تفسير الفاتحة: البيان التفصيلي للسورة.. «آية الله السيد محمد باقر السيستاني»

وتفصيل الكلام في هذه السورة يقع في أبحاثٍ تدور حول كل واحدة من آياتها السبع:

الآية الأولى: هي البسملة.

وفيها خمسة أبحاث حول المعنى التركيبي، والكلمات الأربع (الاسم، الله، الرحمن، الرحيم)، ولم نخصّ الباء ببحث إيجازاً، وأشرنا إلى القول فيها في البحث حول المعنى التركيبي.

البحث الأوّل: في المعنى التركيبي للبسملة.

وفيه إيضاحات عدة معنوية ولفظية وهي كما يلي:

1 ــــ في توضيح مضمون البسملة

الإيضاح الأوّل: لا شكّ أنّ مضمون البسملة إنّما جاء كأدب مناسب لأوّل الرسالة الإلهية، وهذا أدب معهود في الرسائل الشخصية من قبل، كما جاء في القرآن الكريم عن سليمان (عليه السلام) أنّه كتب إلى ملكة سبأ: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾([1])، كما أنّ أدب الابتداء باسم الإله كان معهوداً في الجاهلية، حيث كانوا يقولون في بداية الرسائل على ما حُكي([2]): (بسمك اللهم)، وكلمة (اللهم) ذكرٌ لله سبحانه، لأنّ كلمة (اللهم) تتألف من كلمة (الله) ومن الميم المشدّدة، وهذه الميم على أقرب الأقوال تفيد معنى النداء، وهي في ذلك تناسب بعض اللغات المشتركة مع العربية في أصولها من كون حرف النداء ميماً يلحق بآخر الكلمة، فلعل العربية أخذت هذه الكلمة فيها بالاختلاط.

وربما حُكي أنّ بعض المشركين كانوا يقولون (بسم اللات والعزى) أو يسمّون باسم سائر أصنامهم([3]).

وبناء على ذلك فقد جاءت البسملة في بداية السور القرآنية من باب حسن ابتداء الرسالة بالبسملة كأدب.

وهنا نلفت النظر إلى أمور:

1-إنّا نعني بالرسالة الرسالة التي تتمثل في كل سورة في حدِّ نفسها، وليست الرسالة التي تتمثل في القرآن الكريم مجموعاً، إذ ليست سورة الحمدُ هي أوّل القرآن الكريم نزولاً وإن كانت قد جُعلت أوّله في المصحف من دون أخواتها القصار التي جُعلت في آخر المصحف تمييزاً للفاتحة لأهميتها ووجوب تعلمها بخصوصها لكونها جزءاً ثابتاً من الصلاة، فالقرآن الكريم بمثابة رسائل نصية متوالية من الله سبحانه، تُمثل كل سورة منها رسالة مستقلة.

بيان ذلك: أنّ القرآن أُنزِل على أنه رسالة نصية من الله سبحانه إلى الخلق كما هو ظاهر، ولأجل ذلك سُمّي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالرسول كما سُمِّي سائر الأنبياء المبعوثين إلى أقوامهم بالرسل في مئات الآيات القرآنية، وعُبّر عما بُعثوا به بالرسالة، كقوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي﴾([4])، ﴿اللَّـهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾([5])، ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي﴾([6])، ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ﴾([7])، ﴿لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ﴾([8])، ﴿إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِسَالَاتِهِ﴾([9])، ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾([10]).

ثمّ كل سورة قرآنية هي رسالة مستقلة من الله تعالى، لأنّ السورة هي كلام تام، لها بداية مقصودة ونهاية مقصودة وانفصال مقصود واستقلال منظور عن سائر السور الأخرى، فكانت بداية السورة بالبسملة تطبيقاً لهذا الأدب وهو ابتداء الرسالة بأدب البسملة.

2-إنّا نعني بالسورة التي روعي الابتداء فيها بالبسملة في القرآن الكريم هي السورة وفق إطلاق المصحف، فهي التي تبدأ بالبسملة، فلكلمة (السورة) إطلاق آخر وهي كل فقرة مقصودة لذاتها سواء كانت سورة مستقلة أم جزءَ سورةٍ، وبناء على ذلك قد تعتبر السورة الواحدة من السور الطوال التي نزلت متفرقة ولغايات متعددة مثل سورة البقرة سوراً متعددة باعتبار آخر، وربما قيل إنّ هذا المعنى هو المراد بالسورة في الإطلاق القرآني كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾([11])، فهي تعني مجموعة آيات تتضمن ذكر القتال وإن لم تكن لوحدها سورة في المصحف.

لكن إطلاق السورة على جزء من السور الطويلة كالبقرة لا ينافي صحة التعبير عن جميع تلك السورة الطويلة التي هي من هذا القبيل أيضاً بالسورة الواحدة بالنظر إلى التنظيم الكلي النهائي المقصود في الكلام، حيث كان من المقصود في السور الطوال التي نزلت متفرقة ضمّ بعضها إلى بعض في سياق واحد ومتصل ومستقل عما سواه، فصح أن يطلق عليها أنها سورة واحدة بهذا الاعتبار.

إذاً للسورة إطلاقان:

أ-إطلاق قرآني واسع([12]) ـــ يبدو أنه كان هو الأصل ـــ وهو إطلاقها على كل فقرة نزلت مستقلةً لغاية منظورة بها.

ب-وإطلاق أخص على كل مجموعة من الكلام اعتبرت في النهاية كُلاً واحداً، وهذا هو الإطلاق الذي شاع وغلب لاحقاً، وعليه جرى تصنيف السور في المصحف.

 ووفق هذا الإطلاق تنقسم السور القرآنية إلى قسمين:

منها: سور ذات وحدة حقيقية واضحة، منها سورٌ قصارٌ مثل سورة الحمد، ومنها سورٌ طوالٌ مثل سورة يوسف (عليه السلام).

ومنها: ذات وحدة اعتبارية، ونعني أنّها قد ضُمّنت فقرات نزلت متفرقة لأغراض مختلفة مثل سورة البقرة وآل عمران.

والبسملة أدب للسورة بهذا الإطلاق الثاني الذي جرى عليه المصحف، وليس بالإطلاق القرآني الأوّل الذي تكون به السورة الطويلة كالبقرة عدة سور، ولذلك فإنّ ابتداء فقرة قرآنية ما بالبسملة وابتداء الفقرة التي تليها ايضا بالبسملة دليل على أنّ تلك الفقرة سورة كاملة مستقلة بهذا المعنى.

3-إنّ التسمية أو البسملة إنما هي أدب للرسالة الكتبية وما بمثابتها، وليست لكل رسالة ولو كانت شفوية.

بيان ذلك: أنّ الرسالة قد تكون شفوية بالمعنى أو بالنص، وقد تكون كتبية، وقد تكون شفوية بمثابة الكتبية.

والرسالة الشفوية المحضة قد لا تقتضي أدباً إضافياً، كما نجد ذلك في العرف، فلو بلّغ أحد كلاماً لشخص آخر من خلال رسولٍ فإنه لا يضمن كلامه التسمية أو البسملة، وإنما قد يُضمنه السلام، فيقول الرسول (سلّم عليك فلان ويقول كذا)، وإنّما ذلك شأن الرسالة الكتبية وما بمثابتها.

والمقصود بما بمثابة الرسالة الكتبية أن تكون الرسالة شفوية، ولكن تكون نصيّة ويكون المراد حفظها وكتابتها وبقاؤها لاطلاع الآخرين ـــ من نفس الجيل وربما الأجيال اللاحقة ـــ على نصها.

والقرآن الكريم هو بهذه المثابة، فهو وإن كان كلاماً شفوياً ألقاه جبرائيل (عليه السلام) على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليبلّغه للناس ولم ينزل على شكل قراطيس وألواح كألواح موسى (عليه السلام) من السماء، ولكن اعتُبر وفق الآيات القرآنية نفسها منذ نزوله كتاباً وصحيفة، بمعنى أنّ من شأنه أن يُكتب ويُحرر ويحتفظ به كما هو الحال في الكتب الأخرى، كما بيّنا ذلك في مباحث النبوة في الدين([13]).

ولذلك اتخذ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ البداية كاتباً أو كتبةً مضافاً إلى عنايته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتحفيظ القرآن للمسلمين ليبقى، وإنشاء الكلام وإلقاؤه شفوياً لكي يُكتب ويبقى ظاهرة معهودة، فالقصائد كثيراً ما تُلقى لتُكتب وتَبقى، وقد جاء أنّ العرب كتبوا المعلقات السبع لشعراء الجاهلية وعلقوها بالكعبة.

ولا تختص هذه الحالة في الرسالات بالقرآن الكريم، فالرسائل الإلهية كانت تنزل على أنّها كتب وصحائف منذ عرف الإنسان الكتابة والصحيفة، كما قال سبحانه: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾([14])، وذلك لكي تبقى هذه الرسالات محفوظة على وجه موثوق لسائر الناس والأجيال وتتم بها الحجة عليهم.

إذاً لاحظنا بهذه الجهة أنّ البسملة أدبٌ، وابتداء الفاتحة وسائر السور القرآنية بالبسملة يندرج ضمن أدب ابتداء الرسالة بالبسملة والتسمية.

هذا بيان حقيقة البسملة ومحتواها، فحقيقتها هي نوع من الأدب ملائم لابتداء الرسائل.

الهوامش:

([1]) سورة النمل: آية 30ــــ31.

وربما يقال: في حديث رسالة سليمان في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، أنّه لم يقع الابتداء بالبسملة لتقدم قوله: (إنه من سليمان) على البسملة، وإذا كان الابتداء فيها قد وقع بالبسملة اقتضى تأخير هذه الجملة عن البسملة كما يرد في رسائل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورسائل أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد البسملة (من محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الملك الفلاني)، أو (مِن عبد الله علي أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان).

والجواب: إنه لم يتبين من سياق الآية أنّ قوله (إنه من سليمان) كان جزءاً مما كتبه سليمان، بل قد يكون إيضاحاً من ملكة سبأ، لأنّ حكاية مضمون الرسالة إنما جاء نقلاً عنها حيث إنها:﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (سورة النمل: آية 29 ـــ 30)، فهي إذاً أخبرتهم: (أنّ هذا الكتاب الكريم من سليمان..)، ولا دلالة لهذا العرض على أنّ جملة (إنه من سليمان) كانت مكتوبة في الرسالة، وإذا فُرِض أنّ سليمان (عليه السلام) كان قد كتب (من سليمان) فمن الجائز أن يكون مكتوباً على الظرف ـــ إن كان ـــ أو على أعلى الورقة قبل ابتداء الرسالة كما كان من المتعارف في الزمان السابق أن يكتبوا على غلاف الرسالة أو ظهرها: (ليصل إلى محضر العالم الفلاني) مثلاً، ولا تشتمل بداية الرسالة حينئذٍ على ذكر المرسل إليه، كما أنّ من الجائز أن يكون سليمان قد كتب في أوّل الرسالة (من سليمان إلى ملكة سبأ) أو كتب ذلك في آخر الرسالة، إلا أنّ ملكة سبأ وجدت عند عرضها للرسالة أنّ من المناسب أن يذكر أوّلاً مرسل الرسالة ثم مضمونها، ولما ذكرت المرسل أوّلاً لم تكرر ذكره الوارد في مضمون الرسالة.

([2]) لاحظ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: (6/86 ـــ 87): (قال (الواحدي) في أسباب نزول الآية: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُل هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}: قال أهل التفسير: نزلت في صلح الحديبية، حين أرادوا كتاب الصلح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم). فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن، إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب. اكتب باسمك اللهم. وهكذا كانت الجاهلية يكتبون، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية).

وأيضاً في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 6/113(وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين الوثنيين كانوا يفتتحون كتبهم بجملة (باسمك اللهم)..).

([3]) لاحظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 6/113، قال: (كانت عوائدهم القديمة افتتاح رسائلهم بأسماء آلهتهم كاللات والعزى).

([4]) سورة الأعراف: آية 93.

([5]) سورة الأنعام: آية 124.

([6]) سورة الأعراف: آية 62، وآية 68.

([7]) سورة الأحزاب: آية 39.

([8]) سورة الجن: آية 28.

([9]) سورة الجن: آية 23.

([10]) سورة الأعراف: آية 144.

([11]) سورة محمد (صلى الله عليه وآله): آية 20.

([12]) التعبير عنه بـ(واسع) إنما هو لأنه أوسع ـــ من الإطلاق الثاني ـــ، لأنّه يستعمل في الجزء من السور الطوال الذي نزل مستقلاً.

([13]) منهج التثبت في الدين: 5/16 وما بعد القسم الثالث (رسالة الله إلى الإنسان).

([14]) سورة الأعلى: آية 19.