هل التقليد مسألة جديدة؟!

سمعت أحد المحاضرين يُشكل ويعترض على مسألة التقليد في الفقه الشيعي، ويقول إنها مسألة جديدة، وأن أقدم كتاب جاء فيه مسائل عن الاجتهاد والتقليد هو كتاب العروة الوثقى، للسيد الطباطبائي اليزدي، المتوفى سنة 1337 هجرية، كما أن علماء الشيعة لم يكتبوا رسائل عملية سابقاً بهذه الكيفية، فكيف نفهم مسألة التقليد ضمن هذه الإشكاليات؟

الجواب: مع الأسف الشديد إن غالب من يشنّون حملاتهم ضد التقليد واتباع العلماء في مسائل الشرع المقدّس، لا ينطلقون في دعاواهم وإشكالاتهم من منطلقات علمية، وإنما:

أ - إما هي ردود فعل سلبية على تجارب ذاتية مرت على المستشكل، وهذا ليس بحثاً موضوعياً، لأن الواقع قد يُصاب بالخلل الجزئي، فلا ينبغي أن ينعكس على البحث العلمي.

ب - وإما أن تكون تلك الحملات، تابعة لحملات منظّمة، سواء يشعر بها صاحبها أم لم يشعر، وهدفها هو الهدف الاستعماري الكبير بفصل الدين عن واقع الحياة، ويأتي هذا الإشكال في كل حقبة زمنية بلباس جديد، ولهذا لا تجدهم يضعون بديلاً علمياً منضبطاً لتفعيل الدين في حياة الإنسان، فكيف ومن أين يأخذ الناس معالم دينهم وأحكام شرعهم؟

فالنتيجة التي سيخلص لها هذا التوجّه، هي تعطيل الدين وإبعاده عن الإنسان نفسه، لأن القادر على استنباط أحكامه هم الفقهاء، وإما يخلص إلى نتيجة أخرى، وهي اتباع أصحاب هذه الدعاوى في دعاواهم وفي فهمهم للدين، وهذا يعني أنهم يدعون إلى تقليد أنفسهم. فالتنبه إلى هذه الحقائق من شأنها أن تحرجهم، وتبصّر المؤمنين بحقيقة التقليد وارتباطه بروح الدين.

وبخصوص التساؤل المطروح، نود أن نشير إلى إشارات سريعة لعدة جوانب، نأمل أن يُفهم منها الإجابة الواضحة، ويفهم منها خواء المستشكل وعدم اضطلاعه العلمي وتتبعه التاريخي.

1- كان الناس في عصر الأئمة (عليهم السلام) يلجأون إليهم في مسائلهم الشرعية، وبالرغم من وجودهم الشريف، إلا أنهم أشاروا إلى مجموعة من أصحابهم ممن تتوفّر فيهم الفقاهة، وأرجعوا الناس إليهم، ليأخذوا عنهم معالم دينهم عندما لا يتمكنون من الوصول إلى أهل البيت (عليهم السلام)، بسبب بُعد المسافات وصعوبة الأسفار. فقد وجّه الإمام الرضا (عليه السلام) الناس إلى أن يأخذوا معالم دينهم من زكريا ابن آدم على سبيل المثال، وقال (زكريا ابن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا). وغيره الكثير ممن فُسح المجال لهم لكي يفتوا الناس، مثل أبان بن تغلب الذي أمره الإمام الباقر (عليه السلام) أن يجلس في مجلس المدينة ليفتي الناس.

ويُفهم من ذلك أن حقيقة رجوع غير العالم إلى العالم العارف المستنبط لأحكام الدين، هي حقيقة عقلية ثابتة، وحقيقة دينية، وحقيقة عملية قائمة حتى في زمن أهل البيت (عليهم السلام).

2- في عصر الغيبة الكبرى، توجّه علماء الشيعة إلى تدوين المسائل الشرعية التي يحتاجها الناس، لتكون ملجأً لعامة الناس في عصر غيبة الإمام المعصوم، إلا أن ما ينبغي معرفته، هو أن عرض الأحكام الشرعية للناس أخذ عدة أطوار، وكان سبب الاختلاف في العرض، هو إما منهج المؤلّف، وإما متطلبات العصر ومقتضياته.

فلقد كانت في القرون الأولى من الغيبة الصغرى إلى بدايات الغيبة الكبرى وما بعدها من القرون الأولى، الكثير من الكتب الفقهية التي هي بمثابة رسائل عملية، ولكن كل منها له خصائصه ومنهجه، مثل (المستمسك بحبل آل الرسول في الفقه) لابن عقيل، وبعده ابن الجنيد الذي توفي سنة 381 هجرية، له كتاب (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة)، والشيخ الصدوق له كتاب (المقنع والهداية)، والشيخ المفيد له كتاب (المقنعة) والسيد المرتضى والشيخ الطوسي الذي تنوّع في عرض الأحكام الفقهية، فقد كتب (النهاية) في الفتاوى، و(المبسوط) في فروع الفقه وقواعده، وكتب (الخلاف) الذي عرض فيه الفقه الجعفري مع فقه سائر المذاهب الإسلامية، واستمرت الكتب الفقهية في الصدور مع تنوعها، ومن أشهرها كتاب (شرائع الإسلام) للمحقق الحلي، الذي كان في صورة مسائل فقهية بحسب الأبواب المتعارفة، ثم جاءت الموسوعات الاستدلالية في شرحه كـ (المسالك)، و(المدارك)، و(الجواهر) وغيرها.

فكما نرى أن الكتب الفقهية التي كانت تمثل اجتهادات أصحابها الفقهاء، لم تنقطع عن الصدور، فكان الناس يرجعون إليها مباشرة أو عن طريق العلماء الذين يمتلكونها، وبهذه الطريقة أخذ التقليد ـ الذي هو العمل بالأحكام الشرعية التي يبينها الفقهاء ـ مداه في الواقع الشيعي، ففي بعض الأزمان كان للطائفة عَلَم من أعلامها، له الشهرة وإليه يتوجه الناس بالسؤال من سائر البلدان، وحيناً يتعدد الفقهاء في بلدان مختلفة، بل حتى في المكان الواحد، وكان الناس يرتبطون بأحد الفقهاء بحيث يتوجهون إليه بالأسئلة ويطرحون عليه الاستفتاءات، ولهذا نجد أن هناك الكثير من الكتب الفقهية هي عبارة عن مسائل لأهل بعض البلاد، ثم تُسمّى الرسالة باسمهم أو باسم العالم الذي قدمها أو باسم موضوعها.

3- لابد أن نلتفت أيضاً إلى جنبة مهمة، وهي أن الكتب الفقهية لها سيرورة تطور في عرض الموضوعات، فمبحث التقليد والاجتهاد كان يُبحث في العقائد والكلام، ثم في علم الأصول، ثم جرّده السيد اليزدي ووضع مسائله العملية في كتاب العروة الوثقى، وليس هو أول من أسّس كتاب الاجتهاد والتقليد في الفقه، ولكنه وضع ما ينبغي معرفته والتأكيد عليه فيما يخص المكلّف بالأحكام الشرعية، خصوصاً مع تعدّد الفقهاء والمراجع.

ونحن نلاحظ حتى في هذا الزمان، أن بعض العلماء يبحث كتاب الاجتهاد والتقليد في الدرس الأصولي وليس الفقهي، لأن موضوعاته الأساسية تناسب المقام الأصولي، لارتباطها بالمجتهد، وأساس الرجوع إليه، وشروطه، ومدى ولايته وسلطته الشرعية. بل إن البحث في كتاب الاجتهاد والتقليد هو بحث ذو أبعاد متعددة، مثل (العقيدة، الأصول، الفقه، الواقع).

فكلما تقدّم الزمان تتجدد معه بعض العناوين وتنبثق بعض الحاجات، التي يلح على الفقيه بحثها من جهة شرعية عملية في صيغة فتوى، فتتولد عناوين جديدة في الكتب الفقهية، وقد يكون بعضها مبحوث بعناوين أخرى، مثل البنوك، والتعاقدات الجديدة في التجارة، ومثل عنوان الأسرة والطب والهجرة والزيارة وغيرها. فإن عدم وجود العنوان في الكتب في الفقهية القديمة ليس دليلاً على عدم شرعيته. كما أن وجوده فيما بعد هو دليل على مستجدات الحاجة وإلحاح الواقع، استجابة من الفقه وحيويته لمتطلبات الحياة الجديدة.