المؤمن والإيمان بالغيب: أهلاً بك في عالم يتجاوز المحسوس!

«الغيب و الشهود» نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، و عالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن و خفي.

‏و قيل عن عالم ما وراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسّنا. التقابل بين العالمين مذكور في آيات عديدة كقوله تعالی: عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ‌

[الحشر، ٢٢.]

‏الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاولی بين المؤمنين بالأديان السماوية، و بين منكري الخالق و الوحي و القيامة. و من هنا كان الإيمان بالغيب أول سمة ذكرت للمتّقين.

‏المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي، و اجتازوا جدرانه، إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه. بينما يصرّ معارضوهم علی جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات، محصورا في موقعه من العالم المادي. و هذه الرؤية المادية تقمّصت في عصرنا صفات العلمية و التقدمية و التطورية! لو قارنّا بين فهم الفريقين و رؤيتهما، لعرفنا أن: «المؤمنين بالغيب» يعتقدون أن عالم الوجود أكبر و أوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، و خالق عالم الوجود غير متناه في العلم و القدرة و الإدراك، و أنّه أزليّ و أبديّ. و أنّه صمّم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس. و يعتقدون أنّ الإنسان- بما يحمله من روح إنسانية- يسمو بكثير علی سائر الحيوانات. و أنّ الموت ليس بمعنی العدم و الفناء، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان، و نافذة تطل علی عالم أوسع و أكبر.

‏بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه و نراه. و أن العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. و الإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشی بدنه، و تندمج أجزاؤه مرّة اخری بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان، و ليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه و بين سائر الحيوانات‌

[نقلا عن:« محمّد و القرآن».]

٢! ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون و الحياة! و ما أعظم الفرق بين ما تفرزه كل رؤية، من حياة اجتماعية و سلوك و نظام! الرؤية الاولی تربّي صاحبها علی أن ينشد الحق و العدل و الخير و مساعدة الآخرين. و الثانية، لا تقدّم لصاحبها أي مبرّر علی ممارسة الأمور اللهم إلّا ما عاد عليه بالفائدة في حياته المادية. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم و الإخاء و الطّهر و التعاون، بينما تهيمن علی حياة الماديين روح الاستعمار و الاستغلال و سفك الدماء و النهب و السلب. و لهذا السبب نری القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوی.

‏يدور البحث في كتب التّفسير عن المقصود بالغيب، أهو إشارة إلی ذات الباري تعالی، أم أنه يشمل- أيضا- الوحي و القيامة و عالم الملائكة و كل ما هو وراء الحس؟ و نحن نعتقد أن الآية أرادت المعنی الشامل لكلمة الغيب، لأن الإيمان بعالم ما وراء الحس- كما ذكرنا- أول نقطة افتراق المؤمنين عن‌ الكافرين، إضافة إلی ذلك، تعبير الآية مطلق ليس فيه قيد يحدده بمعنی خاص.

‏بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السّلام تفسّر الغيب في الآية، بالمهدي الموعود المنتظر (سلام اللّه عليه) و الذي نعتقد بحياته و خفائه عن الأنظار، و هذا لا ينافي ما ذكرناه بشأن معنی الغيب، لأن الروايات الواردة في تفسير الآيات تبين غالبا مصاديق خاصة للآيات، دون أن تحدد الآيات بهذه المصاديق الخاصة، و سنری في صفحات هذا التّفسير أمثلة كثيرة لذلك. و الروايات المذكورة بشأن تفسير معنی الغيب، تستهدف في الواقع توسيع نطاق معنی الإيمان بالغيب، ليشمل حتی الإيمان بالمهدي المنتظر عليه السّلام و يمكننا القول أنّ الغيب له معنی واسع قد نجد له بمرور الزمن مصاديق جديدة.

*مقتطف من تفسير الأمثل ج1