في القرآن الكريم.. ما قصة الحروف المقطّعة غير المفهومة؟!

تسع و عشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة، و هذه الحروف- كما هو واضح من اسمها- لا تشكل كلمة مفهومة.

‏هذه الحروف من أسرار القرآن، و ذكر المفسرون لها تفاسير عديدة، و أضاف لها العلماء المعاصرون تفاسير جديدة من خلال تحقيقاتهم.

‏جدير بالذّكر أن التاريخ لم يحدثنا أنّ عرب الجاهلية و المشركين عابوا علی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله اله و سلّم وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن. و لم يتخذوا منها وسيلة للطعن و الاستهزاء. و هذا يشير إلی أنهم لم يكونوا جاهلين تماما بأسرار وجود الحروف المقطعة.

‏اخترنا من التفاسير الكثيرة لهذه الحروف، عددا من التفاسير باعتبار مسنديتها و انسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال. و سنذكر هذه التفاسير بالتدريج في بداية هذه السّورة، و سورة آل عمران، و سورة الأعراف، إن شاء اللّه. و نبدأ الآن بأهمها:

‏هذه الحروف إشارة إلی أن هذا الكتاب السماوي، بعظمته و أهميّته التي حيّرت فصحاء العرب و غير العرب، و تحدت الجن و الإنس في عصر الرسالة و كل العصور، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع.

‏و مع أنّ القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية و الكلمات المتداولة، فإن ما فيه من جمال العبارة و عمق المعنی يجعله ينفذ إلی القلب و الروح، و يملأ النفس بالرضا و الإعجاب، و يفرض احترامه علی الأفكار و العقول.

‏في القرآن من الفصاحة و البلاغة ما لا يخفی علی أحد، و ليس هذا مجرّد ادّعاء، فخالق الكون تحدّی بهذا الكتاب جميع (الجن و الإنس)، ليأتوا بمثله‌ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً

[الإسراء، ٨٨.]

٣، و لكنهم عجزوا جميعا عن ذلك، و تلك دلالة علی أن هذا الكتاب لم يصدر عن فكر بشر.

‏و كما إن اللّه تعالی خلق من التراب موجودات، كالإنسان بما فيه من أجهزة معقّدة محيّرة، و كأنواع الطيور الجميلة الرائقة، و الأحياء المتنوعة، و النباتات و الزهور المختلفة، و كما إننا ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات، كذلك اللّه سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة، موضوعات و معان سامية، في قوالب لفظية جميلة، و عبارات موزونة، و أسلوب خاص مدهش معجز، و هذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان، لكنه عاجز عن صنع جمل و عبارات شبيهة بالقرآن.

‏الأدب في العصر الجاهلي:

‏من المهم أن نذكر هنا أن العصر الجاهلي كان عصرا ذهبيا للأدب العربي. فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلی أن العرب الحفاة الجفاة الجاهليين، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. و ما وصلنا من شعر و نثر من تلك الفترة، يشير إلی قدرة أولئك علی التعبير الجميل الدقيق، و يحتل ذروة الفصاحة في الأدب العربي.

‏و كان للأدب سوق رائجة تدلّ علی اهتمام العرب بلغتهم و آدابهم، و (سوق عكاظ) و أمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الاهتمام بوضوح.

‏و السوق المذكور كان يشهد- إضافة إلی المعاملات الاقتصادية و القضايا الاجتماعية- حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر و النثر، و يتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام، و (المعلقات السبع) أو (العشر) نموذج لذلك، و كانت القصيدة الفائزة تعدّ فخرا كبيرا للشاعر و لقبيلته.

‏في مثل هذا العصر من الانتعاش الأدبي، يتحدی القرآن النّاس أن يأتوا بمثله، و لكنهم عجزوا (سنذكر مزيدا من إعجاز القرآن في مجال التحدي لدی تفسير الآية ٢٣ من هذه السّورة).

‏شاهد ناطق:

‏الشاهد الناطق علی هذا المنحی من تفسير الحروف المقطعة،

‏حديث عن الإمام علي بن الحسين عليه السّلام حيث يقول: «كذّب قريش و اليهود بالقرآن و قالوا هذا سحر مبين، تقوّله، فقال اللّه: الم، ذلِكَ الْكِتابُ ...: أيّ يا محمّد، هذا الكتاب الّذي أنزلته إليك هو الحروف المقطّعة الّتي منها الف و لام و ميم، و هو بلغتكم و حروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ...»

[تفسير البرهان، ج ١، ص ٥٤.]

٤.

‏و ثم شاهد آخر

‏عن الإمام علي بن موسی الرضا عليه السّلام في قوله: «ثمّ قال إنّ اللّه تبارك و تعالی انزل هذا القرآن بهذه الحروف الّتي يتداولها جميع العرب، ثمّ قال:

‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلی‌ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ...

[توحيد الصدوق، ص ١٦٢، ط سنة ١٣٧٥ ه. ق ..]

٥.

‏و هناك ملاحظة تؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير معنی الحروف المقطعة، و هي أن هذه الحروف في السور الأربع و العشرين التي ذكرناها، يتلوها مباشرة ذكر لعظمة القرآن، و هذا يدل علی الارتباط بين الحروف المقطعة و عظمة القرآن. و علی سبيل المثال نذكر الآيات التالية:

‏١- الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ

[هود، ١- ٢.]

٦.

‏٢- طس، تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ‌

[النمل، ١- ٢.]

٧.

‏٣- الم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ‌

[لقمان، ١- ٢.]

٨.

‏٤- المص، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ‌

[الأعراف، ١- ٢.]

٩.

الهوامش 

‏١ ( ١، ٢)- نور الثقلين، ج ١، ص ٢٦. و مجمع البيان، ج ١، ص ٣٢.

‏٢ ( ١، ٢)- نور الثقلين، ج ١، ص ٢٦. و مجمع البيان، ج ١، ص ٣٢.

‏٣ الإسراء، ٨٨.

‏٤ تفسير البرهان، ج ١، ص ٥٤.

‏٥ توحيد الصدوق، ص ١٦٢، ط سنة ١٣٧٥ ه. ق ..

‏٦ هود، ١- ٢.

‏٧ النمل، ١- ٢.

‏٨ لقمان، ١- ٢.

‏٩ الأعراف، ١- ٢.