فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ و بأسلوب عاديّ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة، و التي قد تقترن بترخيم الصوت و أداء بعض الحركات المهيّجة، أن يدفعن ذوي الشهوات إلی الفساد و ارتكاب المعاصي.
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولی وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّـهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلی فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّـهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّـهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) - سورة الأحزاب.
[اشترك]
التّفسير
هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!
كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي و مسئولياتهنّ الخطيرة، و يستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات، و تأمر الآيات نساء النّبي صلّی اللّه عليه و آله بسبعة أوامر مهمّة.
فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة: يا- نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ فإنّ انتسابكنّ إلی النّبي من جانب، و وجودكنّ في منزل الوحي و سماع آيات القرآن و تعليمات الإسلام من جانب آخر، قد منحكن موقعا خاصّا بحيث تقدرن علی أن تكن نموذجا و قدوة لكلّ النساء، سواء كان ذلك في مسير التقوی أم مسير المعصية، و بناء علی هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ، و لا تنسين مسئولياتكنّ الملقاة علی عاتقكنّ، و اعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند اللّه المقام المحمود.
و بعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات و تحمّلها، فإنّه تعالی أصدر أوّل أمر في مجال العفّة، و يؤكّد علی مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاخری في هذا المجال تلقائيا، فيقول:
فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ و بأسلوب عاديّ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة، و التي قد تقترن بترخيم الصوت و أداء بعض الحركات المهيّجة، أن يدفعن ذوي الشهوات إلی الفساد و ارتكاب المعاصي.
إنّ التعبير ب الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ تعبير بليغ جدّا، و مؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عند ما تكون في حدود الاعتدال و المشروعية فهي عين السلامة، أمّا عند ما تتعدّی هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضا قد يصل إلی حدّ الجنون، و الذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي، و قد فصّل العلماء اليوم أنواعا و أقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة، و الخضوع للمفاسد الجنسية و البيئات المنحطّة الملوّثة.
و يبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقول عزّ و جلّ: يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق و مرضي للّه و رسوله، و مقترنا مع الحقّ و العدل: وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
إنّ جملة فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ إشارة إلی طريقة التحدّث، و جملة: وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً إشارة إلی محتوی الحديث.
«القول المعروف» له معنی واسع يتضمّن كلّ ما قيل، إضافة إلی أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه و لا هدف من ورائه، و كذلك ينفي المعصية و كلّ ما خالف الحقّ.
ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولی لئلّا يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا و بعيدا عن الأدب الإسلامي، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ، و في الوقت نفسه يكون خاليا من كلّ صفة مهيّجة.
ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة، فيقول: وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولی.
«قرن» من مادّة الوقار، أي الثقل، و هو كناية عن التزام البيوت. و احتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار)، و هي لا تختلف عن المعنی الأوّل كثيرا[طبعا يكون فعل الأمر( أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار، و حذفت الراء الاولی للتخفيف، و انتقلت فتحة الراء إلی القاف، و مع وجودها لا نحتاج إلی الهمزة، و تصبح( قرن)- تأمّلوا جيّدا-]١.
و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس، و هو مأخوذ من مادّة (برج)، حيث يبدو و يظهر لأنظار الجميع.
لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟
الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبي صلّی اللّه عليه و آله، و لم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ، و كنّ يلقين أطراف خمرهن علی ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ و جزء من صدورهنّ و أقراطهنّ و قد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.
و لا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ، و التركيز علی نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ، تماما كما نقول لعالم: أنت عالم فلا تكذب، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز و مباح للآخرين، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.
إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اخری ستأتي كالجاهلية الاولی التي ذكرها القرآن، و نحن نری اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي، إلّا أنّ المفسّرين القدامی لم يتنبّؤوا و يعلموا بمثل هذا الأمر، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة، و لذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاولی هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح»، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن، و فسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية! و لكن لا حاجة إلی هذه الكلمات كما قلنا، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاولی هي الجاهلية قبل الإسلام، و التي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم- في الآية (١٤٣) من سورة آل عمران، و الآية (٥٠) من سورة المائدة، و الآية (٢٦) من سورة الفتح- و الجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد، كجاهلية عصرنا. و سنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.
و أخير يصدر الأمر الرابع و الخامس و السادس، فيقول سبحانه: وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّـهَ وَ رَسُولَهُ.
إذا كانت الآية قد أكّدت علی الصلاة و الزكاة من بين العبادات، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الاتّصال و الارتباط بالخالق عزّ و جلّ، و تعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق اللّه، و هي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. و أمّا جملة: أَطِعْنَ اللَّـهَ وَ رَسُولَهُ فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.
إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلی أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي، بل هي للجميع، و إن أكّدت عليهنّ.
و يضيف اللّه سبحانه في نهاية الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
إنّ التعبير ب (إنّما) و الذي يدلّ علی الحصر عادة- دليل علی أنّ هذه المنقبة خاصّة بأهل بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله. و جملة (يريد) إشارة إلی إرادة اللّه التكوينية، و إلّا فإنّ الإرادة التشريعية- و بتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم- لا تنحصر بأهل بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب و معصية.
من الممكن أن يقال: إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا، إلّا أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء و الأئمّة معصومين، و يمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم، و لهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل اللّه سبحانه، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس.
و بتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية و أعمالهم الطاهرة، لا يقدمون علی المعصية مع امتلاكهم القدرة و الإختيار في إتيانها، تماما كما لا نری عاقلا يرفع جمرة من النار و يضعها في فمّه، مع أنّه غير مجبر و لا مكره علی الامتناع عن هذا العمل، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات و الاطلاع، و المبادئ الفطرية و الطبيعية، من دون أن يكون في الأمر جبر و إكراه.
و لفظة «الرجس» تعني الشيء القذر، سواء كان نجسا و قذرا من ناحية طبع الإنسان، أو بحكم العقل أو الشرع، أو جميعها[ذكر الراغب في مفرداته، في مادّة( رجس) المعنی المذكور أعلاه، و أربعة أنواع كمصاديق له.]٢. و ما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل و الحسد، أو الإعتقاد بالباطل، و أمثال ذلك، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، و إلّا فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ و شامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف و اللام) التي وردت هنا، و التي تسمّی بألف و لام الجنس.
و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس، هو تأكيد علی مسألة إذهاب الرجس و نفي السيّئات، و يعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر علی هذا المعنی.
و أمّا تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ فإنّه إشارة إلی أهل بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله باتّفاق علماء الإسلام و المفسّرين، و هو الشيء الذي يفهم من ظاهر الآية، لأنّ البيت و إن ذكر هنا بصيغة مطلقة، إلّا أنّ المراد منه بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله بقرينة الآيات السابقة و اللاحقة[ما ذكره البعض من أنّ« البيت» هنا إشارة الی بيت اللّه الحرام، و أهله هم« المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات.]٣.
إلّا أنّ هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟
اعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختصّ بنساء النّبي، لأنّ الآيات السابقة و اللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله، فاعتبروا ذلك قرينة علی مدّعاهم.
غير أنّ الانتباه إلی مسألة في الآية ينفي هذا الادّعاء، و هي: أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة و اللاحقة، جاءت بصيغة ضمير النسوة، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر، و هذا يوحي بأنّ هناك معنی آخر هو المراد، و لذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع و اعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله رجالا و نساء.
و من جهة اخری فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبي صلّی اللّه عليه و آله، و تقول: إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط، و هم: محمّد صلّی اللّه عليه و آله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و مع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة علی تفسير الآية، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.
و السؤال الوحيد الذي يبقی هنا هو: كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي و لا يشملهنّ هذا المطلب؟ و قد أجاب المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاولی التي نری فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها و تتحدّث عن مواضيع مختلفة، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث، و كذلك توجد شواهد كثيرة علی هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب و أشعارهم.
و أضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخّصه: لا دليل لدينا علی أنّ جملة: إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ... قد نزلت مع هذه الآيات، بل يستفاد جيّدا من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة، و قد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدی جمعه آيات القرآن في عصر النّبي صلّی اللّه عليه و آله أو بعده.
و الجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو: أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي: إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون، و الذي يعيش في ظلّ العصمة و منزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين، و لا تنسين أنّ انتسابكنّ إلی بيت فيه خمسة معصومين يلقي علی عاتقكنّ مسئوليات ثقيلة، و ينتظر منه اللّه و عباده انتظارات كثيرة.
و سنبحث في الملاحظات القادمة- إن شاء اللّه تعالی- روايات السنّة و الشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.
و بيّنت الآية الأخيرة- من الآيات مورد البحث- سابع وظيفة و آخرها من وظائف نساء النّبي، و نبّهتهن علی ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام و العلم بها و بأبعادها، فتقول: وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلی فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّـهِ وَ الْحِكْمَةِ.
فإنكنّ في مهبط الوحي، و في مركز نور القرآن، فحتّی إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات علی أن تستفدن جيّدا من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ، و من تعليمات الإسلام و حديث النّبي صلّی اللّه عليه و آله الذي كان يتحدّث به، فإنّ كل نفس من أنفاسه درس، و كلّ لفظ من كلامه برنامج حياة! و فيما هو الفرق بين «آيات اللّه» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين: إنّ كليهما إشارة إلی القرآن، غاية ما في الأمر أنّ التعبير ب (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن، و التعبير ب (الحكمة) يتحدّث عن المحتوی العميق و العلم المخفي فيه.
و قال البعض الآخر: إنّ «آيات اللّه» إشارة إلی آيات القرآن، و «الحكمة» إشارة إلی سنّة النّبي صلّی اللّه عليه و آله مواعظه و إرشاداته الحكيمة.
و مع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام و ألفاظ الآية، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات اللّه أكثر، إضافة إلی أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات و الحكمة، كالآية (٢٣١) من سورة البقرة: وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ و يشبهه ما جاء في الآية (١١٣) من سورة النساء.
و أخيرا تقول الآية: إِنَّ اللَّـهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً و هي إشارة إلی أنّه سبحانه مطّلع علی أدقّ الأعمال و أخفاها، و يعلم نيّاتكم تماما، و هو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.
هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع علی الدقائق و الخفيات، و أمّا إذا فسّر بصاحب اللطف، فهو إشارة إلی أنّ اللّه سبحانه لطيف و رحيم بكنّ يا نساء النّبي، و هو خبير بأعمالكنّ أيضا.
و يحتمل أيضا أن يكون التأكيد علی «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن، و علی «الخبير» باعتبار محتواه الحكمي. و في الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني و يمكن جمعها.
بحوث
١- آية التطهير برهان واضح علی العصمة:
اعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلی الشرك أو الكبائر- كالزنا- فقط، في حين لا يوجد دليل علی هذا التحديد، بل إنّ إطلاق الرجس- و خاصّة بملاحظة ألفه و لامه، و هي ألف لام الجنس- يشمل كلّ أنواع الذنوب و المعاصي، لأنّ كلّ المعاصي رجس، و لذلك فإنّ هذه الكلمة أطلقت في القرآن علی الشرك و الخمور و القمار و النفاق و اللحوم المحرّمة و النجسة و أمثال ذلك.
انظر الآيات: الحجّ- ٣٠، المائدة- ٩٠، التوبة- ١٢٥، الأنعام- ١٤٥.
و بملاحظة أنّ الإرادة الإلهيّة حتمية التنفيذ و الوقوع، و أنّ جملة: إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ دليل علی إرادته الحتمية، و خاصّة بوجود كلمة (إنّما) الدالّة علی الحصر و التأكيد، سيتّضح أنّ إرادة اللّه سبحانه قد قطعت بأن يكون أهل البيت منزّهين عن كلّ رجس و خطأ، و هذا هو مقام العصمة.
و ثمّة مسألة تستحقّ الانتباه، و هي أنّه ليس المراد من الإرادة الإلهيّة في هذه الآية الأوامر و الأحكام الإلهيّة في مسائل الحلال و الحرام، لأنّ هذه الأحكام تشمل الجميع، و لا تختّص بأهل البيت، و بناء علی هذا فإنّها لا تتناسب مع مفهوم (إنّما).
إذن، فهذه الإرادة المستمرّة نوع من الإمداد الإلهي الذي يعيّن أهل أهل البيت علی العصمة و الاستمرار فيها، و هي في الوقت نفسه لا تنافي حرية الإرادة و الإختيار، كما فصّلنا ذلك سابقا.
إنّ مفهوم هذه الآية في الحقيقة هو عين ما
جاء في الزيارة الجامعة: «عصمكم اللّه من الزلل، و آمنكم من الفتن، و طهّركم من الدنس و أذهب عنكم الرجس و طهّركم تطهيرا».
و ينبغي أن لا نشكّ بعد هذا الإيضاح في دلالة الآية المذكورة علی عصمة أهل البيت عليهم السّلام.
٢- فيمن نزلت آية التطهير؟
قلنا: إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت ضمن الآيات المتعلّقة بنساء النّبي، إلّا أنّ تغيير سياقها- حيث تبدّل ضمير الجمع المؤنث إلی ضمير الجمع المذكّر- دليل علی أنّ لهذه الآية معنی و محتوی مستقلا عن تلك الآيات، و لهذا فحتّی أولئك الذين لم يعتبروا الآية مختّصة بمحمّد صلّی اللّه عليه و آله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، فإنّهم اعتقدوا أنّ لها معنی واسعا يشمل هؤلاء العظام و نساء النّبي صلّی اللّه عليه و آله.
إلّا أنّ الرّوايات الكثيرة التي بين أيدينا تبيّن أنّ هذه الآية خاصّة بهؤلاء الأجلّاء، و لا تدخل الزوجات ضمن الآية، بالرغم من أنهنّ يتمتّعن باحترام خاصّ، و نضع بين أيديكم بعضا من هذه الروايات:
أ: الرّوايات التي رويت عن أزواج النّبي صلّی اللّه عليه و آله أنفسهنّ، و التي حدثن فيها: إنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله عند ما كل يتحدّث عن هذه الآية الشريفة سألناه: أ نحن من أصحاب هذه الآية؟ فكان يجيب: بأنكنّ إلی خير، و لكن لستنّ من أصحابها.
و من جملتها الرواية التي
رواها «الثعلبي» عن «امّ سلمة» في تفسيره، و ذلك أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله كان في بيتها إذ أتته فاطمة عليها السّلام بقطعة حرير، فقال النّبي صلّی اللّه عليه و آله: «ادعي لي زوجك و ابنيك- الحسن و الحسين-» فأتت به فطعموا، ثمّ ألقی عليهم النّبي صلّی اللّه عليه و آله كساء له خيبريا و قال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي و عترتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» فنزلت آية التطهير، فقلت: يا رسول اللّه و أنا معهم؟ قال: «إنّك إلی خير» و لكنّك لست منهم[روی الطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، هذا الحديث بهذا المضمون بطرق متعدّدة عن أمّ سلمة. راجع شواهد التنزيل، للحاكم الحسكاني، المجلّد ٢، صفحة ٥٦ و ما بعدها.]٤.
و يروي «الثعلبي» أيضا عن «عائشة» أنّها عند ما سئلت عن حرب الجمل و تدخّلها في تلك الحرب المدمّرة الطاحنة، قالت بأسف: كان ذلك قضاء اللّه.
و
عند ما سئلت عن علي عليه السّلام قالت: تسأليني عن أحبّ الناس كان إلی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله، و زوج أحبّ الناس كان إلی رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله؟ لقد رأيت عليا و فاطمة و حسنا و حسينا عليهم السّلام، و جمع رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله بثوب عليهم ثمّ قال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي و حامتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا» قالت: فقلت: يا رسول اللّه، أنا من أهلك! قال: «تنحّي فإنّك إلی خير»[مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.]٥- إلّا أنّك لست جزءا منهم-.
إنّ هذه الرّوايات تصرّح أنّ زوجات النّبي صلّی اللّه عليه و آله لسن جزءا من أهل البيت في هذه الآية.
ب: لقد
وردت روايات كثيرة جدّا بصورة مجملة في شأن حديث الكساء، يستفاد منها جميعا أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله دعا عليا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام- أو أنّهم أتوا إليه- فألقی عليهم عباءة و قال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا»، فنزلت الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ....
و قد روی العالم المعروف «الحاكم الحسكاني النيسابوري» هذه الروايات في (شواهد التنزيل) بطرق مختلفة عن رواة مختلفين[شواهد التنزيل، المجلّد ٢، صفحة ٣١ و ما بعدها.]٦.
و هنا سؤال يلفت النظر، و هو: ماذا كان الهدف من جمعهم تحت الكساء؟
كأنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله كان يريد أن يحدّد هؤلاء و يعرّفهم تماما، و يقول: إنّ الآية أعلاه في حقّ هؤلاء خاصّة، لئلّا يری أحد أو يظنّ ظانّ أنّ المخاطب في هذه الآية كلّ من تربطه بالنّبي صلّی اللّه عليه و آله قرابة، و كلّ من يعدّ جزءا من أهله، حتّی جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله قد كرّر هذه الجملة ثلاث مرّات:
«اللهمّ هؤلاء أهل بيتي و خاصّتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا»[الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث.]٧.
ج: نقرأ في روايات عديدة اخری أنّ النّبي صلّی اللّه عليه و آله بقي ستّة أشهر بعد نزول هذه الآية ينادي عند مروره من جنب بيت فاطمة سلام اللّه عليها و هو ذاهب إلی صلاة الصبح:
«الصلاة يا أهل البيت! إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا». و قد روی الحاكم الحسكاني هذا الحديث عن أنس بن مالك[شواهد التنزيل، المجلّد ٢، صفحة ١١.]٨.
و روی ابن عبّاس أيضا هذا الحديث عن النّبي صلّی اللّه عليه و آله[الدرّ المنثور، ذيل الآية مورد البحث.]٩.
و هنا مسألة تستحقّ الانتباه، و هي أنّ تكرار هذه الأمر ستّة أشهر أو ثمانية أو تسعة أشهر بصورة مستمرّة جنب بيت فاطمة إنّما هو لبيان هذه المسألة تماما لئلّا يبقی مجال للشكّ لدی أيّ شخص بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء النفر فقط، خاصّة و أنّ الدار الوحيدة التي بقي بابها مفتوحا إلی داخل المسجد بعد أن أمر اللّه نبيّه بأن تغلق جميع أبواب بيوت الآخرين، هي دار فاطمة عليها السّلام، و لا شكّ أنّ جماعة من الناس كانوا يسمعون ذلك القول من النّبي صلّی اللّه عليه و آله حين الصلاة هناك- تأمّلوا ذلك-.
و مع ذلك، فإنّ ممّا يثير العجب أنّ بعض المفسّرين يصرّون علی أنّ للآية معنی عامّا تدخل فيه أزواج النّبي، بالرغم من أنّ أكثر علماء الإسلام، السنّة منهم و الشيعة، قد حدّدوها بهؤلاء الخمسة.
و ممّا يستحقّ الالتفات أنّ عائشة- زوجة النّبي لم تكن تدع شيئا في ذكر فضائلها، و دقائق علاقتها بالنّبي صلّی اللّه عليه و آله بشهادة الروايات الإسلامية، فإذا كانت هذه الآية تشملها فلا بدّ أنّها كانت ستتحدّث بها في المناسبات المختلفة، في حين لم يرو شيء من ذلك عنها مطلقا.
د: رويت روايات عديدة عن الصحابي المعروف «أبي سعيد الخدري» تشهد بصراحة بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء الخمسة الأطهار: «نزلت في خمسة: في رسول اللّه، و علي، و فاطمة، و الحسن، و الحسين». و هذه الرّوايات كثيرة بحيث عدّها بعض المحقّقين متواترة. و ممّا قلناه نستنتج أنّ المصادر و رواة الأحاديث التي تدلّ علی اختصاص الآية بالخمسة المطهّرة و حصرها بهم كثيرة بحيث لا تدع لأحد المجال للشكّ في هذه الدلالة، حتّی أنّه ذكر في شرح (إحقاق الحقّ) أكثر من سبعين مصدرا من مصادر العامّة المعروفة، و أمّا مصادر الشيعة في هذا الباب فتربو علی الألف[يراجع الجزء الثّاني، من إحقاق الحقّ و هوامشه.]١٠. و قد روی صاحب كتاب (شواهد التنزيل)- و هو من علماء الإخوة السنّة المشهورين- أكثر من (١٣٠) حديثا في هذا الموضوع[يراجع المجلّد الثّاني، من شواهد التنزيل، صفحة ١٠- ٩٢.]١١.
و بغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ بعض أزواج النّبي قد قمن بأعمال طوال حياتهنّ تخالف مقام العصمة، و لا تناسب كونهنّ معصومات، كحادثة «حرب الجمل» التي كانت ثورة و خروجا علی إمام الزمان، و التي تسبّبت في إراقة دماء كثيرة، فقد بلغ عدد القتلی في هذه الحرب- عند بعض المؤرخّين- سبعة عشر ألف قتيل.
و لا شكّ أنّ هذه المعركة لا يمكن توجيهها، بل إنّنا نری أنّ عائشة نفسها قد أظهرت الندم بعدها، و قد مرّ نموذج من هذا الندم في البحوث السابقة.
إنّ انتقاص عائشة من خديجة- و التي هي من أعظم نساء المسلمين، و أكثر هنّ تضحية و إيثارا، و أجلّهنّ فضيلة و قدرا- مشهور في تاريخ الإسلام، و قد آلم هذا الكلام رسول اللّه صلّی اللّه عليه و آله حتّی ظهرت علی وجهه الشريف آثار الغضب و
قال: «لا و اللّه ما أبدلني اللّه خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، و صدّقتني إذ كذّبني الناس، و واستني في مالها إذ حرمني الناس»[الإستيعاب، و صحيح البخاري، و صحيح مسلم. طبقا لنقل المراجعات صفحة ٢٢٩ الرسالة ٧٢.]١٢.
٣- هل أن الإرادة الإلهية هنا تكوينية أم تشريعية؟
مرّت الإشارة في طيّات تفسير هذه الآية إلی هذا الموضوع، و قلنا: إنّ الإرادة في جملة: إِنَّما يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ إرادة تكوينية لا تشريعية.
و لمزيد التوضيح ينبغي أن نذكّر بأنّ المراد من «الإرادة التشريعية» هي أوامر اللّه و نواهيه، فنعلم مثلا أنّ اللّه سبحانه يريد منّا أداء الصلاة و الصوم و الحجّ و الجهاد، و هذه إرادة تشريعية. و من المعلوم أنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بأفعالنا لا بأفعال اللّه عزّ و جلّ. في حين أنّ الآية أعلاه تتعلّق بأفعال اللّه سبحانه، فهي تقول:
إنّ اللّه أراد أن يذهب عنكم الرجس، و بناء علی هذا فإنّ مثل هذه الإرادة يجب أن تكون تكوينية، و مرتبطة بإرادة اللّه سبحانه في عالم التكوين.
إضافة إلی ذلك، فإنّ مسألة الإرادة التشريعية فيما يتعلّق بالتقوی و العفّة لا تنحصر بأهل البيت عليهم السّلام، لأنّ اللّه قد أمر الجميع بالتقوی و التطهّر من الذنوب، و بذلك لا تكون لهم مزيّة و خاصيّة، لأنّ كلّ المكلّفين مشمولون بهذا الأمر.
و علی أيّة حال، فإنّ هذا الموضوع- أي الإرادة التشريعيّة- مضافا إلی أنّه لا يناسب ظاهر الآية، فانّه لا يتناسب مع الأحاديث السابقة بأيّ وجه من الوجوه، لأنّ كلّ تلك الأحاديث تتحدّث عن فضيلة سامية و هبة مهمّة خاصّة بأهل البيت عليهم السّلام.
و من المسلّم أيضا أنّ «الرجس» هنا لا يعني الرجس الظاهري، بل هو إشارة إلی الأرجاس الباطنية، و إطلاق هذه الكلمة ينفي انحصارها و كونها محدودة بالشرك و الكفر و الأعمال المنافية للعفّة و أمثال ذلك، فإنّها تشمل كلّ الذنوب و المعاصي و المفاسد العقائدية و الأخلاقية و العملية.
و المسألة الاخری التي ينبغي الالتفات إليها بدقّة هي أنّ الإرادة التكوينية التي تعني الخلقة و الإيجاد، تعني هنا «المقتضي» لا العلّة التامّة لتكون موجبة للجبر و سلب الإختيار.
و توضيح ذلك، إنّ مقام العصمة يعني حالة تقوی اللّه التي توجد عند الأنبياء و الأئمّة بمعونة اللّه سبحانه، لكن وجود هذه الحالة لا يعني أنّهم غير قادرين علی ارتكاب المعصية، بل إنّهم قادرون علی إتيانها، غير أنّهم يعفّون أنفسهم و يجلّونها عن التلوّث بها باختيارهم، و يغضّون الطرف عنها طوعا، تماما كالطبيب الحاذق الذي لا يتناول مطلقا مادّة سمّية جدّا و هو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها، و مع أنّه قادر علی تناولها، إلّا أنّ علومه و اطلاعه و مبادئه الفكرية و الروحية تدفعه إلی الامتناع إراديا و اختيارا عن هذا العمل.
و يجب التذكير بهذه المسألة، و هي أنّ هذه التقوی موهبة خاصّة منحت للأنبياء لا للآخرين، لكن اللّه سبحانه قد منحهم إيّاها للمسؤوليات الثقيلة الخطيرة الملقاة علی عاتقهم في قيادة الناس و إرشادهم، و بناء علی هذا فإنّه امتياز يعود نفعه علی الجميع، و هذه عين العدالة، تماما كالامتياز الخاصّ الذي منحه اللّه لطبقات العين و أغشيتها الرقيقة و الحسّاسة جدّا، و التي يستفيد منها جميع البدن.
إضافة إلی أنّ الأنبياء تعظم مسئولياتهم و واجباتهم بنفس المقدار الذي يتمتّعون بهذا المواهب الإلهية و الامتيازات، فإنّ ترك الاولی من قبلهم يعادل ذنبا كبيرا يصدر من الناس العاديين، و هذا معيار و تشخيص لخطّ العدالة.
و النتيجة أنّ هذه الإرادة إرادة تكوينية في حدود المقتضی- و ليست علّة تامّة- و هي في الوقت نفسه لا توجب الجبر و لا تسلب الإختيار و الإرادة الإنسانية.
٤- جاهلية القرن العشرين!
مرّت الإشارة إلی أنّ جمعا من المفسّرين تورّطوا في تفسير (الجاهلية الاولی) و كأنّهم لم يقدروا أن يصدّقوا ظهور جاهلية اخری في العالم بعد ظهور الإسلام، و أنّ جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة، إلّا أنّ هذا الأمر قد تجلّی للجميع اليوم، حيث نری مظاهر جاهلية القرن العشرين المرعبة، و يجب أن تعدّ تلك إحدی تنبؤات القرآن الإعجازية.
إذا كان العرب في زمان الجاهلية يغيرون و يحاربون، و إذا كان سوق عكاظ- مثلا- ساحة لسفك الدماء لأسباب تافهة عدّة مرّات، و قتل علی أثرها أفراد معدودون، فقد وقعت في جاهلية عصرنا حروب ذهب ضحيّتها عشرون مليون إنسان، و جرح و تعوّق أكثر من هذا العدد! و إذا كانت النساء «تتبرّج» في زمن الجاهلية و يلقين خمرهنّ عن رؤوسهن بحيث كان يظهر جزء من صدورهنّ و نحورهنّ، و قلائدهنّ و أقراطهنّ، ففي عصرنا تشكّل نواد تسمّی بنوادي العراة- و نموذجها مشهور في بريطانيا- حيث يتعرّی أفرادها كما ولدتهم امّهاتهم، و فضائح البلاجات علی سواحل البحار و المسابح، بل و حتّی في الأماكن العامّة و علی قارعة الطريق يخجل القلم من ذكرها.
و إذا كانت في الجاهلية «زانيات من ذوات الأعلام»، حيث كنّ يرفعن أعلاما فوق بيوتهنّ ليدعين الناس إلی أنفسهنّ، في جاهلية قرننا أناس يطرحون أمورا و مطالب في هذا المجال عبر صحف خاصّة، يندی لها الجبين، و لجاهلية العرب مائة مرتبة من الشرف علی هذه الجاهلية.
و الخلاصة: ماذا نقول عن وضع المفاسد التي توجد في عصرنا الحاضر .. عصر التمدّن المادّي الآلي الخالي من الإيمان، فعدم الحديث عنها أولی، و لا ينبغي أن نلوّث هذا التّفسير بذكرها.
إنّ ما قلناه كان جانبا من العبء الملقی علی عاتقنا لبيان حياة الذين يبتعدون عن اللّه تعالی، فإنّهم و إن امتلكوا آلاف الجامعات و المراكز العلمية و العلماء المعروفين، فهم غارقون في و حل الفساد و مستنقع الرذيلة، بل إنّهم قد يضعون هذه المراكز العلمية و علماءها في خدمة هذه الفجائع و المفاسد أحيانا.
*مقتطف من تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل
---------------- الهوامش: ١ طبعا يكون فعل الأمر( أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار، و حذفت الراء الاولی للتخفيف، و انتقلت فتحة الراء إلی القاف، و مع وجودها لا نحتاج إلی الهمزة، و تصبح( قرن)- تأمّلوا جيّدا- ٢ ذكر الراغب في مفرداته، في مادّة( رجس) المعنی المذكور أعلاه، و أربعة أنواع كمصاديق له. ٣ ما ذكره البعض من أنّ« البيت» هنا إشارة الی بيت اللّه الحرام، و أهله هم« المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات. لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبي صلّی اللّه عليه و آله و أزواجه، لا عن بيت اللّه الحرام، و لا يوجد أيّ دليل علی قولهم. ٤ روی الطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، هذا الحديث بهذا المضمون بطرق متعدّدة عن أمّ سلمة. راجع شواهد التنزيل، للحاكم الحسكاني، المجلّد ٢، صفحة ٥٦ و ما بعدها. ٥ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث. ٦ شواهد التنزيل، المجلّد ٢، صفحة ٣١ و ما بعدها. ٧ الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث. ٨ شواهد التنزيل، المجلّد ٢، صفحة ١١. ٩ الدرّ المنثور، ذيل الآية مورد البحث. ١٠ يراجع الجزء الثّاني، من إحقاق الحقّ و هوامشه. ١١ يراجع المجلّد الثّاني، من شواهد التنزيل، صفحة ١٠- ٩٢. ١٢ الإستيعاب، و صحيح البخاري، و صحيح مسلم. طبقا لنقل المراجعات صفحة ٢٢٩ الرسالة ٧٢.