ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة لفظ : (وإياب الخلق إليكم ، وحسابهم عليكم) وقد تساءل البعض عن معنى ذلك!!
[اشترك]
قلنا: الزيارة أخرجها الشيخ الصدوق في كتابيه الفقيه([1]) والمعاني([2])، والشيخ الطوسي في التهذيب([3])، قد نوقش فيها سنداً ودلالةً ؛ فأمّا سنداً ، فلأنّ فيها موسى بن عبد الله النخعي ، وهو مجهول..
ويرد عليه لا عبرة بذلك ؛ إذ قد أخرجها القدماء ، كالصدوق والطوسي في كتبهم ، التي عليها المدار، وأفتوا بمضمونها ، بلا أدنى طعن أو تليين أو رد ، وإنّما طعن في صدورها من طعن ؛ لاعتياص فقرة (وإياب الخلق إليكم ، وحسابهم عليكم) لا أكثر ولا أقل .
والطعن فيها لذلك، جهد عاجز ؛ لمجموع أمور ..
الأوّل : لكثرة شواهدها ، وسيعرض المقال لبعضها على ما سيأتي .
الثاني : لا ضير في معناها إجمالاً
اتفق أصحابنا رضي الله عنهم ، أنّ أهل البيت عليهم السلام ، ميزان دخول الجنّة أو النّار ؛ فمن أحبّهم ووالاهم دخل الجنّة ، ومن بغضهم وعاداهم دخل النّار ، على ما قضى الله تعالى، وفي هذا أخبار قطعيّة متواترة ، قرآناً وسنّة ، معلومة ضرورة لكلّ مسلم ؛ كآيتي المودة والتطهير من الرجس ، المفسرتين بهم عليهم السلام بالإجماع المركب بين الفريقين سنة وشيعة ، فلا إشكال .
قال الصدوق (381هـ) مثلاً : وإنّما صار عليه السلام قسيم الجنّة والنّار ؛ لأنّ قسمة الجنة والنار ، إنّما هي على الإيمان والكفر، وقد قال له النبي صلى الله عليه واله: ( يا علي ، حبك إيمان ، وبغضك نفاق وكفر) فهو عليه السلام ، بهذا الوجه ، قسيم الجنّة والنّار([4]).اهـ.
وقال الشيخ المفيد رضي الله عنه (413هـ): قال أبو جعفر : اعتقادنا في الصراط أنه حق ، وأنه جسر؛ الصراط في اللغة هو الطريق ؛ فلذلك سمّي الدين صراطاً ؛ لأنّه طريق إلى الصواب ، وله سمي الولاء لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام صراطاً . ومن معناه قال أمير المؤمنين عليه السلام : أنا صراط الله المستقيم ، وعروته الوثقى التي لا انفصام لها . يعني : أنّ معرفته والتمسك به طريق إلى الله سبحانه .
وقد جاء الخبر بأنّ الطريق يوم القيامة إلى الجنّة ، كالجسر يمر به الناس ، وهو الصراط الذي يقف عن يمينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن شماله أمير المؤمنين عليه السلام ، ويأتيهما النداء من قبل الله تعالى : (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ). وجاء الخبر أنّه لا يعبر الصراط يوم القيامة إلاّ من كان معه براءة من علي بن أبي طالب عليه السلام من النار ([5]).
وقال المجلسي الثاني (1111هـ): (وإياب الخلق إليكم ...) الإياب بالكسر: الرجوع، أي : رجوع الخلق في الدنيا ، لجميع أمورهم ، إليهم ، وإلى كلامهم ، وإلى مشاهدهم ، أو في القيامة للحساب ، وهو أظهر ؛ فالمراد بقوله تعالى : (إنّ إلينا إيابهم) أي : إلى أوليائنا، كما دلّت عليه أخبار كثيرة ([6]). اهـ.
الثالث : هل تجب معرفة تفاصيل هذه العقيدة !!
قلنا -بلا خلاف أعلمه-: معرفة هذه التفاصيل غير واجبة على المسلم؛ فيكفي الاعتقاد أنّه لا نجاة في الدنيا والآخرة إلاّ بمولاة محمد وآل محمد ، وإنّما خاض بعض الأساطين فيما عدا ذلك ؛ لمزيد بيان وإيضاح ؛ إذ الأخبار في ذلك كثيرة جدّاً ، بل متواترة .
وأيّاً كان، تساءل البعض عن هذه التفاصيل ؛ أي: عن كيفيّة إياب الخلق إليهم، وتفاصيل حسابهم عليهم صلوات الله عليهم؟!!!.
قال المجلسي الأوّل محمد تقي (1070هـ) :
(وإياب الخلق إليكم) أي : رجوعهم في الدنيا لأخذ المسائل والزيارات ، وفي الآخرة ، لأجل الحساب ، كما روي عنهم عليهم السلام أنّهم الميزان ، أي: الحقيقي والواقعي.
أو في الآخرة ، بقرينة : (وحسابهم عليكم) كما قال تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا) أي إلى أوليائنا بقرينة الجمع (إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) وروي في الأخبار الكثيرة أنّ حساب الخلائق يوم القيمة إليهم ، ولا استبعاد في ذلك ، كما أنّ الله تعالى قرر الشهود عليهم من الملائكة والأنبياء والأوصياء والجوارح ، مع أنّه قال تعالى : (وَكَفى بِالله شَهِيداً) وهو القادر الديان يوم القيمة ، ويمكن أن يكون مجازاً باعتبار حضورهم مع الأنبياء عند محاسبة الله تعالى إياهم ([7]).
قال حبيب الله الخوئي (1324هـ): ما ذكره أولاً هو الأظهر ؛ إذ المصير إلى المجاز ، إنّما هو مع تعذّر إرادة المعنى الحقيقي ، وأمّا مع الامكان فلا ، وقد دلَّت الأخبار الكثيرة كما اعترف رحمه الله به أيضاً ، على أنّ المحاسب هم عليهم السّلام فيتعيّن إرادة الحقيقة([8]).اهـ.
الرابع : الشواهد المعتبرة الكثيرة
عقد الحر العاملي رضي الله عنه باباً ، تحت عنوان : إنّ حساب جميع الخلق يوم القيامة إلى الأئمة عليهم السلام، سرد فيه روايتان ، رواها الكليني رضي الله عنه في الكافي ، أحدهما : رواية سماعة عن الكاظم عليه السلام ، والثانية رواية جابر الجعفي عن الباقر عليه السلام....، ثمّ ختم قائلاً : أقول: والأحاديث في ذلك كثيرة متواترة([9]).اهـ.
رواية سماعة!!
روى الكليني ، بإسناد مختلف فيه (صحيح على بعض المباني) ، عن سماعة قال : قال أبو الحسن الأول عليه السلام : فقال يا سماعة إلينا إياب هذا الخلق و علينا حسابهم ؛ فما كان لهم من ذنب بينهم و بين الله عز و جل ، حتّمنا على الله في تركه لنا ، فأجابنا إلى ذلك ، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم ، وأجابوا إلى ذلك ، وعوضهم الله عز و جل([10]).
رواية جابر الجعفي!!
روى الكليني ، بإسناد مضعف بعمر بن شمر ، عن جابر الجعفي قال : قال الباقر عليه السلام: (يا جابر إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الأولين و الآخرين لفصل الخطاب....، ثمّ يدعى بنا فيدفع إلينا حساب الناس فنحن و الله ندخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار...) ([11]).
رواية عبد الله بن سنان!!
روى الطوسي (460هـ) بإسناده عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال : «إذا كان يوم القيامة وكلنا الله بحساب شيعتنا، فما كان لله سألنا الله أن يهبه لنا فهو لهم، و ما كان لنا فهو لهم» ثمّ قرأ أبو عبد الله عليه السلام : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) ([12]).
قال المازندراني رضي الله عنه (1081هـ) شارحاً :
(فنحن والله ندخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار) لأنّهم قوام الله تعالى على خلقه ، وعرفاؤه على عباده ، لايدخل الجنّة إلاّ من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النّار إلاّ من أنكرهم وأنكروه) ([13]).اهـ.
وقال السيد عبد الله شبر (1220هـ):
( وإياب ) بكسر الهمزة أي رجوع ( الخلق ) في الدنيا لأمور دينهم ودنياهم وأحكام شرائعهم وإصلاح معادهم ومعاشهم ، أو في القيامة لأجل الحساب والشفاعة ( إليكم ) أو إلى كلامكم ، أو إلى مشاهدكم.
( وحسابهم عليكم) فقوله تعالى (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) أي إلى أوليائهم، كما يشعر به صيغة الجمع ، ولا استبعاد في ذلك ، فقد وكلّ تعالى بالعذاب والحساب والكتاب جمعاً من الملائكة ، وهم أفضل من الملائكة ( عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام...) وساق حديث جابر الجعفي أعلاه. (وعن سماعة) وساق حديثه كما هو أعلاه([14]) .اهـ.
وقال السيد شرف الدين الأستر آبادي (حوالي : 965هـ) :
قوله : (وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم) ومعنى هذا التأويل : الظاهر : أن الضمير في (إلينا) و: (علينا) راجع إلى الله تعالى .
وأما الباطن : فإنه راجع إليهم ، صلوات الله عليهم ، وذلك لأنّهم ولاة أمره ونهيه في الدنيا والآخرة ، والأمر كله لله ، فلمن شاء من خلقه جعله إليه ، ولا شك أن رجوع الخلق يوم القيامة إليهم ، وحسابهم عليهم ، فيدخلون وليهم الجنة ، وعدوهم النار ، كما ورد في كثير من الاخبار ، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام : (قسيم الجنة والنار) ([15]). اهـ.
الخامس : من الشواهد الصحيحة
أخرج القمي في تفسيره حدثنا فرات بن ابراهيم قال حدثنا محمد بن احمد بن حسان قال حدثنا محمد بن مروان عن عبيد بن يحيى عن محمد بن الحسين ابن علي بن الحسين عن ابيه عن جده عن علي بن ابي طالب عليه وعليهم السلام في قوله : (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) ؟!.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إنّ الله تبارك وتعالى ، إذا جمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد ، كنت أنا وانت يومئذ عن يمين العرش، ثم يقول الله تبارك وتعالى لي ولك: قوما فألقيا من ابغضكما وكذبكما في النار).
قلت: إسناده صحيح على الأظهر، ورواه الشيح الطوسي في الأمالي بأكثر من طريق .
وأخرج القمي (في تفسير وألقيا في جهنم) قال : حدثني أبي ، عن عبدالله بن المغيرة الخزاز ، عن ابن سنان ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول...: (أنا مالك خازن النار أمرني ربي أن آتيك بمفاتيح النار، فأقول: قد قبلت ذلك من ربي ، فله الحمد على ما أنعم به علي ، وفضلني به ، إدفعها إلى أخي علي ابن ابي طالب، فيدفعها اليه، ثم يرجع مالك فيقبل علي عليه السلام ، ومعه مفاتيح الجنة ومقاليد النار ، حتى يقف على شفير جهنم ، ويأخذ زمامها بيده ، وقد علا زفيرها، واشتد حرها وكثر شررها، فتنادي جهنم يا علي جزني ، قد أطفأ نورك لهبي، فيقول لها علي عليه السلام: قرّى يا جهنم ، ذري هذا وليي ، وخذي هذا عدوي، فلجهنم يومئذ أشد مطاوعة لعلي من غلام أحدكم لصاحبه؛ فإنّ شاء يذهب به يمنة ، وإن شاء يذهب به يسرة، ولجهنم يومئذ أشدّ مطاوعة لعلي فيما يأمرها به من جميع الخلائق، وذلك أنّ علياً عليه السلام ، يومئذ قسيم الجنة والنار).
قلت: إسناده صحيح ، والروايات في كونه قسيم الجنّة والنّار كثيرة .
وأخرجه الصدوق في علل الشرائع قال : حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، عن العباس بن معروف، عن عبد الله بن المغيرة الخزاز، عن أبي حفص العبدي ، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله ...، وساق مثله .
وإسناده صحيح بلفظه أو معناه ؛ فعبد الله بن المغيرة رضي الله عنه من أصحاب الإجماع .
والأخبار في ذلك كثيرة جدّاً ، كحديث الغدير والثقلين ونحوهما؛ ففي الجميع دلالة أنّ محبتهم ومولاتهم ميزان الله تعالى في دخول الجنة أو النار .
الخلاصة، في أمور:
الأول : معنى : (إياب الخلق إليهم وحسابهم عليهم) أنّ أهل البيت عليهم السلام ، هم ميزان دخول الجنة أو النار ؛ فمن اتبعهم وأحبّهم وولاهم فهو في الجنّة ، ومن بغضهم وعاداهم ، ووالى أعدائهم ، فهو في جهنّم ، وهذا معلوم ضرورة يشهد له القرآن في آيتي المودة والتطهير من الرجس، المفسران بأهل الكساء ، بالإجماع المركب بين السنة والشيعة ، وإن اختلفوا في سعة أو ضيق مفهوم أهل البيت .
الثاني : دعوى الغلاة لعنهم الله تعالى ، أنّ الله ترك حساب الخلق إلى أهل البيت عليهم السلام ، وأنهم مستقلون في ذلك ، شركٌ صريحٌ ، إجماعاً وضرورة ؛ للزوم القول بالشريك .
الثالث : لا مانع عقلاً وشرعاً ، أن يقضي سبحانه بأن يكون بعض عباده متصرفاً بإذنه على التبع ، كما قال المجلسي الأول والسيد عبد الله شبّر وغيرهما ضي الله عنهم ، واللفظ للثاني : (ولا استبعاد في ذلك ، فقد وكلّ تعالى بالعذاب والحساب والكتاب جمعاً من الملائكة ، وهم أفضل من الملائكة).
الرابع: لكن ربما يقال على قواعد الحكمة المتعالية ، بوجوب الواسطة ، بيان ذلك ..
لا ينبغي الريب أنّ أهل البيت عليهم السلام ، واسطة فيض وإيجاد ، على ما قضى الله تعالى ، كما أنّ أغلب العباد ذاتاً ، لا أهليّة لهم لدخول الجنّة ، بلا واسطة فيض دائمة (كالشفاعة) ؛ بداهة أنّ القدرة لا تتعلق بالممتنع ذاتاً ، كما في قضية جبرائيل يوم الإسراء (لو تقدمت أنملة لاحترقت) فتعين القول بلزوم الواسطة في الفيض لدخول الجنّة ، ولا واسطة أشرف من محمد وآل محمد صلوات الله عليهم .
وأمّا أهل النار ؛ فكذلك عكساً ؛ فيكفي سد باب الفيض عنهم ليركسوا في جهنم.
وربما ناقشه المشهور ، بأنّ القول بوجوب الواسطة على الله مشكل ، والأمر لا يسعه ما نحن فيه .
الهوامش:
([1] ) من لا يحضره الفقيه 2: 612. رقم : 3213. باب زيارة جامعة لجميع الأئمة عليهم السلام.
([2] ) عيون أحبار الرضا 2: 307. زيارة أخرى للرضا عليه السلام جامعة.
([3] ) التهذيب 6: 97. رقم: 177. باب زيارة جامعة لسائر المشاهد على أصحابها السلام.
([4] ) معاني الأخبار : 206 . باب معنى قول النبي : (يا علي لك في الجنة كنز)
([5] ) تصحيح اعتقادات الإماميّة : 108.
([6] ) ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار9: 262 . والبحار 99: 139.
([7] ) روضة المتقين للمجلسي الأول5: 478.
([8] ) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 3: 214.
([9] ) الفصول المهمة في أصول الأئمة 1: 447.
([10] ) الكافي (ت: علي غفاري) 8: 162. رقم: 167. حديث الناس يوم القيامة. دار الكتب الإسلامية ، طهران.
([11] ) الكافي (ت: علي غفاري) 8: 159. رقم: 154. حديث الناس يوم القيامة. دار الكتب الإسلامية ، طهران.
([12] ) الأمالي للطوسي : 406.رقم: 911.
([13] ) شرح أصول الكافي للمازندراني 12: 180.
([14] ) الأنوار اللامعة في شرح الزيارة الجامعة للسيد عبد الله شبر : 136.
([15] ) تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة 3: 789.