستقاة من عين واحدة : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ). (3)

هذا فضلا عن وجود التخالف الفاحش بين أكدار أحاطت بتلك الكتب على أثر التحريف ، وقداسة زاكية حظي بها القرآن الكريم ، ولا يزال مصونا في حراسته تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (٤)

هذا إجمال الكلام في ذلك ولنخض في تفصيل الحديث :

كتب الكثير من الكتّاب المستشرقين عن نبيّ الإسلام والقرآن حسب أساليبهم في التحقيق عن سائر الأديان ، حيث لا يرون لها صلة بوحي السماء. فكان من الطبيعي في عرفهم أن يلتمسوا من هنا وهناك مصادر غذّت تلكم الشرائع في طول التأريخ.

وحتّى من تظاهر منهم بالمسيحيّة يعتنقونها شكليّا وليس عن صدق عقيدة.

غير أنّ المسيحية ـ ولو شكليّا ـ كانت من الدوافع الحافزة للبغي على الإسلام وللنظر إليه نظرة سوء. وهذا ما يسمّى بالاستشراق الديني الّذي قام به أبناء الفاتيكان ، كان أوّل روّاده من رجال الكنيسة وعلماء اللّاهوت حيث ظلّوا المشرفين على هذه الحركة والمسيّرين لها طوال القرنين الأخيرين. وكان الهدف من ذلك :

1 ـ الطعن في الإسلام وتشويه حقائقه.

2 ـ حماية النصارى من خطر الإسلام بالحيلولة بينهم وبين رؤية حقائقه الناصعة وآياته البيّنة اللّائحة.

3 ـ محاولة تنصير المسلمين ، ولا أقلّ من تضعيف العقيدة في نفوسهم أضف إلى ذلك دوافع استعماريّة : ثقافيّة وسياسيّة وتجاريّة تحول دون خلوص مهنة الاستشراق (استطلاع تاريخ الثقافة الشرقية بسلام) ومن ثمّ فقد أسيء بهم الظنّ في كثير ما يبدونه من نظر.

جاء في قصّة الحضارة : وكان في بلاد العرب كثيرون من المسيحيّين وكان منهم عدد قليل في مكّة ، وكان محمّد على صلة وثيقة بواحد منهم على الأقل هو ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة ، الذي كان مطّلعا على كتب اليهود والمسيحيّين المقدّسة. وكثيرا ما كان محمد يزور المدينة التى مات فيها والده عبد الله. ولعلّه قد التقى هناك ببعض اليهود وكانوا كثيرين فيها. وتدلّ كثير من آيات القرآن على اعجابه بأخلاق المسيحيّين ، وبما في دين اليهود من نزعة إلى التوحيد ، وبما عاد على المسيحية واليهودية من قوّة كبيرة لأنّ لكلتيهما كتابا مقدّسا تعتقد أنّه موحى من عند الله.

قال : ولعلّه قد بدا له أنّ ما يسود جزيرة العرب من شرك ، ومن عبادة للأوثان ، ومن فساد خلقي ، ومن حروب بين القبائل وتفكّك سياسي ، نقول : لعلّه قد بدا له أنّ حال بلاد العرب إذا قورنت بما تأمر به المسيحية واليهودية حال بدائية لا تشرف ساكنيها. ولهذا أحسّ بالحاجة إلى دين جديد. ولعلّه أحسّ بالحاجة إلى دين يؤلّف بين هذه الجماعات المتباغضة المتعادية ويخلق منها أمّة قوية سليمة ، دين يسموا بأخلاقهم عمّا ألفه البدو من شريعة العنف والانتقام ، ولكنّه قائم على أوامر منزلة لا ينازع فيها إنسان. ولعلّ هذه الأفكار نفسها قد طافت بعقل غيره من الناس. فنحن نسمع عن قيام عدد من المتنبّئين في بلاد العرب في بداية القرن السابع ، وقد تأثّر كثير من العرب بعقيدة المسيح المنتظر التى يؤمن بها اليهود. وكان هؤلاء أيضا ينتظرون بفارغ الصبر مجيء رسول من عند الله. وكانت في البلاد شيعة من العرب تدعى بالحنفيّة أبت أن تقرّ بالالوهية لأصنام الكعبة ، وقامت تنادي بإله واحد يجب أن يكون البشر جميعا عبيدا له وأن يعبدوه راضين (هم : ورقة بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل). كانوا قد أيقنوا أنّ ما هم عليه من الوثنية ليس بشيء ، فتفرّقوا في البلاد يلتمسون الحنيفيّة دين إبراهيم عليه‌السلام ...

وكان محمّد ـ كما كان كلّ داع ناجح في دعوته ـ الناطق بلسان أهل زمانه والمعبّر عن حاجاتهم وآمالهم ... (5)

ويقول الأسقف يوسف درّة الحدّاد : (6) استفاد القرآن من مصادر شتّى أهمّها الكتاب المقدّس ولا سيّما كتاب موسى ، وذلك بشهادة القرآن ذاته : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى). (7)

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). (8)

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ). (9)

قال : فآية محمّد الأولى هي مطابقة قرآنه للكتب السابقة عليه. وآيته الثانية استشهاده بعلماء بني إسرائيل وشهادتهم له بصحّة هذه المطابقة. ولكن ما الصلة بين القرآن وكونه في زبر الأوّلين؟! هذا هو سرّ محمّد! فيكون من ثمّ أنّه نزل في زبر الأوّلين بلغة أعجميّة يجهلونها ، ثمّ وصل إلى محمّد بواسطة علماء بني إسرائيل ، فأنذر به محمّد بلسان عربيّ مبين.

فأصل القرآن منزل في زبر الأوّلين ، وهذا يوحي بصلة القرآن بمصدره الكتابي زبر الأوّلين ، أي صحفهم وكتبهم.

وأيضا فإنّ شهادة علماء أهل الكتاب بصحّة ما في القرآن لم تكن إلّا لأنّهم كانوا شركاء هذا الوحي المولود. ذلك لأنّ الوحي التنزيلي أمر شخصي لا يعرفه غير صاحبه فحسب.

والآية (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا)(10) فيها صراحة بأنّه تتلمذ لدى كتاب موسى وجعله في قالب لسان العرب ، الأمر الذي يجعل من القرآن نسخة عربيّة مترجمة عن الكتاب الإمام.

(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا). (11) التفصيل هنا يعنى النقل من الأصل الأعجمي إلى العربي. فالقرآن موحى ، والتفصيل العربي للكتاب منزّل ، لأنّ الأصل وحي منزّل ... (12)

وعلى هذا الغرار جرى كلّ من «تسدال» و «ماسيه» و «أندريه» و «لامنز» و «جولد تسيهر» و «نولديكه» (13) إلى أنّ القرآن استفاد كثيرا من زبر الأوّلين ، وحجّتهم في ذلك

محضر التشابه بين تعاليم القرآن وسائر الصحف. فالقصص والحكم في القرآن هي التي جاءت في كتب اليهود ، وكذا قضايا جاءت في الأناجيل وحتّى في تعاليم زرادشت والبرهمية في مثل حديث المعراج ونعيم الآخرة والجحيم والصراط والافتتاح بالبسملة والصلوات الخمس وأمثالها من طقوس عبادية ، وكذا مسألة شهادة كلّ نبيّ بالآتي بعده ، كلّها مأخوذة من كتب سالفة كانت معهودة لدى العرب.

زعموا أنّ القرآن صورة تلمودية وصلت إلى نبيّ الإسلام عن طريق علماء اليهود وسائر أهل الكتاب ممّن كانت لهم صلة قريبة بجزيرة العرب ، فكان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يلتقي بهم قبل أن يعلن نبوّته ، ويأخذ منهم الكثير من اصول الشريعة.

يقول «ول ديورانت» : وجدير بالذكر أنّ الشريعة الإسلاميّة لها شبه بشريعة اليهود ... ثمّ جعل يسرد قضايا مشتركة بين القرآن والعهدين ويعدّ منها مسألة التوحيد والنبوّة والإيمان والإنابة ويوم الحساب والجنّة والنار ، زاعما أنّها من تأثير اليهوديّة على دين الإسلام. وكذا كلمة التوحيد (لا إله إلّا الله» مأخوذة من كلمة إسرائيلية : ألا فاسمع يا إسرائيل وحدك. والبسملة مأخوذة أيضا من تلمود. ولفظة «الرحمن» معرّبة من «رحمانا» العبريّة ... إلى غيرها من تعابير جاءت في الإسلام منحدرة عن أصل يهودي. الأمر الذي جعل البعض يتصوّر أنّ محمدا كان عارفا بمصادر يهودية وكانت هي مستقاه في تأليف القرآن ... (14)

شرائع إبراهيمية منحدرة عن أصل واحد

نحن المسلمين نعتقد في الشرائع الإلهيّة أجمع أنّها منحدرة عن أصل واحد ومنبعثة من منهل عذب فارد ، تهدف جميعا إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة. والإخلاص في العمل الصالح والتحلّي بمكارم الأخلاق ، من غير اختلاف في الجذور ولا في الفروع المتصاعدة. (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ...). (15)

إذن ، فالدين واحد والشريعة واحدة والأحكام والتكاليف تهدف إلى غرض واحد وهو كمال الإنسان (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ). (16) يعني أنّ الدين كلّه ـ من آدم فإلى الخاتم ـ هو الإسلام أي التسليم لله والإخلاص في عبادته محضا.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ). (17) الإسلام هو الدين الشامل ، فمن حاد عنه فقد حاد عن الجادّة الوسطى وضلّ الطريق في نهاية المسير. وهكذا تأدّب المسلمون بالإيمان بجميع الأنبياء من غير ما فارق. (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). (18)

وهذا منطق القرآن يدعو إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ، وأن لا تفرقة بين الأديان ما دام التسليم لله ربّ العالمين ، وبذلك يكون الاهتداء والاتحاد ، وفي غيره الضلال والشقاق ، (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ). (19)

وفي ذلك ردّ وتشنيع بشأن اليهود والنصارى ، أولئك الذين يدعون إلى الحياد والانحياز (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا). (20) أي قالت اليهود كونوا منحازين على اليهوديّة لا غيرها حتى تهتدوا!

وقالت النصارى كونوا حيادا على النصرانية لا غيرها حتى تهتدوا! والقرآن يردّ عليهم جميعا ويدعو إلى الالتفاف حول الحنيفية الإبراهيمية : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). (21) (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ). (22)

نعم ، صبغة الله شاملة وكافلة للإسعاد بالبشرية جمعاء ، الأمر الذي يعتنقه المسلمون أجمع ، والحمد لله.

وحدة المنشأ هو السبب للتوافق على المنهج

وبعد ، فإنّ ائتلاف الأديان السماوية واتّحاد كلمتها لا بدّ أن يكون عن سبب معقول ، وهذا يحتمل أحد وجوه ثلاثة :

1 ـ إمّا لوحدة المنشأ ، حيث الجميع منبعث من أصل واحد ، فكان التشابه في الفروع المتصاعدة طبيعيّا.

2 ـ أو لأنّ البعض متّخذ من البعض فكان التشاكل نتيجة ذاك التبادل يدا بيد.

3 ـ أو جاء التماثل عن مصادفة اتفاقيّة وليس عن علّة حكيمة.

ولا شكّ أنّ الأخير مرفوض بعد مضادّة الصدفة مع الحكمة الساطية في عالم التدبير.

بقي الوجهان الأوّلان ، فلنتساءل القوم : ما بالهم تغافلوا عن الوجه الأوّل الرصين وتواكبوا جميعا على الوجه الهجين؟! إنّ هذا لشيء مريب!

هذا ، والشواهد متظافرة تدعم الشقّة الاولى لتهدم الاخرى من أساس :

أوّلا : صراحة القرآن نفسه بأنّه موحى إلى نبيّ الإسلام وحيا مباشريّا نزل عليه ليكون للعالمين نذيرا ، فكيف الاستشهاد بالقرآن لإثبات خلافه!؟ إن هذا إلّا تناقض في الفهم واجتهاد في مقابلة النصّ الصريح!

ثانيا : معارف فخيمة قدّمها القرآن إلى البشرية ، بحثا وراء فلسفة الوجود ومعرفة الإنسان ذاته ، لم يكد يدانيها أيّة فكرة عن الحياة كانت البشرية قد وصل إليها لحدّ ذاك العهد ، فكيف بالهزائل الممسوخة التي شحنت بها كتب العهدين؟!

ثالثا : تعاليم راقية عرضها القرآن لا تتجانس مع ضألة الأساطير المسطّرة في كتب العهدين ، وهل يكون ذاك الرفيع مستقى من هذا الوضيع؟!

إلى غيرها من دلائل سوف يوافيك تفصيلها.

القرآن يشهد بأنّه موحى

وأمّا إن كنّا نستنطق القرآن فإنّه يشهد بكونه موحى إلى نبيّ الإسلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أوحى إلى النبيّين من قبله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً. لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً). (23)

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ). (24)

والآيات بهذا الشأن كثيرة ، ناطقة صريحا بكون القرآن موحى إلى نبيّ الإسلام وحيا مباشريّا لينذر قومه ومن بلغ كافّة.

أمّا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تلقّاه (التقطه) من كتب السالفين وتعلّمه من علماء بني إسرائيل فهذا شيء غريب يأباه نسج القرآن الحكيم.

القرآن في زبر الأوّلين

وأمّا ما تذرّع به صاحبنا الاسقف درّة فملامح الوهن عليه بادية بوضوح :

قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى). (25)

هذا إشارة إلى نصائح تقدّمت الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى). وذلك تأكيد على أنّ ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن بدعا ممّا جاء به سائر الرسل (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ). (26) فليس الذي جاء به نبيّ الإسلام جديدا لا سابقة له في رسالات الله ، الأمر الذي يستدعيه طبيعة وحي السماء العامّ وفي كلّ الأدوار من آدم فإلى الخاتم. فإنّ شريعة الله واحدة لا يختلف بعضها عن بعض. فالإشارة راجعة إلى محتويات الكتاب توالى نزولها حسب توالي بعثة الأنبياء. فالنصائح والإرشادات تكرّرت مع تكرّر الأجيال. هذا ما تعنيه الآية لا ما زعمه صاحبنا الأسقف!

وهكذا قوله تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى). (27)

يعود الضمير إلى من وقف في وجه الدعوة مستهزئا بأن سوف يتحمّل آثام الآخرين إن لم يؤمنوا بهذا الحديث. فيردّ عليهم القرآن : ألم يبلغهم أنّ كلّ إنسان سوف يكافأ حسب عمله ولا تزر وازرة وزر اخرى؟ فإن لم يعيروا القرآن اهتماما فليعيروا اهتمامهم لما جاء في الصحف الأولى ، وهلّا بلغهم ذلك وقد شاع وذاع خبره منذ حين؟! وهكذا سائر الآيات تروم هذا المعنى لا غير!

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)(28)

وآية اخرى على صدق الدعوة المحمّدية : أنّ الراسخين في العلم من أهل الكتاب يشهدون بصدقها ممّا عرفوا من الحقّ :

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) (أي من أهل الكتاب) (وَالْمُؤْمِنُونَ) (أي من أهل الإسلام) (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ). (29)

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ). (30) وهؤلاء هم القساوسة والرهبان الذين لا يستكبرون ، ومن ثمّ فهم خاضعون للحقّ أين وجدوه ، وبالفعل فقد وجدوه في حظيرة الإسلام.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) (أيها الكافرون بالقرآن) (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) (ممن آمن برسالة الإسلام) (عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ). (31)

الضمير في قوله «على مثله» يعود إلى القرآن. يعني أنّ من علماء بنى إسرائيل من يشهد بأنّ تعاليم القرآن تماما مثل تعاليم التوراة التي أنزلها الله على موسى ، ولذا آمن به لما قد لمس فيه من الحقّ المتطابق مع شريعة الله في الغابرين.

وكثير من علماء أهل الكتاب آمنوا بصدق رسالة الإسلام فور بلوغ الدعوة إليهم ، حيث وجدوا ضالّتهم المنشودة في القرآن فآمنوا به. فكانت شهادة عمليّة إلى جنب تصريحهم بذلك علنا على الملأ من بني إسرائيل.

وهذا هو معنى شهادة علماء بني إسرائيل بصدق الدعوة ، حيث وجدوها متطابقة مع معايير الحقّ الذي عندهم. لا ما حسبه صاحبنا الأسقف بعد أربعة عشر قرنا أنّه مقتبس من كتبهم ومتلقّى من أفواههم هم!! الأمر الذي لم يقله أولئك الأنجاب وقد أنصفوا الحقّ الصريح! (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ). (32) (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ). (33)

وهذه المعرفة ناشئة عن لمس الحقيقة في الدعوة ذاتها وفقا لمعايير وافتهم على أيدي الرسل من قبل. وقد لمسها أمثال صاحبنا الاسقف اليوم أيضا ولكن (جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(3) كالذين من قبلهم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(34) ممّن حاول إخفاء الحقيقة ـ قديما وحديثا ـ فضلّوا وأضلّوا وما كانوا مهتدين.

مقتطف من كتاب: شبهات وردود حول القرآن الكريم

 

الهوامش: __________________ (1) الأعلى 87 : 18 و 19. (2) النجم 53 : 36 ـ 38. (3) الشعراء 26 : 196 و 197. (4) الأحقاف 46 : 12. (5) فصّلت 41 : 3. (6) دروس قرآنيّة ليوسف درّة الحدّاد ، ج 2 ، ص 173 ـ 188 (القرآن والكتاب) بيئة القرآن الكتابيّة ، فصل 11 (هل للقرآن من مصادر؟) منشورات المكتبة البولسية ـ لبنان 1982 م. (7) آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره لعمر رضوان ، ج 1 ، صفحات 272 ـ 290 و 335. (8) النجم 53 : 4 ـ 12. (9) قد استوفينا البحث عنها في التمهيد ، ج 4 و 5 و 6. (10) آل عمران 3 : 64.  (11)الحجر 15 : 9. (12) ول ديورانت : قصّة الحضارة ج 13 ، ص 23 و 24 ، ترجمتها العربية. (13) مارس رتبة الكهنوتية في الكنيسة اللبنانية عام 1939 م. ثمّ انقطع زهاء عشرين عاما يبحث عن شئون الإسلام والقرآن على اسلوبه الكهنوتي ، حاول التقارن والتقارب بين القرآن وكتب العهدين ليجعل الأخيرة منابع للقرآن ومصادره في كلّ ما ينسبه إلى وحي السماء. توفي سنة 1979 م. (14) تاريخ التمدّن (قصّة الحضارة) الفارسية ، لمؤلّفه ول ديورانت ، مجلّد 4 ، ص 236 ـ 238 ، عصر الإيمان ، الفصل التاسع وراجع قصّة الحضارة ، ج 13 ، ص 22 ، فيه إلمامة إلى ذلك. (15) الشورى 42 : 13. (16) آل عمران 3 : 19. (17) آل عمران 3 : 85. (18) البقرة 2 : 136. (19) البقرة 2 : 137. (20) البقرة 2 : 135. (21) البقرة 2 : 135. (22) البقرة 2 : 138. (23) النساء 4 : 163 ـ 166. (24) الأنعام 6 : 19. (25) الأعلى 87 : 18 و 19. (26) الأحقاف 46 : 9. (27) الأعلى 87 : 18 و 19. (28) النجم 53 : 36 ـ 38. (29) الشعراء 26 : 196 و 197. (30) الأحقاف 46 : 12. (31) فصّلت 41 : 3. (32) الأنعام 6 : 114. (33) الأنعام 6 : 20. (34) النمل 27 : 14.
2024/02/04

في القرآن الكريم.. ما قصة الحروف المقطّعة غير المفهومة؟!
تسع و عشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة، و هذه الحروف- كما هو واضح من اسمها- لا تشكل كلمة مفهومة.

‏هذه الحروف من أسرار القرآن، و ذكر المفسرون لها تفاسير عديدة، و أضاف لها العلماء المعاصرون تفاسير جديدة من خلال تحقيقاتهم.

‏جدير بالذّكر أن التاريخ لم يحدثنا أنّ عرب الجاهلية و المشركين عابوا علی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله اله و سلّم وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن. و لم يتخذوا منها وسيلة للطعن و الاستهزاء. و هذا يشير إلی أنهم لم يكونوا جاهلين تماما بأسرار وجود الحروف المقطعة.

‏اخترنا من التفاسير الكثيرة لهذه الحروف، عددا من التفاسير باعتبار مسنديتها و انسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال. و سنذكر هذه التفاسير بالتدريج في بداية هذه السّورة، و سورة آل عمران، و سورة الأعراف، إن شاء اللّه. و نبدأ الآن بأهمها:

‏هذه الحروف إشارة إلی أن هذا الكتاب السماوي، بعظمته و أهميّته التي حيّرت فصحاء العرب و غير العرب، و تحدت الجن و الإنس في عصر الرسالة و كل العصور، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع.

‏و مع أنّ القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية و الكلمات المتداولة، فإن ما فيه من جمال العبارة و عمق المعنی يجعله ينفذ إلی القلب و الروح، و يملأ النفس بالرضا و الإعجاب، و يفرض احترامه علی الأفكار و العقول.

‏في القرآن من الفصاحة و البلاغة ما لا يخفی علی أحد، و ليس هذا مجرّد ادّعاء، فخالق الكون تحدّی بهذا الكتاب جميع (الجن و الإنس)، ليأتوا بمثله‌ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً

[الإسراء، ٨٨.]

٣، و لكنهم عجزوا جميعا عن ذلك، و تلك دلالة علی أن هذا الكتاب لم يصدر عن فكر بشر.

‏و كما إن اللّه تعالی خلق من التراب موجودات، كالإنسان بما فيه من أجهزة معقّدة محيّرة، و كأنواع الطيور الجميلة الرائقة، و الأحياء المتنوعة، و النباتات و الزهور المختلفة، و كما إننا ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات، كذلك اللّه سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة، موضوعات و معان سامية، في قوالب لفظية جميلة، و عبارات موزونة، و أسلوب خاص مدهش معجز، و هذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان، لكنه عاجز عن صنع جمل و عبارات شبيهة بالقرآن.

‏الأدب في العصر الجاهلي:

‏من المهم أن نذكر هنا أن العصر الجاهلي كان عصرا ذهبيا للأدب العربي. فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلی أن العرب الحفاة الجفاة الجاهليين، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. و ما وصلنا من شعر و نثر من تلك الفترة، يشير إلی قدرة أولئك علی التعبير الجميل الدقيق، و يحتل ذروة الفصاحة في الأدب العربي.

‏و كان للأدب سوق رائجة تدلّ علی اهتمام العرب بلغتهم و آدابهم، و (سوق عكاظ) و أمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الاهتمام بوضوح.

‏و السوق المذكور كان يشهد- إضافة إلی المعاملات الاقتصادية و القضايا الاجتماعية- حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر و النثر، و يتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام، و (المعلقات السبع) أو (العشر) نموذج لذلك، و كانت القصيدة الفائزة تعدّ فخرا كبيرا للشاعر و لقبيلته.

‏في مثل هذا العصر من الانتعاش الأدبي، يتحدی القرآن النّاس أن يأتوا بمثله، و لكنهم عجزوا (سنذكر مزيدا من إعجاز القرآن في مجال التحدي لدی تفسير الآية ٢٣ من هذه السّورة).

‏شاهد ناطق:

‏الشاهد الناطق علی هذا المنحی من تفسير الحروف المقطعة،

‏حديث عن الإمام علي بن الحسين عليه السّلام حيث يقول: «كذّب قريش و اليهود بالقرآن و قالوا هذا سحر مبين، تقوّله، فقال اللّه: الم، ذلِكَ الْكِتابُ ...: أيّ يا محمّد، هذا الكتاب الّذي أنزلته إليك هو الحروف المقطّعة الّتي منها الف و لام و ميم، و هو بلغتكم و حروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ...»

[تفسير البرهان، ج ١، ص ٥٤.]

٤.

‏و ثم شاهد آخر

‏عن الإمام علي بن موسی الرضا عليه السّلام في قوله: «ثمّ قال إنّ اللّه تبارك و تعالی انزل هذا القرآن بهذه الحروف الّتي يتداولها جميع العرب، ثمّ قال:

‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلی‌ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ...

[توحيد الصدوق، ص ١٦٢، ط سنة ١٣٧٥ ه. ق ..]

٥.

‏و هناك ملاحظة تؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير معنی الحروف المقطعة، و هي أن هذه الحروف في السور الأربع و العشرين التي ذكرناها، يتلوها مباشرة ذكر لعظمة القرآن، و هذا يدل علی الارتباط بين الحروف المقطعة و عظمة القرآن. و علی سبيل المثال نذكر الآيات التالية:

‏١- الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ

[هود، ١- ٢.]

٦.

‏٢- طس، تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ‌

[النمل، ١- ٢.]

٧.

‏٣- الم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ‌

[لقمان، ١- ٢.]

٨.

‏٤- المص، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ‌

[الأعراف، ١- ٢.] ٩.

الهوامش 

‏١ ( ١، ٢)- نور الثقلين، ج ١، ص ٢٦. و مجمع البيان، ج ١، ص ٣٢.

‏٢ ( ١، ٢)- نور الثقلين، ج ١، ص ٢٦. و مجمع البيان، ج ١، ص ٣٢.

‏٣ الإسراء، ٨٨.

‏٤ تفسير البرهان، ج ١، ص ٥٤.

‏٥ توحيد الصدوق، ص ١٦٢، ط سنة ١٣٧٥ ه. ق ..

‏٦ هود، ١- ٢.

‏٧ النمل، ١- ٢.

‏٨ لقمان، ١- ٢.

‏٩ الأعراف، ١- ٢.

2024/02/03

لذة الدنيا محفوفة بالنواقص والآلام
يقول السيد محمد حسين الطباطبائي [قدس سرّه]:

[اشترك]

لذة الدنيا محفوفة بالنواقص والآلامهذا حاله فيما وجده، وذاك حاله فيما فقده
الإنسان المادّىّ الدنيويّ الّذى لم يتخلّق بأخلاق الله تعالى ولم يتأدّب بأدبه يرى السعادة المادّيّة هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح وهى السعادة المعنويّة فيتولّع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة.
وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الّذى ناله لكنّه ما كان يريد إلّا الخالص من التنعّم واللذّة على ما صوّرته له خياله وإذا ناله رأى الواحد من اللذّة محفوفاً بالاُلوف من الألم.
فما دام لم ينل ما يريده كان اُمنيّة وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب الّتى ركن إليها ولم يتعلّق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كلّ فائتة فكان أيضاً حسرة فلا يزال فيما وجده متألّماً به معرضاً عنه طالباً لما هو خير منه لعلّه يشفى غليل صدره وفيما لم يجده متقلّباً بين الآلام والحسرات. فهذا حاله فيما وجده، وذاك حاله فيما فقده.

المصدر: تفسير الميزان
2024/01/05

من هم أهل الذكر؟
ذكرت الرّوايات الكثيرة المروية عن أهل البيت عليهم السّلام أنّ «أهل الذكر» هم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام، و من هذه الرّوايات:

[اشترك]

‏روي عن الإمام علي بن موسی الرضا عليه السّلام في جوابه عن معنی الآية أنّه قال: «نحن أهل الذكر و نحن المسؤولون» [تفسير نور الثقلين، ج ٣، ص ٥٥.].

‏وعن الإمام الباقر عليه السّلام في تفسير الآية أنّه قال: «الذكر القرآن و آل الرّسول أهل الذكر و هم المسؤولون» [تفسير نور الثقلين، ج ٣، ص ٥٦.].

‏وفي روايات أخری: أنّ «الذكر» هو النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم، و «أهل الذكر» هم أهل البيت عليهم السّلام‌ [تفسير نور الثقلين، ج ٣ ص ٥٥ و ٥٦.].

‏و ثمّة روايات متعددة أخری تحمل نفس هذا المعنی.

‏و في تفاسير و كتب أهل السنّة روايات تحمل نفس المعنی أيضا، منها:

‏ما في التّفسير الاثنی عشري: روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، قال: هو محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام هم أهل الذكر و العقل و البيان‌ [إحقاق الحق، ج ٣، ص ٤٢٨- و المقصود من تفسير الاثنی عشر، هو تفاسير كل من: أبي يوسف، ابن حجر، مقاتل بن سليمان، وكيع بن جراح، يوسف بن موسی، قتادة، حرب الطائي، السدي، مجاهد، مقاتل بن حيان، أبي صالح و محمد بن موسی الشيرازي.].

‏فهذه ليست هي المرّة الأولی في تفسير الرّوايات للآيات القرآنية ببيان أحد مصاديقها دون أن تقيد مفهوم الآية المطلق.

‏و كما قلنا ف «الذكر» يعني كل أنواع العلم و المعرفة و الاطلاع، و «أهل الذكر» هم العلماء و العارفون في مختلف المجالات، و باعتبار أن القرآن نموذج كامل و بارز للعلم و المعرفة أطلق عليه اسم «الذكر»، و كذلك شخص النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم فهو مصداق واضح «للذكر» و الأئمّة المعصومون باعتبارهم أهل بيت النّبوة و وارثو علمه صلّی اللّه عليه و آله و سلّم فهم عليهم السّلام أفضل مصداق ل «أهل الذكر».

‏و هذا لا ينافي عمومية مفهوم الآية، و لا ينافي مورد نزولها أيضا (علماء أهل الكتاب) و لهذا اتجه علماؤنا في الفقه و الأصول عند بحثهم موضوع الاجتهاد و التقليد إلی ضرورة و وجوب أتباع العلماء لمن ليست له القدرة علی استنباط الأحكام الشرعية، و يستدلون بهذه الآية علی صحة منحاهم.

‏و قد يتساءل فيما ورد عن الإمام علي بن موسی الرضا عليه السّلام في كتاب (عيون أخبار الرضا عليه السّلام): أنّ علماء في مجلس المأمون قالوا في تفسير الآية: إنما عني بذلك اليهود و النصاری، فقال الرضا عليه السّلام: «سبحان اللّه و هل يجوز ذلك، إذا يدعونا إلی دينهم و يقولون: إنّه أفضل من الإسلام ...» ثمّ قال: «الذكر رسول اللّه و نحن أهله» [تفسير نور الثقلين، ج ٣، ص ٥٧.].

‏و تتخلص الإجابة بقولنا: إنّ الإمام قال ذلك لمن كان يعتقد أن تفسير الآية منحصر بمعنی الرجوع إلی علماء أهل الكتاب في كل عصر و زمان، و بدون شك أنّه خلاف الواقع، فليس المقصود بالرجوع إليهم علی مر العصور و الأيّام، بل لكل مقام مقال، ففي عصر الإمام علي بن موسی الرضا عليه السّلام لا بدّ من الرجوع إليه علی أساس إنّه مرجع علماء الإسلام و رأسهم.

‏و بعبارة أخری: إذا كانت وظيفة المشركين في صدر الإسلام لدی سؤالهم عن الأنبياء السابقين، و هل أنّهم من جنس البشر هي الرجوع إلی علماء أهل الكتاب لا إلی النّبي صلّی اللّه عليه و آله و سلّم، فهذا لا يعني أن علی جميع الناس في أي عصر و مصر أن يرجعوا إليهم، بل يجب الرجوع إلی علماء كل زمان.

‏و علی أية حال .. فالآية مبيّنة لأصل إسلامي يتعيّن الأخذ به في كل مجالات الحياة المادية و المعنوية، و تؤكّد علی المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه ممن يعلمه، و أن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.

‏و علی هذا فإنّ «مسألة التخصص» لم يقررها القرآن الكريم و يحصرها في المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع و العلوم المختلفة، و يجب أن يكون‌ من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

‏و ينبغي التنويه هنا إلی ضرورة الرجوع إلی المتخصص الثابت علمه و تمكنه في اختصاصه، بالإضافة إلی توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا- علی سبيل المثال- غير مخلص في علمه؟! و لهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلی جانب الاجتهاد و الأعلمية، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلی علميته في المسائل الإسلامية.

مقتطف من كتاب تفسير الأمثل
2023/11/26

اقرأ باسم ربك: لماذا يبدأ القرآن بـ «الفاتحة» لا بـ «العلق»؟!
أولاً: لا شكّ ولا ريب عند المسلمين قاطبةً أنّ ترتيب سور القرآن الكريم – كما هو الموجود في المصحف - ليس على حسب ترتيب النزول، بل هو توقيفيّ من النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو اجتهاديّ من الصحابة من بعده – على خلافٍ بين العلماء في المسألة.

[اشترك]

ولا شكّ أيضاً أنّ ترتيب الآيات والسور على خلاف ترتيب نزولهما ليس من التحريف، بل التحريف الممنوع هو في الزيادة والنقيصة.

نعم، جمع أمير المؤمنين (عليه السلام) القرآن الكريم على ترتيب نزوله، فقدّم المكيّ على المدنيّ، والمنسوخ على الناسخ، قال الشيخ المفيد: (قد جمع أمير المؤمنين - عليه السلام - القرآن المنزل من أوّله إلى آخره، والذي بحسب ما وجب من تأليفه، فقدّم المكّيّ على المدنيّ، والمنسوخ على الناسخ، ووضع كلّ شيء منه في موضعه، ولذلك قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق - عليه السلام -: « أما والله لو قُرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمّين كما سُمّي مَن كان قبلنا ») [المسائل السرويّة ص79]، وقال ابن جزي: (فجمعه على ترتيب نزوله، ولو وُجد مصحفه لكان فيه علم كبير، ولكنّه لم يوجد) [التسهيل ج1 ص6]، وهذا المصحف ممّا يتوارثه الأئمّة المعصومون (عليهم السلام) كابراً عن كابر، إلى أن وصل لبقية الله الأعظم (عجّل الله فرجه).

ثانياً: هناك كلامٌ في أوّل ما نزل من القرآن الكريم على أقوال: سورة العلق، سورة المدّثر، سورة الفاتحة. فإنّه وإنْ كان المعروف أنّ أوّل ما نزل هو قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، ولكن الثابت نزول الآيات الأولى من السورة لا جميعها.

ولنذكر في المقام مختصر كلام العلّامة الشيخ محمّد هادي معرفة في كتابه الفخم [التمهيد في علوم القرآن ج1 ص157-160] حيث تكلّم حول الموضوع بشكل وافٍ.

جاء في كتاب [مختصر التمهيد في علوم القرآن ص32]:

(اختلف الباحثون في شؤون القرآن، في أنَّ أيَّ آياته أو سوَره نزلت قبل؟ والأقوال في ذلك ثلاثة:

1- سورة العلق: ففي تفسير الإمام العسكريّ (عليه السلام): « هبط إليه جبرائيل وأخذ بضبعه وهزَّه، فقال: يا محمَّد، اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمَّد {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} ».

2- سورة المدّثّر: روي عن ابن سلمة، قال: « سألت جابر بن عبد اللَّه الأنصاري: أيّ القرآن أنزل قبل؟ قال: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، قلت: أو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}؟ قال: أحدِّثكم ما حدَّثنا به رسول اللَّه، قال (صلى الله عليه وآله): إنّي جاورت بحراء، فلمّا قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي - ولعلَّه سمع هاتفاً -، ثمَّ نظرت إلى السماء فإذا هو - يعني جبرائيل -، فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثَّروني، فأنزل اللَّه: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} ».

ولعلَّ جابراً اجتهد من نفسه أنَّها أوَّل سورة نزلت؛ إذ ليس في كلام رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) دلالة على ذلك، والأرجح أنَّ ما ذكره جابر كان بعد فترة انقطاع الوحي، فظنَّه جابر بدء الوحي...

3- سورة الفاتحة: قال الزمخشريّ: « أكثر المفسِّرين على أنَّ الفاتحة أوَّل ما نزل ».

ورُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: « سألت النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة، على نحو ما نزلت من السماء، فأوَّل ما نزل عليه بمكَّة: فاتحة الكتاب، ثمّ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، ثمَّ: {ن وَالْقَلَمِ} » .

ولا شكّ أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يصلّي منذ بعثته، وكان يصلّي معه عليّ وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة، و « لا صلاة لمَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب »، فقد ورد في الأثر: « أوَّل ما بدأ به جبرائيل أن علَّمه الوضوء والصلاة »، فلا بدَّ أنَّ سورة الفاتحة كانت مقرونة بالبعثة .

الجمع بين الأقوال: نحن لا نرى تنافياً جوهريّاً بين الأقوال الثلاثة؛ لأنَّ الآيات الثلاثة أو الخمسة من أوَّل سورة العلق إنَّما نزلت تبشيراً بنبوَّته (صلى الله عليه وآله)، وهذا إجماع أهل الملَّة. ثمَّ بعد فترة جاءته آيات أيضاً من أوَّل سورة المدَّثِّر، كما جاء في حديث جابر ثانياً .

أمّا سورة الفاتحة فهي أوّل سورة نزلت بصورة كاملة، وبسمة كونها سورة من القرآن كتاباً سماويّاً للمسلمين. ومن هنا صحَّ التعبير عن سورة الحمد بسورة الفاتحة، أي: أوَّل سورة كاملة نزلت بهذه السمة الخاصَّة؛ إذ ليس المراد من الفاتحة أنّها كتبت في بدء المصاحف؛ لأنّ هذا الترتيب شيء حصل بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو لا أقلّ في عهد متأخّر من حياته فرضاً، في حين أنّها كانت تسمّى بفاتحة الكتاب منذ بداية نزولها كما يشير إليه قوله (صلى الله عليه وآله): « لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب »)، انتهى.

المقال رداً على سؤال: نعرف جميعاً ان الله ضمن القرآن من التحريف، سؤالي هو إذا كانت أول سورة نزلت هي {اقرأ باسم ربك..} كما هو معروف، فكيف يبدأ القرآن بسورة الفاتحة؟

2023/11/13

من دون كد أو تعب.. لماذا يرزق الله «الكسالى»؟!
تقول الآیة من سورة "الروم": ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ... ﴾ 1.

[اشترك]

فلا ینبغی أن یکون إقبال النعم مدعاةً للغرور ونسیان الله والطغیان، ولا إدبارها سبباً للیأس والقنوط، لأنّ سعة الرزق وضیقه بید الله، فتارة یرى المصلحة للعبد فی الحالة الاُولى «سعة الرزق»، وتارةً یراها فی الثّانیة، أی «الضیق».
وصحیح أنّ العالَم هو عالم الأسباب، فمن جَدّ وجد، ومن سعى قاوم الصعاب ینلْ فائدة أکثر ویربح عادةً، وأمّا اُولئك الكسالى فلا ینالون إلاّ قلیلاً... لكن هذه القاعدة فی الوقت ذاته لیست دائمیة ولا کلیة، إذ یتفق أن نرى أناساً جدیرین وجادّین یرکضون من هنا وهناك، إلاّ أنّهم لا یصلون إلى نتیجة یبلغون هدفهم، وعلى العكس منهم قد نشاهد أناساً لا یسعون ولا یجدّون وتتفتح علیهم أبواب الرزق من کل حدب وصوب.
وهذه الاستثناءات کأنّها لبیان أنّ الله بالرغم من جمیع ما جَعَل للأسباب من تأثیر، لا ینبغی أن یُنسى فی عالم الأسباب، ولا ینبغی للإنسان أن یغفل أن وراء هذا العالم یداً قویة اُخرى تدیره کیف شاءت!
فأحیاناً ـ ووفق مشیئته ـ توصد جمیع الأبواب بوجه الإنسان مهما سعى وجدّ فی الأمر، وقد یرحم الإنسان وییسّر له الاُمور إلى درجة اَنه ما أن یخطو خطوة... وإذا الأبواب متفتحة أمامه!
فما نرى فی حیاتنا من هذه المفارقات، بالإضافة إلى أنّه یحدّ من الغرور المتولد من وفور النعمة، والیأس الناشىء من الفقر، فهو فی الوقت ذاته دلیل على أن وراء إرادتنا ومشیئتنا یداً قویة اُخرى «تسیّر أعمالنا».

الهوامش: 1. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 37، الصفحة: 408.
2023/11/12

القصص القرآنية.. حقيقة أم خيال؟!

 

ليس فيما أورده القرأن الكريم من قصص الماضين إلا وهو حقٌ وصدق، فليس فيه ما هو من نسج الخيال بل هي وقائع حدثت في تاريخ الأمم وتصدَّى القرآن للإخبار عن بعضها.

[اشترك]

قال تعالى في سورة النساء: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾(1) فإنَّ الواضح من مفاد الآية المباركة انَّ ما قصَّه القرآن على الرسول (ص) من قصص الأنبياء وأممهم كانت وقائع قد حدثت لهم ولأممهم في الزمن الغابر ولم تكن مجرَّد افتراضات.

وكذلك هو مفاد قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾(2).

فإنَّ مجرد الإلتفات إلى مفردات الآية المباركة يُفضي إلى القطع بأنَّ القرآن كان بصدد الإخبار عن وقائع تاريخيَّة ولم يكن بصدد التأليف والنسج لقصص خياليَّة، فقوله: ﴿تِلْكَ الْقُرَى﴾ إشارة إلى بلدان وأمم محدَّدة كانت موجودة في التاريخ، وقوله: ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ من قصَّ الأثر أي تتبَّعه كما في قوله تعالى حكايةً عن أم موسى وأخته: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾(3) أي قالت أمُّ موسى بعد أن ألقت موسى (ع) في اليم لأخته قصِّيه أي تتبعي أخباره ومايقع عليه ومايكون عليه مصيره ثم أخبريني بذلك. فمعنى ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ هو اننا نُخبرك بما كنَّا قد تقصَّيناه او أحصيناه من الآثار والأحداث التي وقعت لتلك القرى.

ومعنى قوله تعالى: ﴿مِنْ أَنْبَائِهَا﴾ هو أخبارها، والخبر لا يكون إلا عن مُخبَر أي حدثٍ قد وقع، والمخبِر يتصدَّى لحكايته والإنباء عنه، فحتى الكاذب عندما يتصدَّى للإنباء والإخبار فإنَّه يدَّعي الحكاية عن الواقع الخارجي ولكنَّه كاذب، فيكون خبره غير مطابقٍ للواقع، وأما الصادق فإنَّ خبره يكون مطابقاً للواقع الخارجي.

هذا والآيات في ذلك عديدة كقوله تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾(6) أي بالصدق، والصدق لا يكون إلا وصفاً لخبرٍ مطابقٍ للواقع الخارجي، فلا يُوصف الخيال بالصدق والكذب، وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾(7) فقوله تعالى: ﴿مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾ صريحٌ في انَّ ما قصَّه القرآن على نبيِّه (ص) هي أخبار قد وقعت للأمم السابقة.

ولأنَّ المسألة من الوضوح بحيث لا تستحقُّ المزيد من البيان لذلك أغفلنا الذكر للكثير من الآيات التي هي واضحة في انَّ القرآن حين يتحدَّث عن شخصيَّاتٍ وأممٍ ومدن كان بصدد الإخبار والبيان لأحوالِ شخصيَّاتٍ وأممٍ ومدنٍ واقعيَّة وليست وهميَّة.

وأما انَّ القصص القرآنية تضمَّنت بعض الوقائع الغريبة فهذا صحيح إلا انَّ غرابتها لا ينفي وقوعها ولا يقتضي البناء على انَّها قصصٌ خياليَّة، فإنَّ غرابة الواقعة لا يعني ولا يُساوق استحالتها، فالغرابةُ إنَّما تنشأ عن كون الواقعة غير مألوفة ولا يتكرَّر وقوعها كثيراً وإلا فالكون في الكثير من وجوداته وأنظمته وقوانينه وأحداثه وظواهره مليئ بالأسرار التي لم يقف الإنسان إلى يومنا هذا على كنهها وحقيقتها، ولكنَّها رغم عدم العلم بكنهها وحقيقتها ليست مُستغرَبة للإنسان بل هي مأنوسة ومألوفة وذلك لكثرة تردُّدها ووقوعها.

فما هو السرُّ الذي تتحوَّل بسببه بذرةٌ ساكنة لا تُجاوز الحمصة بل هي أدنى حجماً من ذلك، فما هو السرُّ الذي يترتَّب عنه تحوُّلها إلى شجرةٍ باسقة ذاتِ جذورٍ ضاربة في الأرض وأغصانٍ خضراء فارعة قاسية أو ليِّنة، وثمرٍ من لونٍ آخر وطعمٍ لا يُشبهه طعمُ ثمرٍ آخر لشجرةٍ أُخرى كان أصلها هي أيضا بذرةً أُلقيت في التراب.

فأشجارٌ مختلفة الهيئات والألوان والثمار والطعوم والقيَم الغذائية نبتت جميعاً في تربةٍ ذات خصائصَ متشابهة، وتغذَّت من ماءٍ واحد، فكيف نمَت وترعرعت؟! ومَن الذي صبغ ألوانها وألوان ثمارها؟! ومَن الذي شكَّل هيئاتها المختلفة؟! وكيف اختلف مذاقُها وقيمُها الغذائية؟! ولو سألتَ علماء النبات والأحياء لتحدَّثوا عن قانون النمو أما كيف صار لها هذا القانون؟وكيف تعرفت التربة على هوية البذرة التي أُليقت فيها بحيث ان بذرة التفاح لم تُنتج رماناً؟! وكيف تأهَّلت هذه البذرة لإنتاج شجرةٍ باسقةٍ تحمل الأغصان والأوراق والثمار؟! ومَن الذي علَّمها أن تمتصَّ الماء والغذاء من محيطها؟! وثمة الكثير من الأسئلة التي لا يجد الإنسان لها جواباً، ولو وقف على شيءٍ من ذلك فهو لا يعدو الكشف لحقائقَ كانت موجودة قبل انْ يُدركها الإنسان فهو لم يبتكرها وإنَّما اكتشفها.

وكذلك هو الشأن في تحوُّل نطفةٍ سائلةٍ مُستحقَرَة إلى إنسانٍ سويٍّ له عقلٌ وإدراكٌ وإرادةٌ وصورةٌ متناسقة، ولكلِّ جارحةٍ منه وظيفةٌ لا تغني عنها جارجةٌ أخرى، وهكذا هو شأن سائر الوجودات الكونيَّة من الطيور والحيوانات التي تربو أصنافها على الآلاف والشمس والقمر والنجوم والأفلاك والمجرَّات.

فكلُّ مناحي الوجود يكتنفها الغموض لكنَّها ليست مُستغرَبة لكثرة وقوعها أمام الإنسان، فهو إنَّما يستغرب من الشيء الذي لا يُصادفه إلا في حالاتٍ نادرة، لذلك لو ولد إنسان مثلا على غير الهيئة المألوفة أو بملكاتٍ غير متعارفة فإنَّه يكون من الغرائب.

فكون الشيء غريباً لا يعني استحالته، ومن ذلك يتَّضح انَّ امتداد عمر نوح (ع) إلى ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً كما أخبر القرآن وإنْ كان مُستغرَباً ولكنَّه ليس مستحيلاً، فإنَّ الله تعالى لمَّا كان قادراً على كلِّ شيء فليس عزيزاً عليه ان يُؤهَّل جسد نوح للبقاء حيَّاً هذه المدة وأكثر كما أهَّل الكثير من الوجودات الكونية للبقاء إلى آلاف بل ملايين السنين، فالعقل لو تأملتم لا يُحيل ذلك.

وأما انَّ الخضر (ع) شرب من ماء الحياة فترتَّب عن ذلك إمتداد عمره لعلَّه إلى هذا اليوم فهو وإنْ لم يكن مستحيلاً في أنْ يخلق اللهُ تعالى في ماءٍ خاصيَّةً يترتَّب عنها هذا الأثر التكويني وهو انَّ مَن يشرب من ذلك الماء يمتدُّ عمره لآلاف السنين، كما خلق في بعض السوائل خاصيةً يترتَّب عن تناولها الشفاء من بعض الأمراض أو يترتَّب عنها الموت السريع، فوجود سائلٍ له خاصيَّة انْ يُعمِّر مَن يشربه أمداً طويلاً وإن كان ممكناً إلا انَّ القرآن لم يذكر ذلك.

نعم ورد في بعض الروايات في تفسير قوله تعالى من سورة الكهف: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إلى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾(8) انَّ الموقع الذي نسي فيه فتى موسى (ع) الحوت قاتَّخذ سبيله في البحر سربا كان هو الموقع الذي فيه عين الحياة وانَّه تقاطر شيءٌ من مائها على تلك الحوت التي كانت ميتة بل مملوحة فعادت إليها الحياة فوثبت إلى الماء ومضت، وهذا الموضع هو الذي جعله الله تعالى علامةً لموسى (ع) يعرف منها موضع وجود العبد الصالح الخضر، ولذلك لمَّا علم موسى (ع) بعد تجاوز الموضع بما شاهده الفتى وما وقع للحوت: ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا﴾(9) وحين عادا إلى ذلك الموضع وجدا الخضر الذي كان يبحث عنه موسى ليصحبه ويتعلَّم منه.

ففي هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾ كانت الإشارة إلى عين الحياة بحسب ماورد في بعض الروايات وكتب التفاسير إلا انَّ الآية ليست صريحةً في ذلك كما انَّها لم تذكر انَّ الخضر (ع) شرب من ذلك الماء وإنَّما أفادت ان الحوت اتَّخذ سبيله في البحر في ذلك الموضع بل انَّ الآية لم تُصرح انَّ الحوت كان ميتاً فأحياه الله حين غُسل أصابه شيءٌ من ماء ذلك الموضع، ولو تمَّ إستظهار انَّ الحوت كان ميتاً فإنَّ الآية لا ظهور لها في انَّ حياته بعد موته كان بسبب تقاطر شيءٍ من ذلك الماء عليه أو انَّ الحياة قد عادت إليه إبتداءً ليكون ذلك علامةً لموسى من عند الله يتعرَّفُ بها على موضع وجود العبد الصالح الخضر.

فصيرورة الحوت حيَّاً بعد انْ كان ميتاً وانَّ حياته عادت إليه بعد تقاطر شيءٍ من ماء عين الحياة عليه لا يمكن إثباته بالآية وإنَّما هو وارد في الروايات، ولو تمت هذه الروايات فلا محذور عقلا يمنع من عودة الحياة للحوت بعد الموت ولا محذور في ان يكون سبب ذلك هو تقاطر شيء من ذلك الماء عليه.

وقد تحدَّث القرآن الكريم عن عودة الحياة إلى بعض الأموات في الدنيا كقتيل بني إسرائيل الذي جاؤوا به إلى موسى (ع) يسألونه عن قاتله فأمرهم الله تعالى أنْ يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها، فحين فعلوا ذلك أحياه الله تعالى فأخبر عمَّن قتله: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(10).

وكذلك فإنَّ عيسى (ع) كان يُحي الموتى بإذن الله تعالى، وقد أحيا الله تعالى عزيراً بعد أنْ أماته مائة عام، فإحياء الحوت بعد انْ كان ميتة ليس مستحيلاً عقلاً، وقد كان له نظائر في تاريخ الرسالات.

نعم الروايات الواردة في تفاصيل القصة متعدَّدة ومضطربة وهو ما يمنع من الوثوق بصدورها عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) خصوصاً وان أكثرها ضعيفة الأسناد لكنَّ ذلك لا يمنع من الوثوق بصدور بعضها في الجملة، فإنَّ أكثرها اتَّفقت على انَّ الحوت قد عادت إليها الحياة بعد أنْ كانت ميتة وانَّ الخضر شرب من ماء الحياة، ولهذا فهو حييٌّ كما ورد ذلك في معتبرة الحسن بن علي بن فضال قال: سمعت؟ أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام يقول: إن الخضر (عليه السلام) شرب من ماء الحياة فهو حي لا يموت حتى ينفخ في الصور .."(11).

فبقاء الخضر إلى أنْ يُنفخ في الصور ليس مستحيلاً عقلاً ونظيره في القرآن ما أفادته آياتٌ عديدة من انَّ الله تعالى قد مدَّ في عمر إبليس، فهو موجود قبل أنْ يخلق الله آدم (ع) وقد وعده الله تعالى في أنْ يُنظره إلى يوم الوقت المعلوم ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾(12)، فلا يصحُّ التنكُّر للروايات الواردة في عمر الخضر لمجرَّد الإستيحاش من بقاء إنسانٍ كلَّ هذا العمر المديد.

والمتحصَّل مما ذكرناه انِّ كلَّ ما أفاده القرآن من قصص الأنبياء وأخبار الماضين كانت وقائع تاريخيَّة ولم تكن مجرَّد إفتراضات سِيقت لغرض الوعظ والإرشاد، نعم كانت هذه الغاية هي الغرض من سَوْق هذه الحقائق التاريخيَّة، فكلُّ ما أخبر عنه القرآن من تاريخ الأنبياء وأحوال الأمم الغابرة حقٌّ وصدق لا يشوبه ريب، وليس فيما أخبر عنه شيءٌ يُحيله عقلٌ أو يأباه.

وأما الروايات المتصدِّية لبيان قصص الأنبياء وأحوال الماضين والواردة في المجاميع الحديثيَّة وكتب التفاسير فالمقبول منها هو ما يثبت صدوره عن الرسول الكريم (ص) وأهل بيته (ع)، والتثبُّت من الصدور منوطٌ بعددٍ من الضواط السندية والدلالية والعقلائية، فلا يصح التعويل على كلِّ ما يرد من أخبار الماضين وقصص الأنبياء، فإنَّ الكثير منها -خصوصاً الوارد في طرق العامة وإن ذُكر في كتبنا- مبتلٍ بضعف الأسناد والإضطراب والتهافت بل المحرز انَّ الكثير من هذه الأخبار كانت من الإسرائيليَّات التي تسرَّبت إلى تراثنا من الوضَّاعين الكذَّابين من أهل الكتاب الذين دخلوا الإسلام مكايدةً وكذلك مَن أخذ عنهم وتأثَّر بأساطيرهم، وقد كان للقصَّاصين والوعَّاظ دورٌ بيِّن في هذا الشأن في القرون الأولى من عصر الإسلام خصوصاً في عهد الدولة الأموية بل وكذلك العباسيَّة حيث كان لمثل هذه الأساطير سُوقٌ رائجة بين عوام الناس.

ولهذا لا يصحُّ التعويل على شيءٍ مما هو مسطور في المجاميع الروائيَّة وغيرها إلا بعد عرضه على الضوابط التي بها يتميَّز الحديث الواجد لشرائط الإعتبار والحجيَّة من الحديث الساقط عن الإعتبار، وهذه الضوابط يعرفها المتمرِّس في علم الأصول وعلم الرجال والدراية.

المقال رداً على سؤال: هل يمكن أن تكون بعض القصص القرآنية خيالية فقط للإستفادة والعبرة وكيف ينظر المؤمن لبعض القصص والروايات التي إن عرضتها على العقل يرفضها مثلا عمر نوح أو ماء الحياة التي شرب منها الخضر (ع) أتمنى منكم جوابا يساعدني على فهم هذه الروايات والقصص. الهوامش: 1- سورة النساء / 164. 2- سورة الأعراف / 101. 3- سورة القصص / 11. 4- سورة يوسف / 120. 5- سورة يوسف / 3. 6- سورة الكهف / 13. 7- سورة طه / 99. 8- سورة الكهف / 61-63. 9- سورة الكهف / 64. 10- سورة البقرة / 72-73. 11- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص 390. 12- سورة الحجر / 36-38.
2023/11/04

2023/11/01

الكفار في «معيشة ضنكاً».. حقيقة أم وهم؟!
قال الله تعالى في سورة طه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾(1).

ظاهر الآية أنَّ الضنك والضيق والشقاء في المعيشة تُصيب المعرض عن ذكر الله في الدنيا بقرينة قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ فإنَّ ظاهر الآية أن المعرض عن ذكر الله يُبتلى بضيق المعيشة في الدنيا ثم يُحشر يوم القيامة أعمى، وهذا بخلاف ما نجده من أنَّ الكثير من المعرضين عن ذكر الله تعالى في رغدٍ وسعة من العيش، وكذلك فإنَّ العديد من الآيات نصَّت على أنَّ الكافرين يُمتعون في الدنيا كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ.. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾(2).

فكيف نوفِّق بين ما دلَّ على أنَّ الكافر يمتع في الدنيا وبين الآية التي أفادت أنَّ المعرض عن ذكر الله تكون له معيشة ضنكا.

ليس المراد من قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ هو الضيق في الرزق أو المرض أو عدم الأمن أو غيرها من أسباب الضيق في المعيشة، فإنَّ ذلك يُصيبُ الكافر ويُصيب المؤمن بل المراد من الآية- ظاهراً- هو أنَّ المُعرِض عن الله والجاحدَ لوجوده والمنكرَ لربوبيته يكون تعلُّقه متمحِّضاً بالدنيا لا يرجو غيرها لذلك يشتدُّ حرصُه على أن يتنعَّم فيها بأقصى ما يُتاح له، فهي الفرصة السانحة التي لا تقبل التكرار بحسب اعتقاده، ولهذا فإنَّه كلَّما حظيَ فيها بنعيمٍ أو لذَّة فإنَّه يحرصُ على أن يحظى بما هو أكثر فيكدح ويشغل قلبَه ويُجهد نفسه لغرض الوصول إلى ما يرغب إليه من المزيد فيشغله حرصه الدائم على المزيد عن الشعور بالهناء والسعادة الكاملة بما في يده، وهذا الحرص هو ما يبعثُ في نفسِه الشعور بالضيق، فلا يكاد يشعرُ بالراحة حتى تُساوره مشاعر الجشع والنهَم وطلبِ المزيد، وذلك ما يُكدِّر صفوه ويُقلق راحته لأنَّه يخشى أن يموت قبل الوصول إلى رغباته ومشتهياته التي لا تنتهي، ولا تقفُ عند حد.

ثم إنَّ الشعور بالهمِّ وضيقِ الصدر لا ينشأ عن طلب المزيد وحسب بل ينشأ كذلك عن الخشية من زوال ما بيدِه من أسباب الراحة، فهو يخشى دائماً أنْ يُصاب بمرضٍ يمنعُه من التلذُّذ بما في يدِه أو يخشى على أموالِه من التلف أو الضياع وعلى تجارته من الخسارة أو يخشى من ذهاب المنصب أو الموقع الذي يتبوأه أو يخشى أن يفقد مَن يُحبُّهم ويألفُهم، ويخشى أنْ يتقدَّم به السنُّ فلا يُتاح له التلذُّذ بما تحت يده، فهو دائماً في غمٍّ وهمِّ واضطرابٍ وقلقٍ وخوف من المجهول. وهذا هو معنى ضنك المعيشة التي يُبتلى بها المُعرِض عن ذكر الله والذي لا يرجو اللهَ واليوم الآخر.

وكذلك فإنَّ الحياة بطبعها محفوفة بالمكاره والمنغِّصات، فإنَّ ذلك لا يخلو منه إنسان، فلا تخلو الحياة من فقدٍ للأحبة أو إخفاق في مسعى أو عارض من مرضٍ أو عداوة أو خصومة وغير ذلك من المكاره والمنغِّصات، فالإنسانُ الذي لا يُؤمن بالله واليوم الآخر يضيقُ صدره بهذه المكاره أشدَّ الضيق لأنَّه يعتقد بأنَّ هذه الحياة غيرُ قابلةٍ للتكرار، فهو يرى أنَّ هذه الكاره وهذه المُعوِّقات تُفوِّتُ عليه فرصته الوحيدة في الاستمتاع والسعادة، لذلك فهو يشعر بالضيق والغيظ والتبرُّم والخشية من أنْ يمضي العمر على هذه الوتيرة.

وعلى خلاف ذلك المؤمنُ بالله حقَّ الإيمان والمعتقِدُ صادقاً أنَّ لهذه الدنيا ما وراءها وأنَّ المكارَه والمصائب معوَّضة بأوفرِ ما يكون العوض، وأنَّ ثمة حياةً بعد هذه الحياة ليس فيها موت، وأنَّ ثمة نعيماً لا يشوبه تنغيص ولا يخطر امتدادُه وسِعتُه على قلب بشر، وأنَّ هذه الدنيا دارُ بلاءٍ وامتحان مَن صبرَ فيها على المكروه وعمل فيها بمرضاتِ الله كان مآله إلى جنَّة يحظى فيها بعطاءٍ وافرٍ غير مجذوذٍ ولا مقطوع، مثلُ هذا يتلقَّى مكاره الدنيا بقلبٍ مطمئنٍ واثقٍ بوعد الله الصادق: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(3) وإذا أصاب من هذه الدنيا خيراً شعر بالقناعة والامتنان لربِّه ولم تذهبْ نفسُه حسراتٍ على ما يفوته من نعيمِ هذه الدنيا، لأنَّه ينتظرُ نعيماً واسعاً ليس له انقطاع فذلك هو ما يبعثُ في نفسه الشعور بالقناعة والرضا بما قُدِّر له في هذه الدنيا ، وهذه القناعة هي التي تمنحُه الراحة والاستقرار.

وخلاصة القول: إنَّ معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ هو أنَّ المعرِض عن ذكر الله تعالى يكون حظُّه من هذه الحياة ضيقَ الصدر واضطراب البال والحرص الشديد على الاستكثار من الملذَّات والخشية من فوات ما في يدِه منها ، وهو ما يسلب منه الشعور بالراحة والاستقرار، فلا يكادُ يشعر بالسعادة حتى تُساوره مشاعر القلق والخوف من المجهول فتُحيل غبطته بما صار في يده إلى توجُّسٍ واكتئاب.

الهوامش: 1- سورة طه / 124. 2- سورة لقمان / 23-24. 3- سورة الزمر / 10.
2023/10/23

مجازر وتشريد: متى تنتهي معاناة المسلمين بـ «نصر من الله»؟!
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّی يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ (٢١٤ - البقرة)

‏قال بعض المفسّرين: إنّ الآية نزلت عند ما حوصر المسلمون و اشتدّ الخوف و الفزع بهم في غزوة الأحزاب، فجاءت الآية لتثبّت علی قلوبهم و تعدهم بالنصر.

‏و قيل: إنّ عبد اللّه بن أبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلی متی تتعرّضون للقتل و لو كان محمّد نبيّا لما واجهتم الأسر و التقتيل، فنزلت الآية١.

‏الصعاب والمشاقّ سنّة إلهية

‏يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت تری أنّ إظهار الإيمان باللّه وحده كاف لدخولهم الجنّة، و لذلك لم يوطنوا أنفسهم علی تحمّل الصعاب‌ و المشاقّ ظانّين أنه سبحانه هو الكفيل بإصلاح أمورهم و دفع شرّ الأعداء عنهم.

‏الآية تردّ علی هذا الفهم الخاطئ و تشير إلی سنّة إلهية دائمة في الحياة، هي أنّ المؤمنين ينبغي أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة المشاقّ و التحدّيات علی طريق الإيمان ليكون ذلك اختبارا لصدق إيمانهم، و مثل هذا الاختبار قانون عامّ سری علی كلّ الأمم السابقة.

‏و يتحدّث القرآن الكريم عن بني إسرائيل- مثلا- و ما واجهوه من مصاعب بعد خروجهم من مصر و نجاتهم من التسلّط الفرعوني، خاصّة حين حوصروا بين البحر و جيش فرعون، فقد مرّوا بلحظات عصيبة فقد فيها بعضهم نفسه، لكن لطف اللّه شملهم في تلك اللحظات و نصرهم علی أعدائهم.

‏و هذا الذي عرضه القرآن عن بني إسرائيل عامّ لكلّ‌ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ‌ و هو سنّة إلهيّة تستهدف تكامل الجماعة المؤمنة و تربيتها. فكلّ الأمم ينبغي أن تمرّ في أفران الأحداث القاسية لتخلص من الشوائب كما يخلص الحديد في الفرن ليتحوّل إلی فولاذ أكثر مقاومة و أصلب عودا. ثمّ ليتبيّن من خلال هذا الاختبار من هو اللائق، و ليسقط غير اللائق و يخرج من الساحة الاجتماعية.

‏المسألة الأخری التي ينبغي التأكيد عليها في تفسير هذه الآية: أنّ الجماعة المؤمنة و علی رأسها النبيّ صلی اللّه عليه و آله و سلّم ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول‌ مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ‌؟!، و واضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا علی المشيئة الإلهية، بل هو نوع من الطلب و الدعاء.

‏فتقول الآية أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ ....

‏و بما أنّهم كانوا في غاية الاستقامة و الصبر مقابل تلك الحوادث و المصائب، و كانوا في غاية التوكّل و تفويض الأمر إلی اللّطف الإلهي، فلذلك تعقّب الآية أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ‌.

‏(بأساء) من مادّة (بأس) و كما يقول صاحب معجم مقاييس اللّغة أنّها في‌ الأصل تعني الشّدة و أمثالها، و تطلق علی كلّ نوع من العذاب و المشّقة، و يطلق علی الأشخاص الشّجعان الّذين يخوضون الحرب بضراوة و شدّة (بأيس) أو (ذو البأس).

‏و كلمة (ضرّاء) كما يقول الرّاغب في مفرداته هي النقطة المقابلة للسرّاء، و هي ما يسرّ الإنسان و يجلب له النفع، فعلی هذا الأساس تعني كلمة ضرّاء كلّ ضرر يصيب الإنسان، سواء في المال أو العرض أو النفس و أمثال ذلك.

‏جملة مَتی‌ نَصْرُ اللَّـهِ‌ قيلت من قبل النبي و المؤمنين حينما كانوا في منتهی الشّدة و المحنة، و واضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا علی المشيئة الإلهيّة، بل هو نوع من الطلّب و الدعاء، و لذلك تبعته البشارة بالإمداد الإلهي.

‏و ما ذكره بعض المفسرين من احتمال أن تكون جملة (متی نصر اللّه) قيلت من طرف جماعة من المؤمنين، و جملة (ألا إنّ نصر اللّه قريب) قيلت من قبل النبي صلی اللّه عليه و آله و سلّم بعيد جدّا.

‏و علی ايّة حال، فإنّ الآية أعلاه تحكي أحد السنن الالهيّة في الأقوام البشريّة جميعا، و تنذر المؤمنين في جميع الأزمنة و الأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النّصر و التوفيق و المواهب الاخرويّة أن يتقبّلوا الصّعوبات و المشاكل و يبذلوا التضحيات في هذا السبيل، و في الحقيقة إنّ هذه المشاكل و الصّعوبات ما هي إلّا إمتحان و تربية للمؤمنين و لتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.

‏و عبارة الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ‌ تقول للمسلمين: أنّكم لستم الوحيدين في هذا الطريق الّذين ابتليتم بالمصائب من قبل الأعداء، بل أنّ الأقوام السّالفة ابتلوا أيضا بهذه الشدائد و المصائب إلی درجة أنّهم مسّتهم البأساء و الضرّاء حتّی استغاثوا منها.

‏و أساسا فإنّ رمز التكامل للبشريّة أن يحاط الأفراد و المجتمعات في دائرة البلاء و الشّدائد حتّی يكونوا كالفولاذ الخالص و تتفتّح قابليّاتهم الداخليّة و ملكاتهم النفسانيّة و يشتد إيمانهم باللّه تعالی، و يتميّز كذلك المؤمنون و الصّابرون‌ عن الأشخاص الانتهازيّين، و نختتم هذا الكلام بالحديث النبوي الشريف:

‏يقول (الخبّاب ابن الأرت) الّذي كان من المجاهدين في صدر الإسلام: قال قلنا يا رسول اللّه ألا تستنصر لنا ألا تدعو اللّه لنا.

‏فقال صلی اللّه عليه و آله و سلّم: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار علی مفرق رأسه فيخلص إلی قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه و يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه و عظمه لا يصرفه ذلك عن دينه؛ ثمّ قال: و اللّه ليتمن هذا الأمر حتّی يسير الراكب من صنعاء إلی حضرموت لا يخاف إلّا اللّه و الذئب علی غنمه و كلّكم يستعجلون»٢.

*مقتبس من تفسير الأمثل الهوامش: ‏١ مجمع البيان، ج ١، ص ٣٠٨. ‏٢ الدر المنثور: ج ١ ص ٢٤٣، تفسير الكبير: ج ٦ ص ٢٠.
2023/10/18

جواب صادم لمنكري «القرآن» و «النبوّة»!
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‌ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّـهِ سُبْحانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣).

‏هذه الآيات تواصل البحث الاستدلالي السابق- كذلك- وهي تناقش المنكرين للقرآن و نبوّة محمّد صلّی اللّه عليه و آله و سلّم و قدرة اللّه سبحانه.

‏وهي آيات تبدأ جميعها ب «أم» التي تفيد الاستفهام و تشكّل سلسلة من‌ الاستدلال في أحد عشر سؤالا متتابعا (بصورة الاستفهام الإنكاري)، و بتعبير أجلی: إنّ هذه الآيات تسدّ جميع الطرق بوجه المخالفين فلا تدع لهم مهربا في عبارات موجزة و مؤثّرة جدّا بحيث ينحني الإنسان لها من دون إختياره إعظاما و يعترف و يقرّ بانسجامها و عظمتها. فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‌ءٍ أَمْ هُمُ‌ الْخالِقُونَ‌١.

‏وهذه العبارة الموجزة و المقتضبة في الحقيقة هي إشارة إلی «برهان العليّة» المعروف الوارد في الفلسفة و علم الكلام لإثبات وجود اللّه، و هو أنّ العالم الذي نعيش فيه ممّا لا شكّ- فيه- حادث (لأنّه في تغيير دائم، و كلّ ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث، و كلّ ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديما و أزليّا).

‏و الآن ينقدح هذا السؤال، و هو إذا كان العالم حادثا فلا يخرج عن الحالات الخمس التالية:

‏١- وجد من دون علّة!

٢- هو نفسه علّة لنفسه.

‏٣- معلولات العالم علّة لوجوده.

‏٤- إنّ هذا العالم معلول لعلّة اخری و هي معلولة لعلّة اخری إلی ما لا نهاية.

‏٥- إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتيا له.

‏و بطلان الاحتمالات الأربع المتقدّمة واضح، لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال، و إلّا فينبغي أن يكون كلّ شي‌ء موجودا في أي ظرف كان، و الأمر ليس كذلك! و الاحتمال الثاني و هو أن يوجد الشي‌ء من نفسه محال أيضا، لأنّ مفهومه أن‌ يكون موجودا قبل وجوده، و يلزم منه اجتماع النقيضين [فلاحظوا بدقّة].

‏و كذلك الاحتمال الثالث و هو أنّ مخلوقات الإنسان خلقته، و هو واضح البطلان إذ يلزم منه الدور!.

‏و كذلك الاحتمال الرابع و هو تسلسل العلل و ترتّب العلل و المعلول إلی ما لا نهاية أيضا محال، لأنّ سلسلة المعلولات اللّامحدودة مخلوقة، و المخلوق مخلوق و يحتاج إلی خالق أوجده، تری هل تتحوّل الأصفار التي لا نهاية لها إلی عدد؟! أو ينفلق النور من ما لا نهاية الظلمة؟! و هل يولد الغنی من ما لا نهاية له في الفقر و الفاقة؟

‏فبناء علی ذلك لا طريق إلّا القبول بالاحتمال الخامس، أي خالقية واجب الوجود [فلاحظوا بدقّة أيضا].

‏و حيث أنّ الركن الأصلي لهذا البرهان هو نفي الاحتمال الأوّل و الثاني فإنّ القرآن اقتنع به فحسب.

‏و الآن ندرك جيّدا وجه الاستدلال في هذه العبارات الموجزة! الآية التالية تثير سؤالا آخر علی الادّعاء في المرحلة الأدنی من المرحلة السابقة فتقول: أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ‌.

‏فإذا لم يوجدوا من دون علّة و لم يكونوا علّة أنفسهم أيضا، فهل هم واجبو الوجود فخلقوا السماوات و الأرض؟! و إذا لم يكونوا قد خلقوا الوجود، فهل أو كل اللّه إليهم أمر خلق السماء و الأرض؟ فعلی هذا هم مخلوقون و بيدهم أمر الخلق أيضا!!.

‏من الواضح أنّهم لا يستطيعون أن يدّعوا هذا الادّعاء الباطل، لذلك فإنّ الآية تختتم بالقول: بَلْ لا يُوقِنُونَ‌! أجل، فهم يتذرّعون بالحجج الواهية فرارا من الإيمان! ثمّ يتساءل القرآن قائلا: فإذا لم يدّعوا هذه الأمور و لم يكن لهم نصيب في‌ الخلق، فهل عندهم خزائن اللّه‌ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ‌٢ ليهبوا من شاؤوا نعمة النبوّة و العلم أو الأرزاق الآخر و يمنعوا من شاؤوا ذلك: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ‌ علی جميع العوالم و في أيديهم امور الخلائق؟! انّهم لا يستطيعون- أن يدّعوا أبدا أنّ عندهم خزائن اللّه تعالی، و لا يملكون تسلّطا علی تدبير العالم، لأنّ ضعفهم و عجزهم إزاء أقل مرض بل حتّی علی بعوضة تافهة و كذلك احتياجهم إلی الوسائل الابتدائية للحياة خير دليل علی عدم قدرتهم و فقدان هيمنتهم! و إنّما يجرّهم إلی إنكار الحقائق هوی النفس و العناد و حبّ الجاه و التعصّب و الأنانية!.

‏و كلمة: «مصيطرون» إشارة إلی أرباب الأنواع التي هي من خرافات القدماء، إذ كانوا يعتقدون أنّ كلّ نوع من أنواع العالم إنسانا كان أمّ حيوانا آخر أم جمادا أم نباتا له مدبّر و ربّ خاصّ يدعی بربّ النوع و يدعون اللّه «ربّ الأرباب» و هذه العقيدة تعدّ في نظر الإسلام «شركا» والقرآن في آياته يصرّح بأنّ التدبير لجميع الأشياء هو للّه وحده و يصفه بربّ العالمين.

‏وأصل هذه الكلمة من «سطر» و معناه صفّ الكلمات عند الكتابة، و «المسيطر» كلمة تطلق علی من له تسلّط علی شي‌ء ما و يقوم بتوجيهه، كما أنّ الكاتب يكون مسيطرا علی كلماته (و ينبغي الالتفات إلی أنّ هذه الكلمة تكتب بالسين و بالصاد علی السواء- مسيطر و مصيطر- فهما بمعنی واحد و إن كان الرسم القرآن المشهور بالصاد «مصيطر»).

‏و من المعلوم أنّه لا منكرو النبوّة و لا المشركون في العصر الجاهلي و لا سواهما يدّعي أيّا من الأمور الخمسة التي ذكرها القرآن، و لذلك فإنّه يشير إلی موضوع آخر في الآية التالية فيقول: إنّ هؤلاء هل يدعون أنّ الوحي ينزل عليهم‌ أو يدعون أنّ لهم سلّما يرتقون عليه إلی السماء فيستمعون إلی أسرار الوحي: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ‌.

‏و حيث إنّه كان من الممكن أن يدّعوا بأنّهم علی معرفة بأسرار السماء فإنّ القرآن يطالبهم مباشرة بعد هذا الكلام بالدليل فيقول: فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ‌.

‏و من الواضح أنّه لو كانوا يدّعون مثل هذا الادّعاء فإنّه لا يتجاوز حدود الكلام فحسب، إذ لم يكن لهم دليل علی ذلك أبدا٣.

‏ثمّ يضيف القرآن قائلا: هل صحيح ما يزعمون أنّ الملائكة إناث و هم بنات اللّه؟! أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ‌؟! و في هذه الآية إشارة إلی واحد من اعتقاداتهم الباطلة، و هو استياؤهم من البنات بشدّة، و إذا علموا أنّهم رزقوا من أزواجهم «بنتا» اسودّت وجوههم من الحياء و الخجل! و مع هذا فإنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات اللّه، فإذا كانوا مرتبطين بالملإ الأعلی و يعرفون أسرار الوحي، فهل لديهم سوی هذه الخرافات المضحكة .. و هذه العقائد المخجلة؟! و بديهي أنّ الذكر و الأنثی لا يختلفان في نظر القيمة الإنسانية .. و التعبير في الآية المتقدّمة هو في الحقيقة من قبيل الاستدلال بعقيدتهم الباطلة و محاججتهم بها.

‏و القرآن يعوّل- في آيات متعدّدة- علی نفي هذه العقيدة الباطلة و يحاكمهم في هذا المجال و يفضحهم‌!! ثمّ يتنازل القرآن إلی مرحلة اخری، فيذكر واحدا من الأمور التي يمكن أن تكون ذريعة لرفضهم فيقول: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ‌.

‏«المغرم»- علی وزن مغنم و هو ضدّ معناه- أي ما يصيب الإنسان من خسارة أو ضرر دون جهة، أمّا الغريم فيطلق علی الدائن و المدين أيضا.

‏و «المثّقل» مشتقّ من الأثقال، و معناه تحميل العب‌ء و المشقّة، فبناء علی هذا المعنی يكون المراد من الآية: تری هل تطلب منهم غرامة لتبليغ الرسالة فهم لا يقدرون علی أدائها و لذلك يرفضون الإيمان؟! و قد تكرّرت الإشارة في عدد من الآيات القرآنية لا في النّبي فحسب، بل في شأن كثير من الأنبياء، إذ كان من أوائل كلمات النبيين قولهم لأممهم: لا نريد علی إبلاغنا الرسالة إليكم أجرا .. ليثبت عدم قصدهم شيئا من وراء دعوتهم و لئلّا تبقی ذريعة للمتذرّعين أيضا.

‏و مرّة اخری يخاطبهم القرآن متسائلا أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ‌ فهؤلاء يدّعون أنّ النّبي شاعر و ينتظرون موته لينطوي بساطه و ينتهي كلّ شي‌ء بموته و تلقی دعوته في سلّة الإهمال، كما تقدّم في الآية السابقة ذلك علی لسان المشركين إذ كانوا يقولون .. نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ‌.

‏فمن أين لهم أنّهم سيبقون أحياء بعد وفاة النبي؟! و من أخبرهم بالغيب؟! و يحتمل أيضا أنّ القرآن يقول إذا كنتم تدّعون معرفة الأسرار الغيبية و أحكام اللّه و لستم بحاجة إلی القرآن و دين محمّد فهذا كذب عظيم‌٤.

‏ثمّ يتناول القرآن احتمالا آخر فيقول: لو لم يكن كلّ هذه الأمور المتقدّمة، فلا بدّ أنّهم يتآمرون لقتل النّبي و إجهاض دعوته و لكن ليعلموا أنّ كيد اللّه أعلی‌ و أقوی من كيدهم: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ‌٥.

‏و الآية الآنفة يطابق تفسيرها تفسير الآية (٥٤) من سورة آل عمران التي تقول: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّـهُ وَ اللَّـهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ‌.

‏و احتمل جماعة من المفسّرين أنّ المراد من الآية محلّ البحث هو: «انّ مؤامراتهم ستعود عليهم أخيرا و تكون وبالا عليهم ...» و هذا المعنی يشبه ما ورد في الآية (٤٣) من سورة فاطر: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ‌.

‏و الجمع بين التّفسيرين الآنفين ممكن و لا مانع منه.

‏و يمكن أن يكون لهذه الآية ارتباط آخر بالآية المتقدّمة، و هو أنّ أعداء الإسلام كانوا يقولون: ننتظر موت محمّد. فالقرآن يردّهم بالقول بأنّهم ليسوا خارجين عن واحد من الأمرين التاليين .. أمّا أنّهم يدّعون بأنّ محمّدا يموت قبل موتهم حتف أنفه. فلازم هذا الادّعاء أنّهم يعلمون الغيب، و أمّا أنّ مرادهم أنّه سيمضي بمؤامراتهم فاللّه أشدّ مكرا و يردّ كيدهم إليهم، فهم المكيدون! و إذا كانوا يتصوّرون أنّ في اجتماعهم في دار الندوة و رشق النّبي بالتّهم كالكهانة و الجنون و الشعر أنّهم سينتصرون علی النّبي فهم في منتهی العمی و الحمق، لأنّ قدرة اللّه فوق كلّ قدرة، و قد ضمن لنبيّه السلامة و النجاة حتّی يبلغ دعوته العالمية.

‏و أخيرا فإنّ آخر ما يثيره القرآن من أسئلة في هذا الصدد قوله: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّـهِ‌؟! و يضيف- منزّها- سُبْحانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ‌.

‏فعلی هذا لا أحد يستطيع أن يمنعهم من اللّه و يحميهم، و هكذا فإنّ القرآن يستدرجهم و يضعهم أمام استجواب عجيب و أسئلة متّصلة تؤلّف سلسلة متكاملة مؤلّفة من أحد عشر سؤالا! و يقهقرهم مرحلة بعد مرحلة إلی الوراء!! و يضطرهم‌ إلی التنزّل من الادّعاءات ثمّ يوصد عليهم سبل الفرار كلّها و يحاصرهم في طريق مغلق!.

‏كم هي رائعة استدلالات القرآن و كم هي متينة أسئلته و استجوابه! .. فلو أنّ في أحد منهم روحا تبحث عن الحقّ و تطلبه لأذعنت أمام هذه الأسئلة و استسلمت لها.

‏الطريف أنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث لا تذكر دليلا لنفي المعبودات ممّا سوی اللّه، و تكتفي بتنزيه اللّه‌ سُبْحانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ‌.

‏و ذلك لأنّ بطلان الوهية الأصنام و الأوثان المصنوعة من الأحجار و الخشب و غيرهما مع ما فيها من ضعف و احتياج أجلی و أوضح من أي بيان و تفصيل آخر، أضف إلی كلّ ذلك فإنّ القرآن استدلّ علی إبطال هذا الموضوع بآيات متعدّدة غير هذه الآية.

‏١ هناك تفسيرات أخر و احتمالات متعدّدة في وجوه هذه الآية، منها أنّ مفادها: هل خلقوا بلا هدف و لم يك عليهم أيّة مسئولية؟! .. و بالرغم أنّ جماعة من المفسّرين اختاروا هذا الوجه إلّا أنّه مع الالتفات لبقيّة الآية: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ يتّضح أنّ المراد هو ما ذكر في المتن، أي خلقوا من دون علّة. أم هم علّة أنفسهم؟!.

‏٢ الخزائن جمع الخزينة و معناها مكان كلّ شي‌ء محفوظ لا تصل إليه اليد و يدّخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في هذا الصدد وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ‌[ الحجر الآية ٢١].

‏٣ سلّم يعني« المصعد» كما يأتي بمعنی أيّة وسيلة كانت و قد اختلف المفسّرون في المراد من الآية فأيّ شي‌ء كانوا يدعونه؟! فقال بعضهم: ادّعوا الوحي و قال آخرون هو ما كانوا يدّعونه في النّبي بأنّه شاعر أو مجنون أو ما كانوا يدّعون من الأنداد و الشركاء للّه ... و فسّر بعضهم ذلك بنفي نبوّة محمّد صلّی اللّه عليه و آله و سلّم« و لا مانع من الجمع بين هذه المعاني و إن كان المعنی الأوّل أجلی».

‏٤ قال بعض المفسرين أنّ المراد بالغيب هو اللوح المحفوظ، و قال بعضهم: بل هو إشارة إلی ادّعاءات المشركين و قولهم إذ كانت القيامة فسيكون لنا عند اللّه مقام كريم. إلّا أنّ هذه التفاسير لا تتناسب و الآية محلّ البحث و لا يرتبط بعضها ببعض.

‏٥ الكيد علی وزن صيد نوع من الحيلة و قد يستعمل في التحيّل إلی سبيل الخير، إلّا أنّه غالبا ما يستعمل في الشرّ، و تعني هذه الكلمة المكر و السعي أو الجدّ كما تعني الحرب أحيانا.

*مقتطف من تفسير الأمثل الهوامش: ‏١ هناك تفسيرات أخر و احتمالات متعدّدة في وجوه هذه الآية، منها أنّ مفادها: هل خلقوا بلا هدف و لم يك عليهم أيّة مسئولية؟! .. و بالرغم أنّ جماعة من المفسّرين اختاروا هذا الوجه إلّا أنّه مع الالتفات لبقيّة الآية: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ يتّضح أنّ المراد هو ما ذكر في المتن، أي خلقوا من دون علّة. أم هم علّة أنفسهم؟!. ‏٢ الخزائن جمع الخزينة و معناها مكان كلّ شي‌ء محفوظ لا تصل إليه اليد و يدّخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في هذا الصدد وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ‌[ الحجر الآية ٢١]. ‏٣ سلّم يعني« المصعد» كما يأتي بمعنی أيّة وسيلة كانت و قد اختلف المفسّرون في المراد من الآية فأيّ شي‌ء كانوا يدعونه؟! فقال بعضهم: ادّعوا الوحي و قال آخرون هو ما كانوا يدّعونه في النّبي بأنّه شاعر أو مجنون أو ما كانوا يدّعون من الأنداد و الشركاء للّه ... و فسّر بعضهم ذلك بنفي نبوّة محمّد صلّی اللّه عليه و آله و سلّم« و لا مانع من الجمع بين هذه المعاني و إن كان المعنی الأوّل أجلی». ‏٤ قال بعض المفسرين أنّ المراد بالغيب هو اللوح المحفوظ، و قال بعضهم: بل هو إشارة إلی ادّعاءات المشركين و قولهم إذ كانت القيامة فسيكون لنا عند اللّه مقام كريم. إلّا أنّ هذه التفاسير لا تتناسب و الآية محلّ البحث و لا يرتبط بعضها ببعض. ‏٥ الكيد علی وزن صيد نوع من الحيلة و قد يستعمل في التحيّل إلی سبيل الخير، إلّا أنّه غالبا ما يستعمل في الشرّ، و تعني هذه الكلمة المكر و السعي أو الجدّ كما تعني الحرب أحيانا ..
2023/10/02

عبس وتولى.. هل نزلت في حق النبي (ص)؟!
أجمعَ علماؤنا ومفسّرونا على أنّ قولَه تعالى (عبسَ وتولّى) ليسَ المعنيُّ بها النبيّ (ص) كما يذهبُ إلى ذلكَ جمهورُ علماءِ العامّة، وإنّما المعنيُّ بها شخصٌ آخر كانَ جالِساً في ذلكَ المكان، وهوَ الذي عبسَ لـمّا رأى ابنَ أمِّ مكتوم الأعمى يخاطبُ النبيَّ (ص)، فلذا نزلَت فيه هذهِ الآية.

نقلَ الشيخُ الطبرسيّ في مجمعِ البيان (ج10/ص438) عن السيّدِ علمِ الهُدى (ره) في كتابِه التنزيه (ص118) قولَه: أمّا ظاهرُ الآيةِ فغيرُ دالٍّ على توجّهِها إلى النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، ولا فيها ما يدلُّ على أنّها خطابٌ له ، بل هيَ خبرٌ محضٌ لم يُصرِّح بالمُخبَرِ عنه ، وفيها ما يدلُّ عند التأمّلِ على أنَّ المعنيَّ بها غيرُ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، لأنّهُ وصفَه بالعُبوس، وليسَ هذا مِن صفاتِ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله في قرآنٍ ولا خبرٍ معَ الأعداءِ المُباينينَ، فضلاً عن المؤمنينَ المُسترشدينَ ، ثمَّ وصفَه بأنّه يتصدّى للأغنياء، ويتلهّى عن الفقراء، وهذا ممّا لا يصفُ به نبيُّنا صلّى اللهُ عليه وآله مَن يعرفُه ، فليسَ هذا مُشابِهاً لأخلاقِه الواسعةِ وتحنّنِه إلى قومِه ، وتعطّفِه ، وكيفَ يقولُ له صلّى اللهُ عليهِ وآله : " وما عليكَ ألّا يزكى " وهوَ صلّى اللهُ عليهِ وآله مبعوثٌ للدّعاءِ والتنبيه؟ وكيفَ لا يكونُ ذلكَ عليهِ وكانَ هذا القولُ إغراءً بتركِ الحرصِ على إيمانِ قومِه ؟ وقد قيلَ : إنَّ هذه السورةَ نزلَت في رجلٍ مِن أصحابِ رسولِ الله صلّى اللهُ عليه وآله كانَ منهُ هذا الفعلُ المنعوتُ فيها ، ونحنُ وإن شكَكنا في عينِ مَن نزلَت فيه فلا ينبغي أن نشكَّ في أنّها لم يعنِ بها النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، وأيُّ تنفيرٍ أبلغُ منَ العبوسِ في وجوهِ المؤمنين ، والتلهّي عنهم ، والإقبالِ على الأغنياءِ الكافرين؟ وقد نزَّهَ اللهُ تعالى النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآله عمّا دونَ هذا في التنفيرِ بكثيرٍ انتهى.

قلتُ: ومِـمّا يؤيّدُ ذلكَ أنَّ هناكَ كثيراً منَ الآياتِ في حقِّ الرّسولِ (ص) تمنعُ منَ التصديقِ بما أوردَه جمهورُ العامّةِ مِن أحاديثَ تزعمُ أنّها نزلَت في النبيّ (ص)، ومِن هذهِ الآياتِ: قولُه تعالى يصفُ فيها نبيّنا الأكرمَ (ص) بقولِه: ((بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيم )) (التوبةُ: 128). وكذلكَ قولُه تعالى: ((وإنّكَ لعُلى خُلقٍ عظيم)) (القلمُ:4)، وقولُه تعالى: ((واخفِض جناحكَ لمَن اتّبعكَ منَ المؤمنين)) (الشعراءُ:215)، وقولُه تعالى عن الرّسول: ((ولقد كانَ لكُم في رسولِ اللهِ أسوةٌ حسنة )) (الأحزاب:21). وعليهِ: كيفَ سمحَ جمهورُ عُلماءِ العامّةِ لأنفسِهم بتصديقِ مثلِ الرواياتِ التي هيَ منَ الوضوحِ بمكانٍ أنّها مُخالفةٌ لآياتِ الكتابِ العزيز آنفاً، والظاهرُ أنّهم ما عرفوا حقَّ رسولَ الله (ص) ولا مكانتَه ولا صفاتِه كما يجب، إذ لو أنّهم عرفوا ذلكَ حقّاً خصوصاً فيما يتعلّقُ بصفاتِه العُليا التي مدحَه اللهُ تعالى بها ومنزلتهِ الساميةِ لاكتشفوا أنّ تلكم الرواياتِ التي تزعمُ صدورَ هذا الأمرَ المُنافيَ للأخلاقِ عنه (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) هيَ مِن تلفيقِ الكذّابين؟!! 

ثُمَّ هاهُنا أمرٌ ينبغي التنبيهُ عليه، وهوَ: أنَّ قسماً مِن كبارِ عُلماءِ السنّةِ ومُفسّريهم , لا يُسلّمُ أنَّ خطابَ (( عبسَ وتولّى )) متوجّهٌ إلى النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) , لأنّه ليسَ مِن صفاتِ النبي (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) العبوسةُ، ومِن هؤلاء :

1- المُفسّرُ الكبيرُ فخرُ الدينِ الرازي , المتوفّى 606 هـ , في كتابِه (عصمةُ الأنبياءِ ص 137 ـ ط دارُ الكُتبِ العلميّة ـ بيروت) .

2- القاضي عيّاض اليحصبي , المتوفّى 544 هـ , في كتابِه (الشفا بتعريفِ حقوقِ المُصطفى 2/161 ـ ط دارُ الفِكر ـ بيروت) .

3- الزركشي , المتوفّى 794 هـ , في كتابِه (البرهانُ في علومِ القُرآنِ 2/242 ـ ط دارُ إحياءِ الكتبِ العربيّة ـ القاهرة) .

4- الصالحي الشامي , المتوفّى 942 هـ , في كتابِه (سبلُ الهُدى والرشادِ 11/474 ـ ط دارُ الكُتبِ العلميّة ـ بيروت.

2023/10/01