بين النجف وكربلاء: ما صحة قتل الإمام المهدي لـ ’فقهاء الشيعة’؟!

هل حقّاً عندما يخرجُ الإمامُ يقتلُ ١٦ ألفَ فقيهٍ بينَ النجفِ وكربلاء؟

لمعرفةِ حقيقةِ هذا الأمرِ لا بدَّ مِن عرضِ الرواياتِ الواردة، ثمَّ ملاحظتِها ودراستِها، ومعرفةِ مدلولِها، والتأمّلِ في سياقِها، فنقول: 

الروايةُ الأولى: روى ابنُ جريرٍ الطبري الصّغيرُ بسندِه عَن أبي الجارود، عن أبي جعفرٍ (عليهِ السّلام) قال: سألتُه متى يقومُ قائمُكم؟ 

قالَ: يا أبا الجارود، لا تدركونَ. فقلتُ: أهلُ زمانه. 

فقالَ: ولن تدركَ أهلَ زمانِه، يقومُ قائماً بالحقِّ بعدَ إياسٍ منَ الشيعة، يدعو الناسَ ثلاثاً فلا يجيبُه أحد، فإذا كانَ اليومُ الرابعُ تعلّقَ بأستارِ الكعبة، فقالَ: يا ربِّ، انصُرني، ودعوتُه لا تسقط، فيقولُ (تباركَ وتعالى) للملائكةِ الذينَ نصروا رسولَ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) يومَ بدر، ولم يحطّوا سروجَهم، ولم يضعوا أسلحتَهم فيبايعونَه، ثمَّ يبايعُه منَ الناسِ ثلاثمائةٌ وثلاثةَ عشرَ رجلاً، يسيرُ إلى المدينةِ، فيسيرُ الناسُ حتّى يرضى اللهُ (عزَّ وجل)، فيقتلُ ألفاً وخمسمائة قرشيّاً ليسَ فيهم إلّا فرخُ زنيةٍ. 

ثمَّ يدخلُ المسجدَ فينقضُ الحائطَ حتّى يضعَه إلى الأرض، ثمَّ يُخرِجُ الأزرقَ وزريقَ غضّينِ طريّين، يكلمهُما فيجيبانِه، فيرتابُ عندَ ذلكَ المُبطلون، فيقولونَ: يُكلّمُ الموتى؟! فيقتلُ منهم خمسمائةَ مرتابٍ في جوفِ المسجدِ، ثمَّ يحرقُهما بالحطبِ الذي جمعاهُ ليُحرقا به عليّاً وفاطمة والحسنَ والحُسين (عليهم السلام)، وذلكَ الحطبُ عندَنا نتوارثهُ، ويهدمُ قصرَ المدينة. 

ويسيرُ إلى الكوفةِ، فيُخرجُ منها ستّةَ عشرَ ألفاً منَ البتريّة، شاكّينَ في السّلاحِ، قرّاءُ القرآن، فقهاءُ في الدّين، قد قرّحوا جباهَهم، وشمّروا ثيابَهم، وعمّهم النفاق، وكلّهم يقولونَ: يا بنَ فاطمة، ارجِع لا حاجةَ لنا فيك. فيضعُ السّيفَ فيهم على ظهرِ النجفِ عشيّةَ الاثنينِ منَ العصرِ إلى العشاء، فيقتلهم أسرعَ مِن جزرٍ جزور، فلا يفوتُ منهم رجل، ولا يصابُ مِن أصحابه أحد، دماؤهم قربانٌ إلى الله. ثمَّ يدخلُ الكوفةَ فيقتلُ مقاتليها حتّى يرضى اللهُ (عزَّ وجل). (دلائلُ الإمامةِ للطبري الصّغير، ص455). 

فنلاحظُ في هذهِ الرّواية، أنّهُ بعدَ حرقِه للصّنمينِ في المدينة، يأتي إلى الكوفة، فتقومُ البتريّةُ في وجهِ الإمام (ع).  

لا بدّ مِن ملاحظةِ هذا الأمر، لفهمِ مَن هُم هؤلاء. 

الرّوايةُ الثانية: روى المُفيد: وروى أبو الجارودِ، عن أبي جعفرٍ عليهِ السلام في حديثٍ طويل أنّهُ إذا قامَ القائمُ عليهِ السّلام سارَ إلى الكوفة، فيخرجُ منها بضعةُ عشرَ ألفَ نفسٍ يُدعونَ البتريّة عليهم السّلاح، فيقولونَ له: ارجِع مِن حيثُ جِئت فلا حاجةَ لنا في بني فاطمة، فيضعُ فيهم السّيف حتّى يأتي على آخرِهم، ويدخلُ الكوفةَ فيقتلُ بها كلَّ منافقٍ مُرتاب، ويهدمُ قصورَها، ويقتلُ مقاتلتَها حتّى يرضى اللهُ عزَّ وعلا. (الإرشادُ للمفيد: 2 / 384). 

الرّواية الثالثة: روى السيّد ُبهاءُ الدينِ النّجفي بإسنادِه إلى أبي بصيرٍ، عن أبي جعفرٍ (عليهِ السّلام) أنّهُ قال: إذا ظهرَ القائمُ على نجفِ الكوفة، خرجَ إليهِ قرّاءُ أهلِ الكوفة وقد علّقوا المصاحفَ في أعناقِهم وأطرافِ رماحِهم ... فيقولونَ: لا حاجةَ لنا فيكَ يا ابنَ فاطمة ! قد جرّبناكم فما وجدنا عندَكم خيراً، ارجعوا مِن حيثُ جِئتم. فيقتلهم حتّى لا يُبقي منهم مخبراً. (منتخبُ الأنوار المُضيئة، ص340). 

الرّواية الرّابعة: وبإسنادِه رفعَه إلى أبي عبدِ اللهِ عليهِ السّلام قالَ : يقدمُ القائمُ عليه السّلام حتّى يأتيَ النجفَ فيخرجُ إليه منَ الكوفةِ جيشُ السّفياني وأصحابُه، والناسُ معه، وذلكَ يوم الأربعاءِ فيدعوهُم ويناشدُهم حقّه و يخبرُهم أنّه مظلومٌ مقهورٌ ويقول: مَن حاجّني في اللهِ فأنا أولى الناسِ بالله - إلى آخِر ما تقدّمَ مِن هذه - فيقولونَ: ارجِع مِن حيثُ جِئت لا حاجةَ لنا فيك، قد خبرناكم واختبرناكم فيتفرّقونَ مِن غيرِ قتال. 

فإذا كانَ يومُ الجُمعة يعاودُ فيجئُ سهمٌ فيصيبُ رجلاً منَ المُسلمينَ فيقتله، فيُقالُ إنَّ فلاناً قد قُتلَ فعندَ ذلكَ ينشرُ رايةَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله فإذا نشرَها انحطّت عليهِ ملائكةُ بدر فإذا زالتِ الشمسُ هبّت الرّيحُ له فيحملُ عليهم هوَ وأصحابُه فيمنحُهم اللهُ أكتافَهم ويولّون، فيقتلهم حتّى يُدخلَهم أبياتَ الكوفة، ويُنادي مُناديه ألا لا تتبعوا مولّياً ولا تجهزوا على جريح ويسيرُ بهم كما سارَ عليٌّ عليه السّلام يومَ البصرة. (بحارُ الأنوار: 52 / 387). 

والمُلاحظُ في هذهِ الرّواية، أنّ هؤلاءِ الذينَ يقومونَ لمُحاربةِ الإمامِ (ع) يتّصفونَ بصفاتٍ مُعيّنة: 

الصفةُ الأولى: أنّهم منَ البتريّة: (فيخرجُ منها ستّةَ عشرَ ألفاً منَ البتريّة) و (فيخرجُ منها بضعةُ عشرَ ألفَ نفسٍ يُدعونَ البتريّة). 

مَن هُم البتريّة؟

البتريّةُ مِن فرقِ الزيديّة، تخلطُ بينَ ولايةِ أهلِ البيتِ (ع) وولايةِ الشيخين، قالَ الكشّي (ت 460 هـ): والبتريّةُ هُم أصحابُ كثيرٍ النوا، والحسنِ بنِ صالحٍ بنِ حي، وسالمٍ بنِ أبي حفصة، والحكمِ بنِ عيينة، وسلمةَ بنِ كهيل، وأبو المقدامِ ثابتٍ الحداد.

وهُم الذينَ دعوا إلى ولايةِ عليٍّ عليهِ السّلام، ثمَّ خلطوها بولايةِ أبي بكرٍ وعُمر، ويثبتونَ لهُما إمامتَهما، وينتقصونَ عثمانَ وطلحةَ والزّبير، ويرونَ الخروجَ معَ بطونِ ولدِ عليٍّ ابنِ أبي طالب، يذهبونَ في ذلكَ إلى الأمرِ بالمعروفِ والنّهي عن المُنكر، ويثبتونَ لكلِّ مَن خرجَ مِن ولدِ عليٍّ عليه السّلام عندَ خروجِه الإمامة. (رجالُ الكشي: 2 / 499). 

تأسّست في زمانِ الإمامِ الباقر (ع)، وأوّلُ مَن سمّاهم بهذا الإسمِ زيدٌ الشهيدُ بنُ الإمامِ زينِ العابدين (ع). 

روى الكشيُّ بسندِه عَن سدير، قالَ: دخلتُ على أبي جعفرٍ عليهِ السّلام ومعي سلمةُ بنُ كهيل، وأبو المقدامِ ثابتٌ الحدّاد، وسالمٌ بنُ أبي حفصة، وكثير النوّاء، وجماعةٌ معهم، وعندَ أبي جعفرٍ عليه السّلام أخوهُ زيدٌ بنُ عليٍّ عليهم السّلام فقالوا لأبي جعفرٍ عليه السّلام: نتولّى عليّاً وحسناً وحُسيناً ونتبرّأ مِن أعدائِهم! قالَ (ع): نعم.  

قالوا: نتولّى أبا بكرٍ وعُمر ونتبرّأ مِن أعدائِهم!  

قال: فالتفتَ إليهم زيدٌ بنُ عليٍّ قالَ لهم: أتتبرّؤنَ مِن فاطمة بترتُم أمرنا بترَكم الله، فيومئذٍ سُمّوا البتريّة. (رجالُ الكشي:2 / 505). 

قالَ الشيخُ السّند: البتريّةُ ظاهرةٌ تلفيقيّةٌ مزجيّة مخلّطة، لأنّهم يخلطونَ مع ولايةِ أهلِ البيت (ع) ولايةَ الشيخين. (فقهُ علاماتِ الظهور، ص207). 

الصفةُ الثانية: أنّهم فصيلٌ مُسلّح، كما في الروايةِ الأولى مِن قوله (ع): (شاكّينَ في السّلاح) وهو بمعنى أنّهم أصحابُ شوكةٍ وحدّةٍ في السّلاح، واللابسونَ للأسلحةِ التامّة. (لسانُ العرب: 10 / 452) وأيضاً قوله (ع) في الخبرِ الثاني: (عليهم السّلاح) يعني سلاحُهم بأيديهم، وفي الخبرِ الثالث: (وقد علّقوا المصاحفَ في أعناقِهم وأطرافِ رماحِهم) والرمحُ سلاحٌ، والخبرُ الرّابع نصّ أنّهم من الفصائلِ المُسلّحةِ المُرتبطةِ بالسّفياني. 

الصفة الثالثة: أنّهم مُتفقّهونَ في الدين، قرّاءُ للقرآن، مِن أهلِ العبادة. 

الصفةُ الرّابعة: أنّهم مُنافقون.  

وبناءً على ذلكَ نقول:  

أوّلاً: إنّ المرادَ منَ البتريّةِ إمّا إشارةٌ إلى تلكَ الفرقةِ مِن فرقِ الزيديّة، وإمّا إشارةٌ إلى المنهج. 

فإن كانَ المرادُ منَ البتريّة هو الفرقة، فهذا يعني أنّ الزيديّة سيكونُ لهم حضورٌ في أحداثِ العراقِ عندَ ظهورِ الإمام، ولعلَّ انتقالَهم إلى العراقِ سيكونُ مِن خلالِ جيشِ السيّدِ اليماني، القادمِ منَ اليمن، إذ قسمٌ مِن جيشِه لن يكونَ على مذهبِ الإماميّةِ الإثني عشريّة، ولمّا يظهرُ لهم أنّ الإمامَ (ع) لا يتولى الشيخين، سيقومونَ في وجهِه. 

وإن كانَ المرادُ منَ البتريّةِ هوَ المنهج، كما لعلّه الأقرب، فهيَ تلك الظاهرةُ التي تأخذُ في كلِّ عصرٍ لوناً وشكلاً وتحتَ مسمّياتٍ مُختلفة وتحتَ أطرِ الوحدةِ والتقريبِ بينَ المذاهب، أو تحتَ أطرٍ وذرائعَ أخرى. (فقهُ علاماتِ الظهور، ص209). 

حيثُ إنّ غرضَ البتريّةِ منَ التلفيقِ بينَ منهاجِ أهلِ البيتِ (ع) ومنهاجِ ولايةِ السّقيفةِ، الغرضُ هو الحصوُل على المقبوليّةِ الجماهيريّةِ عندَ السنّةِ والشيعة. (المصدرُ السابق، ص208). 

ويحاولونَ تغييبَ البراءةِ عن الذهنيّةِ الشيعيّة، وتربيةَ الأبناءِ على الولايةِ فقط، والإكتفاءِ بها، وكبتِ الأصواتِ التي تدعو إلى إظهارِ الجانبين معاً (الولايةُ والبراءة).  

ثانياً: لا ننسى أنّ هؤلاءِ سيقومونَ في وجهِ الإمامِ (ع) لأنّهُ أخرجَ الصّنمينِ من قبريهما وحاكمَهما وأحرقَهما، وهذا الأمرُ يتعارضُ مع منهجِ البتريةِ الذين يبترونَ البراءةَ مِن أمرِ آلِ محمّد (عليهم السّلام) ويكتفونَ بالولاية فقط. 

وقولهم: ارجِع يا ابنَ فاطمة، إشارةٌ إلى أنّ الإمامَ سيتعاملُ مع أعداءِ الله بمنهجِ فاطمة الزّهراء (ع) في البراءةِ مِن أعداءِ آلِ محمّد، وهذا يتعارضُ مع منهجِ البتريّةِ المُترضّينَ على السقيفة، المؤدّي إلى البراءةِ مِن فاطمةَ الزّهراء (ع)، كما نبّهَ عليهِ زيدٌ الشهيد (رض) في الرّوايةِ المُتقدّمةِ آنفاً. 

ولا يذهبُ عليكَ أنّ الصّيحاتِ التي سمعناها في السّنواتِ الأخيرة، الداعيةِ إلى التنازلِ عن مظلوميّةِ الزّهراء (ع)، لونٌ مِن ألوانِ البتريّة، فإنّهم يحاولونَ الصلحَ بينَ السّقيفةِ وأهلِ البيت (ع) بإنكارِ مظلوميّتِها. 

قالَ الشيخُ الكوراني: أقولُ : يبدو أنَّ أكثرَ هؤلاءِ البتريّة أصلهم شيعة، وأنّهم يخطِّئونَ الإمامَ «عليه السّلام» لأنه أعلنَ موقفَه مِن أبي بكرٍ وعُمر، فذلكَ برأيهم يُسبّبُ للإمامِ «عليهِ السّلام» خسارةَ شعبيّتِه في المخُالفين. (المُعجمُ الموضوعي لأحاديثِ الإمامِ المهدي، ص570). 

ثالثاً: أنّ هؤلاءِ البتريّةَ فصيلٌ مُسلّح، مجهّزونَ بالسّلاحِ الكامل، ولهم سطوةٌ وبأسٌ شديدٌ في العراق، بحيثُ يقولونَ للإمام (ع): ارجِع يا ابنَ فاطمة لا حاجةَ لنا بك. 

رابعاً: أنّهم فقهاءُ في الدّين: فهذهِ الفقرةُ لها احتمالاتٌ عديدة: 

الاحتمالُ الأوّل: أنّ جميعَهم ( 16 ألف ) فقهاءٌ في الدّين، بمعنى: أنهم مجتهدونَ ومِن أهلِ استنباطِ الأحكامِ الشرعيّة، وخرّيجوا الحوزةِ العلمية!  

وهذا الاحتمالُ غيرُ صحيح، إذ الحوزةُ العلميّة في كلِّ تاريخِها لم تُنتِج عُشرَ هذا العددِ من المُجتهدينَ والفقهاءِ في عصرٍ واحد، بل نستبعدُ أن يكونَ قد وصلَ عددُ طلبةِ الحوزةِ العلميّة النجفيّة (بأساتذتِها وطلّابِها وفقهائِها) في هذا الزمانِ إلى 16 ألف.

مُضافاً إلى أنّ الحوزةَ العلميّةَ في تاريخِها لم تمتلِك فصائلَ مُسلّحة، ولم تدعُ إلى رفعِ السّلاحِ إلّا في وجهِ الاستعمار، والمُعتدينَ كالدّواعشِ والوهابيّة، دفاعاً عن النفسِ والوطن. 

بل إنّ المرجعيّةَ الدينيّة تدعو إلى حصرِ السّلاحِ بيدِ الدولة، كما هو معروفٌ عنها عندَ الجميع. 

وكانَت الحوزةُ ولا زالَت صمّامَ أمانٍ منَ الانحرافِ والضلال، وستبقى كذلكَ إن شاءَ اللهُ تعالى. 

الاحتمالُ الثاني: أن يكونَ المُرادُ منَ الفقهاءِ الـ ( 16 ألف ) في هذهِ الرّوايةِ بمعنى مُتفقّهونَ في دينِ الله، والمُتفقّهُ يعني الذي فهمَ أحكامَه الدينيّةَ واطّلعَ عليها وعرفَها ليعملَ بها، ولا يُشترطُ أن يكونَ المُتفقّهُ مُجتهداً قادراً على استنباطِ الأحكامِ الشرعية، وعليه: فقد يكونُ مُتفقّهاً، وفي نفسِ الوقتِ مُقلّداً لأحدِ المراجع، ولا يشترطُ أن يكونَ مرجعاً ولا مُجتهداً، ولا طالبَ حوزةٍ ولا خطيباً ولا أستاذاً في الحوزة. وإنّما مُتفقّهٌ من عامّةِ النّاس. 

الاحتمالُ الثالث: أن يكونَ المرادُ أنّ القياداتِ التي تنظّرُ لهم الضلالَ والانحراف، وبترَ أمرِ آلِ محمّد، هم منَ الفقهاء، بمعنى: أنّ قياداتِهم يتشبّثونَ ببعضِ المُبرّراتِ العلميّةِ الفقهيّة (فقهاءٌ في الدين)، كما أنّ مذاهبَ الضلالِ دائماً تُلبسُ ادّعاءاتِها لباسَ العلم، للإغراءِ بالسذّجِ والعوامِّ والبُسطاء. 

والفقهاءُ على قسمين: فقهاءُ على منهاجِ آلِ محمّد: صائِناً لنفسِه حافظاً لدينه مُخالِفاً لهواه مُطيعاً لأمرِ مولاه، وهؤلاءِ هُم الذينَ ينبغي الرّجوعُ إليهم. 

وفقهاءُ خرجوا عن منهاجِ آلِ محمّد: وهم اللاهثونَ وراءَ المالِ والشهرةِ والشهواتِ وهوى النفس. 

رويَ عن الإمامِ العسكري (ع): وكذلكَ عوامُّ أمّتنا إذا عرفوا من فقهائِهم الفسقَ الظاهر، والعصبيّة الشديدةَ والتكالبَ على حُطامِ الدّنيا وحرامِها، وإهلاكَ مَن يتعصّبونَ عليه إن كانَ لإصلاحِ أمرِه مُستحقّاً، وبالترفّقِ بالبرِّ والإحسانِ على مَن تعصّبوا له، وإن كانَ للإذلالِ والإهانةِ مُستحقّاً. 

فمَن قلّدَ مِن عوامّنا مثلَ هؤلاءِ الفقهاءِ فهُم مثلُ اليهودِ الذينَ ذمّهم الله تعالى بالتقليدِ لفسقةِ فُقهائِهم. 

فأمّا مَن كانَ منَ الفقهاءِ صائناً لنفسِه، حافظاً لدينه، مُخالفاً لهواه، مُطيعاً لأمرِ مولاه فللعوامِّ أن يقلّدوه. 

وذلكَ لا يكونُ إلّا في بعضِ فقهاءِ الشيعةِ لا جميعَهم، فإنَّ مَن ركبَ منَ القبائحِ والفواحشِ مراكبَ فسقةِ فقهاءِ العامّةِ فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً، ولا كرامة لهم، وإنّما كثرَ التخليطُ فيما يتحمّلُ عنّا أهلَ البيتِ لذلك، لأنَّ الفسقةَ يتحمّلونَ عنّا، فهُم يُحرّفونَه بأسرِه لجهلِهم، ويضعونَ الأشياءَ على غيرِ مواضعِها و وجوهِها لقلّةِ معرفتِهم، وآخرينَ يتعمّدونَ الكذبَ علينا ليجرّوا مِن عرضِ الدّنيا ما هوَ زادُهم إلى نارِ جهنّم . 

ومنهمُ قومٌ نصّابٌ لا يقدرونَ على القدحِ فينا، يتعلّمونَ بعضَ علومِنا الصّحيحةِ فيتوجّهونَ به عندَ شيعتِنا، وينتقصونَ بنا عندَ نُصّابِنا ثمَّ يضيفونَ إليه أضعافَه وأضعافَ أضعافِه من الأكاذيبِ علينا التي نحنُ براءٌ منها ، فيتقبّلهُ المُسلمونَ المُستسلمونَ مِن شيعتِنا على أنّهُ مِن علومِنا فضلّوا وأضلّوهم. 

وهُم أضرُّ على ضعفاءِ شيعتِنا مِن جيشِ يزيد على الحُسينِ بنِ عليّ عليهما السّلام وأصحابِه فإنّهم يسلبونَهم الأرواحَ والأموال ، وللمسلوبينَ عندَ اللهِ أفضلُ الأحوالِ لِما لحقَهم مِن أعدائهم. 

وهؤلاءِ علماءُ السّوءِ الناصبونَ المُشبهّونَ بأنّهم لنا موالون، ولأعدائِنا مُعادون يدخلونَ الشكَّ والشبهةَ على ضُعفاءِ شيعتِنا ، فيضلّونَهم ويمنعونَهم عَن قصدِ الحقِّ المُصيب . 

لا جرمَ أنَّ مَن علمَ اللهُ مِن قلبه - مِن هؤلاءِ العوام - أنّه لا يريدُ إلّا صيانةَ دينِه وتعظيمَ وليه، لم يترُكه في يدِ هذا المُلبّس الكافر. 

ولكنّه يقيّضُ له مؤمناً يقفُ به على الصّواب، ثمَّ يُوفّقُه اللهُ تعالى للقبولِ منه فيجمعُ له بذلكَ خيرَ الدّنيا والآخرة، ويجمعُ على مَن أضلّهُ لعنَ الدّنيا وعذابَ الآخرة. (تفسيرُ الإمامِ العسكري، ص300). 

خامساً: أنّهم قرّاءُ للقرآن، ولعلّ هذا إشارةٌ إلى أنّهم يتزيّنونَ بقراءةِ القرآن والحُكمِ به، كالخوارجِ حيثُ كانَ شعارُهم لا حُكمَ إلّا لله، وحسبُنا كتابُ الله، لتمريرِ ضلالاتِهم، وتغريرِ العوامِّ بذلك. وهذه صفةُ ذمٍّ فيهم. 

رويَ عن أبي جعفرٍ (عليهِ السّلام) قالَ: قرّاءُ القرآنِ ثلاثة: رجلٌ قرأ القرآنَ فاتّخذَه بضاعةً واستدرَّ بهِ الملوكَ واستطالَ به على الناس. ورجلٌ قرأ القرآنَ فحفظَ حروفَه وضيّعَ حدودَه، وأقامَه إقامةَ القدحِ فلا كثّرَ اللهُ هؤلاءِ مِن حملةِ القرآن. ورجلٌ قرأ القرآنَ فوضعَ دواءَ القرآنِ على داءِ قلبِه فأسهرَ به ليلَهُ وأظمأ به نهارَه وقامَ بهِ في مساجدِه وتجافى به عَن فراشِه فبأولئكَ يدفعُ اللهُ العزيزُ الجبّار البلاءَ وبأولئكَ يديلُ اللهُ عزَّ وجلَّ منَ الأعداءِ وبأولئكَ ينزّلُ اللهُ عزَّ وجل الغيثَ منَ السّماءِ فواللهِ لهؤلاءِ في قرّاءِ القرآنِ أعزُّ منَ الكبريتِ الأحمر. (الكافي للكُليني: 2 / 627).  

وهؤلاءِ الذينَ يخرجونَ في وجهِ إمامِ زمانِهم، ليسوا منَ القسمِ الثالثِ لقرّاءِ القرآنِ الممدوحينَ، بل المقطوعُ بهِ أنّهم منَ القسمِ الأوّلِ والثاني. ومَن كانوا كذلكَ فتوصيفُهم بقرّاءِ القرآِن صفةُ ذمٍّ لهم.  

سادساً: أنّهم منافقونَ، والمنافقُ هو الذي يبطنُ الكُفر، ويُظهرُ الإيمان، وهؤلاء كذلك، فإنّهم يبطنونَ الكُفرَ بمذهبِ أهلِ البيت (ع)، ويُظهرونَ ولايتَهم في الظاهر، إذ الذي لا يتبرّأ مِن أعدائهم، ويدّعي ولايتَهم، فهو منافقٌ بلا شك.

الخلاصةُ: هؤلاءِ جماعةٌ يتقمّصونَ ثوبَ التفقّهِ في الدّين، وقراءةَ القرآن، والعبادة، (وكلّها أمورٌ حقّةٌ مطلوبة، ولكنَّ غرضَهم إغراءُ العوام) وإلغاءُ البراءةِ مِن أعداءِ أهلِ البيت، وقياداتِهم تنظّرُ لهم ذلك، وهؤلاءِ ولاؤهم ليسَ للتشيّعِ ولا لأهلِ البيت، وإنّما للدولِ التي تدعمُهم وسلّحتهم، وسيكونُ اجتثاثهم على يدِ الحجّةِ بنِ الحسن (عج) إن شاءَ الله. 

وكيفيّةُ الخلاصِ مِن شباكِهم وخطّهم كي لا نكونَ في صفّ مُحاربي إمامِ زمانِنا، أن ننتبهَ ولا ننجرفَ خلفَ الشعاراتِ التي تدعو إلى إلغاءِ البراءةِ مِن أعداءِ أهلِ البيت (ع)، أو إلغاءِ مظلوميّةِ الزهراء (ع)، والوحدةِ بمعنى التنازلِ عن المبادئِ والقيمِ والعقائد، والإغراقِ في المُجاملةِ مع المُخالفين. 

روى الكلينيّ بسندِه عن أبي حمزة قالَ: قالَ لي أبو جعفرٍ عليهِ السّلام: إنّما يعبدُ اللهَ مَن يعرفُ الله، فأمّا مَن لا يعرفُ اللهَ فإنّما يعبدُه هكذا ضلالاً. قلتُ: جُعلتُ فداكَ فما معرفةُ الله؟ قالَ: تصديقُ اللهِ عزَّ وجل، وتصديقُ رسولِه صلّى اللهُ عليه وآله، وموالاةُ عليٍّ عليهِ السّلام والائتمامُ به وبأئمّةِ الهُدى عليهم السّلام، والبراءةُ إلى اللهِ عزَّ وجل مِن عدوّهم، هكذا يُعرفُ اللهُ عزَّ وجل. (الكافي للكُليني: 1 / 180). 

وروى الخزّارُ بسندِه عن الإمامِ الكاظم (ع): طوبى لشيعتِنا المُتمسّكينَ بحبّنا في غيبةِ قائمِنا، الثابتينَ على موالاتِنا، والبراءةِ مِن أعدائِنا، أولئكَ منّا ونحنُ منهم، قد رضوا بنا أئمّةً فرضينا بهم شيعة، فطوبى لهُم ثمَّ طوبى لهم، هُم واللهِ معنا في درجتِنا يومَ القيامة. (كفايةُ الأثرِ للخزّار القمّي، ص269). 

والرُواياتُ متواترةٌ أنّ الولايةَ والبراءة منَ الاعتقاداتِ التي مَن لا يؤمنُ بهما معاً فهو خارجٌ عَن مذهبِ أهلِ البيت (ع). 

وفي الختامِ نقول: روى الكشّي بسندِه عن الإمامِ الصّادق (ع) قال: لو أنَّ البتريّةَ صفٌّ واحدٌ ما بينَ المشرقِ إلى المغرب، ما أعزَّ اللهُ بهم ديناً. (رجالُ الكشّي: 2 / 499).