بسم الله الرّحمن الرّحيم ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ صدق الله العليّ العظيم
[اشترك]
حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في محورين:
في بيان المحكم والمتشابه.
في بيان معنى الكرسي ونسبته إلى العرش بالنسبة لله تبارك وتعالى.
المحور الأول:
قال تبارك وتعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾، المحكم هو الآية الواضحة الدلالة، والمتشابه هو الآية المجملة في دلالتها الغامضة في تحديد معناها، وسبب ذلك ومنشأ ذلك أنّ الآيات المحكمات هي الآيات التي تتضمّن مضامينَ عامّة وتتحدّث عن مبادئَ عامةٍ، فلأنها تتحدث عن مبادئَ عامّةٍ تكون دلالتها واضحة، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾، هذه مضامين عامة في الكتاب فآياتها آيات محكمة، أمّا الآيات المتشابهة فما هو سبب التشابه «أي: ما هو منشأ إجمال دلالتها وغموض معناها»؟
نشير إلى مناشئ ثلاثة:
المنشأ الأول:
قد يكون منشأ الإجمال ومنشأ الغموض في الآية هو الإطلاق وعدم التحديد، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾، أطلق اليد ولم يحدّدها، مع أنّ اليد في اللغة تطلق على تمام هذا العضو، وتطلق على الذراع، وتطلق على الكفّ، وتطلق على الأصابع، فحيث إنه أطلق اليد ولم يحدّدها صار ذلك منشأ لإجمال الآية فأصبحت من الآيات المتشابهة.
المنشأ الثاني:
أن يكون نفس اللفظ مجملاً بحسب معناه اللغوي، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾، «أنّى» بحسب اللغة هي لفظ مجملٌ لا يعلم أنّ المراد به الزمان أو يراد به المكان، ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ يعني: في أي زمان شئتم إلا زمان الحيض، أو ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ يعني: من أين مكان شئتم إلا ما أخرجه الدّليل الآخر؟ ف «أنّى» مجملة بين الزّمان وبين المكان بحسب معناها اللغوي، وهذا هو الذي أوجب إجمال الآية وكون الآية من الآيات المتشابهة.
المنشأ الثالث:
أن يكون منشأ التّشابه هو وصف المجرّدات بوصف الماديّات، القرآن الكريم استخدم الكناية والاستعارة والمجاز المرسل في كثير من مضامينه وفي كثير من مداليله، أحيانًا تقتضي الكيانة أو الاستعارة أنْ يصف الأشياء المجرّدة - يعني: الأشياء التي ليست ماديّة - بأوصاف المادّة فيقع الاشتباهُ ويقع الغموضُ، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾، الله ليس أمرًا ماديًا لكنّه وصفه بأوصاف المادّة، قال: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ فحصل الاشتباهُ في الآية، صارت من الآيات المتشابهة، مثلاً: عندما يقول: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ الله ليس جسمًا حتى يُعْقَلُ فيه المجيءُ والذهابُ، لكن وصفه بأوصاف الأجسام، قال: ﴿وَجَاءَ رَبُّك﴾ فأصبحت الآية من الآيات المتشابهة، وقوله عزّ وجلّ مثلاً: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ والاستواء من أوصاف المادّة فأصبحت الآية من الآيات المتشابهة.
إذا قمنا بالمقارنة بين قوله عزّ وجلّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ نجد أنّ هذه الآية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ محكمة، لماذا محكمة؟ لأنها تعرّضت لمعنى عام ولم تصف المجرّد بأوصاف المادّة فأصبحت آية محكمة، بينما قوله عزّ وجلّ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ لأنّها تعرّضت لخصوصيّة معيّنة وهي خصوصيّة علاقة الله بالعرش ووصفت هذه الخصوصيّة بوصف المادّة أصبحت الآية من الآيات المتشابهة، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، أيضًا آية الكرسي التي ابتدأنا بها وهي قوله عزّ وجلّ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ الله يريد أنْ يتحدّث عن علاقته بالسّماوات والأرض والكون، وصف هذه العلاقة بوصف المادّة وهو الكرسي، الكرسي من أوصاف الأجسام، من أوصاف المادّة، أصبحت هذه الآية من الآيات المتشابهة، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾.
المحور الثاني: ما يتعلق بالحديث حول الكرسي والعرش ونسبته إلى الوجود
هنا أذكر أمورًا ثلاثةً:
الأمر الأوّل: آية الكرسي أفضل آيات القرآن بعد سورة الفاتحة
ورد في الأحاديث الشريفة في تفسير العياشي عن الصّادق عليه السّلام قال له: ما أفضل آية نزلت على النبي ؟ قال: ”هي آية الكرسي“، أفضل آية نزلت على النبي هي آية الكرسي، طبعًا إذا نقارن آية الكرسي بآيات أخرى ربّما يكون المعنى موجودًا في آيات أخرى، مثلاً قوله في سورة طه نفس هذا اللّفظ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو﴾َ لكن لم يقل: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، قال: ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ هذا في سورة طه، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾، فتعرّض للأسماء الحسنى بشكلٍ إجمالي، لم يبيّن ما هي الأسماء الحسنى، أمّا في آية الكرسي تعرّض للأسماء الحسنى بشكلٍ تفصيلي، يعني: بيّن ما هي الأسماء الحسنى، قال: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾، ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ...﴾ فتعرّض للأسماء الحسنى بشكلٍ تفصيلي، بينما في تلك الآية الموجودة في سورة طه تعرّض للأسماء الحسنى بشكلٍ إجمالي.
في روايةٍ أخرى - هذه الرّواية مهمٌ أنْ تعرفوها - يذكر الشّيخ الصّدوق في كتابه «المعاني» عن الباهلي عن الصّادق عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليًا عليه السّلام قال: ”لا يوجد رجلٌ أدرك عقله الإسلامَ - يعني: عرف الإسلامَ - أو وُلِدَ في الإسلام يبيت ليلته سوادَها حتى يقرأ هذه الآية“ يعني آية الكرسي، يعني ما يصير مسلم يبيت ليلة دون أن يقرأ آية الكرسي، لا يوجد رجلٌ أدرك عقله الإسلام أو وُلِدَ في الإسلام يبيت ليلته سوادَها حتى يقرأ هذه الآية، ثم قرأها إلى ﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾، لم يقرأ الآيات الثلاث ممّا يدلّ على أنّ آية الكرسي إذا أطلقت تنصرف إلى الآية الأولى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾.
وقال أمير المؤمنين: ”لقد سمعتُ من رسول الله أنّه قال: أعطيت آية الكرسي من كنز هو تحت العرش“ ثم قال أميرُ المؤمنين: ”فمنذ سمعتُ ذلك ما تركتها ليلة قط“، إذن هذا يدلّ على مرغوبيّة ومحبوبيّة قراءة آية الكرسي هذه الآية العظيمة في كلّ ليلة وفي كلّ حال كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.
الأمر الثاني: نسبة الكرسي إلى العرش
في آيات أخرى تحدّث عن العرش، قال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾، ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾، هنا تحدّث عن الكرسي، قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، ما هي نسبة الكرسي إلى العرش؟
هنا نتحدّث عن منظورات ثلاثة: المنظور السّياقي والمنظور الفلسفي والمنظور الرّوائي.
1 - نأتي أولاً للمنظور السّياقي:
نحن وسياق الآية مع غمض النّظر عمّا ذكرته الرّواياتُ الشّريفة، لو كنّا نحن وسياق الآية، الآية تقول: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هذه الصّفة الأولى صفة التّوحيد، يعني: هو واحدٌ، ﴿الْحَيُّ﴾ يعني: له الحياة المطلقة، ﴿الْقَيُّومُ﴾ له القيوميّة والإحاطة والسّيطرة المطلقة، ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ إشارة إلى القدرة وأنّه لا يطرؤ عليه عجزٌ أبدًا، هو القادر المطلق جلّ وعلا، ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إشارة إلى الملك كما قال في آيةٍ أخرى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ هذا إشارة إلى الملك، ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ولذلك - يعني: لأنّ بيده الملك - لا يستطيع أحدٌ أنْ يشفع عنده إلا بإذنه، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ هو المالك فلا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه، ثم تعرّض لصفة العلم، قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ هذه صفة العلم، ثم جاء إلى صفة السّلطنة، قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ﴾ هذه كناية عن السّلطنة، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ فالكرسي هنا بحسب المنظور السّياقي للآية المباركة كناية عن سلطنته تبارك وتعالى ونفوذ أمره، ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ﴾ إشارة إلى نفوذ الأمر والسّلطنة قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾.
2 - المنظور الفلسفي في تحديد نسبة الكرسي إلى العرش:
الكرسي، العرش، كلها مراتب من علمه تبارك وتعالى، العرش والكرسي إشارة إلى مراتب من علمه عزّ وجلّ، يعني: من مراتب علمه العرش، من مراتب علمه الكرسي، من مراتب علمه العلم الفعلي، كلّ ذلك إشارة إلى مراتب علمه، إنّما كلّ مرتبةٍ من مراتب العلم يعبّر عنها بعنوان معيّن ويعبّر عنها بمقام معيّن، حتى أشرح لك هذا المعنى أنا أمثل لك بمثالٍ حسي ومن خلاله يتّضح لك: إذا افترضنا أنّ إنسانًا عنده شركة أو إنسان ملك دولة، هذا الملك مراتب ملكه وهذا الذي عنده الشّركة مراتب ملكه ثلاث:
المرتبة الأولى: مرتبة الملك الفعلي.
ما هو معنى مرتبة العلم الفعلي؟
يعني: عنده عمّال تشتغل، هؤلاء العمّال الذين يشتغلون بأمره - هذا يحرث، هذا يرزع، هذا يصنع، هذا.. - هؤلاء العمّال، هذا مثلاً ملك دولة، وهذه الحكومة عندها شركات، وهذه الشّركات عندها موظفون، وهؤلاء الموظفون يعملون، كلّ موظفٍ في مقام معيّن، في زاويةٍ معيّنةٍ، في جهةٍ معيّنةٍ، هؤلاء العمّال الذين يعملون يشكّلون مرتبة من مراتب ملكه، وتسمّى هذه المرتبة بمرتبة الملك الفعلي، مرتبة الملك الخارجي، هذه المرتبة ألا وهي مرتبة الملك الفعلي يعبّر عنها الفلسفة بمرتبة تزاحم الإرادات، كيف يعني مرتبة تزاحم الإرادات؟
يعني: هذا العامل يشتغل في هذه الجهة، ربّما يزاحم العاملَ الثاني، والعامل الثاني يزاحم العاملَ الثالث، فيقع التزاحمُ والتنافسُ والتعارضُ بين العمّال الذين يعملون، كلٌ في مكانه لكنّ بعضهم قد يطغى على بعض، بعضهم قد يغلب على البعض الآخر، فمرتبة الملك الفعلي هي مرتبة تزاحم الإرادات وتنافس الإرادات، هذه المرتبة الأولى.
المرتبة الثانية من مراتب ملكه هي: مرتبة الحكومة بين هذه الإرادات.
مَنِ الذي يحكم ويقدّم إرادة على أخرى ويرجّح عاملاً على آخر ويقدّم شركة على أخرى؟ مَنْ؟! هو نفسه هذا الملك، هو نفسه هذا صاحب الشّركة، صاحب الشّركة مِنْ مراتب ملكه الحكومة بين الإرادت، والفصل بين الخصومات، ورفع التّنازع، وتقديم إرادة على أخرى، وتقديم سبب على آخر، هذه من مراتب ملكه: الحكومة والسّلطنة فوق الإرادات كلها، هذه المرتبة الثّانية نعبّر عنها بمرتبة السّلطنة.
عندنا مرتبة الثالثة وهي: مرتبة التّقدير.
هذا لا يدير شركة بدون مخطط، وهذا الملك لا يدير دولة بدون مخطط، لم نسمع بملك يدير دولة بدون مخطط، لا محالة عنده مخطط، هذا المخطط فيه تفاصيلُ شؤون الشّركة، تفاصيل شؤون الدّولة، كلّ شركة، كلّ عامل، كلّ موظف، يرتبط بسلسلةٍ معيّنةٍ من الأنظمة، بسلسلةٍ معيّنةٍ من القوانين، وجميع هذه التسلسلات محفوظة في وعاء لدى هذا الملك، لدى صاحب الشّركة، يسمّى ذلك الوعاءُ وعاءَ التّقدير.
إذن هناك مرتبة الملك الفعلي، هناك مرتبة السّلطنة، هناك مرتبة التّقدير والإحاطة، نحن إذا أردنا أن نعبّر عن هذه المراتب نسمّي المرتبة الأولى: مرتبة الوجود، نسّمي المرتبة الثانية: مرتبة الكرسي، الكرسي هو مرتبة الحكومة والسّلطنة، ونسمّي المرتبة الثالثة - ألا وهي مرتبة التّقدير والإحاطة - بمرتبة العرش، فالعرش مرتبة فوق مرتبة الكرسي، والكرسي مرتبة فوق مرتبة الوجود الخارجي، فهي مراتب ثلاثة للملك، وكلّ مرتبةٍ تسمّى باسم معيّن.
نأتي بالنّسبة إلى الله جلّ جلاله، نقول: هناك مرتبة من مراتب علمه وهي وجودنا نحن، وجودنا المادي بحدودنا الماديّة، هذا العالَم - العالَم المادّي - عالمُ أنواع: إنسان، حيوان، نبات، ملك، جن... عالم أنواع، ونفس الأنواع تنقسم إلى أصناف، الإنسان ينقسم إلى أصناف: إنسان مثلاً إفريقي، إنسان آسيوي، إنسان إنجليزي... وهؤلاء الأصناف تنقسم إلى أفراد، هذا الإنسان الآيسوي ينقسم إلى زيد وبكر وخالد وعمرو و... إلخ، هذه كلها حدود، هذا العالم المادّي بحدوده معلومٌ لدى الله عزّ وجلّ، وعلمه به عزّ وجلّ عين وجوده، علم الله بي هو عين وجودي، يعني الله لا يحتاج أنْ يأخذ عني صورة حتى يعرفني، لا، علمه بي عين وجودي، وجودي عنده هو عين علمه بي وليس شيئًا آخر، فلذلك هذه المرتبة من الوجود المادّي بحدوده، بتفاصيله، تسمّى مرتبة العلم الفعلي، هو يعلم بنا وعلمه بنا عين وجودنا، وهذا ما يسمّى بمرتبة العلم الفعلي.
نأتي إلى مرتبة من علمه أعلى من هذه المرتبة، وهي ما نسمّيها بمرتبة السّلطنة، هو علمٌ، مرتبة من علمه، لكنّ تسمّى بمرتبة السّلطنة، كيف؟
نحن أيضًا نحن الآن موجودون في هذا الكون وجودًا ماديًا، لكن لنا وجودًا قبل هذا الوجود، وجود غير مادّي، وجود غير محدود، كنّا موجودين وجودًا غير محدودٍ، وهنا في عالم المادّة لنا وجودٌ محدودٌ، لماذا؟
الفلاسفة يقولون: المادّة منشأ الحدّ والنّقص والتجرّد منشأ الكمال والإطلاق، يعني أنا الآن منذ أنْ أصبح مادّةً «مادة لها طولٌ وعرضٌ وعمقٌ، مادة تشغل حيزًا من الفارغ» بمجرّد أنْ أصبح مادة لازم يصبح لي حد، المادّة منشأ الحدّ، المادّة مساوقة للحدّ، لا يمكن أن يصبح مادة ما لم يكن له حدٌ، والحدّ منشأ النّقص، هذا الحجر لا يستطيع أنْ يصبح نباتًا، هناك حدٌ صارمٌ يحجب الحجر عن أنْ يتطوّر فيصبح نباتًا، النّبات أيضًا محدودٌ لا يستطيع أنْ يصبح حيوانًا، هناك حدٌ يمنعه أنْ يتحوّل إلى متحرّكٍ بالإرادة، إلى حيوان، الحيوان هناك حدٌ يمنعه أنْ يتحوّل إلى إنسانٍ، لكلّ موجودٍ مادي حدٌ وهو فقدان المرتبة الأعلى، فالمادّة منشأ الحدّ والحدّ منشأ النّقص.
تأتي الآن إلى المجرّد الذي ليس ماديًا، ليس له حدود ماديّة، هذا لا يعرف الحدّ، مادام ليس ماديًا ليس له حدٌ، لأنّ منشأ الحدّ هو المادّة، ولا يعرف النّقص، يكون كمالاً محضًا، فالتّجرّد منشأ الإطلاق - يعني: اللامحدوديّة - ومنشأ الكمال، نحن قبل وجودنا هذا المادّي كنّا في عالم موجودين لكن ليس عندنا هذه الحدود الماديّة، محدودون بعلم الله عزّ وجلّ لا أكثر، ليست لنا هذه الحدود الماديّة وإنّما نحن محدودون بعلم الله، كان لنا وجودٌ ليس ماديًا، لا يعرف الحدّ، لا يعرف النّقص، وذلك الوجود الذي كان لنا هو عين علمه بنا تبارك وتعالى، وذلك العلم هو المسمّى بالكرسي.
لاحظ كيف الإنسان ينزل ويهبط من عالم الكرسي إلى عالم المادّة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، أنت كنتَ في عالم الكرسي، كنتَ في عالم الكرسي وجودًا غير محدودٍ، غير مقدّر، يعني: كنتَ في عالم الكرسي مختزنًا، ثم نُزّلَت إلى عالم المادّة نزولاً محدودًا ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ فعالم الكرسي هو مرتبة من علم الله، وهو العلم بالأشياء من حيث أنّها غير محدودةٍ، من حيث أنّها مجرّدة لا من حيث أنّها محدودة، وبما أنّه عَلِمَ بالأشياء قبل أنْ ينزّلها إلى عالم المادّة، عَلِمَ بها من حيث أنّها مجرّدة، فهذه المرتبة من العلم - وهي علمه بالأشياء من حيث أنّها مجرّدة - تسمّى بالكرسي، وهي مقام السّلطنة ومظهرٌ لسلطنته تبارك وتعالى.
فوق هذه المرتبة من العلم علمه بجميع ما سواه، ليس فقط علمه بالماديّات، ليس فقط علمه بالسّماوات والأرض، لا، لا، بجميع ما سواه، فوق هذه المرتبة - مرتبة الكرسي - علمه بجميع ما سواه تبارك وتعالى، الذي يشمل عالم الجبروت، وهو عالم العقول، وعالم الملكوت، وهو عالم النّفوس، وعالم الملك... وهكذا من العوالم، علمه بجميع ما سواه تبارك وتعالى، وفي هذه المرتبة من العلم مبدأ الأشياء كلّها، يعني الآن مثلاً: هذا الإنسان ينحدر من سبب وهو النطفة، النطفة تنحدر من سبب وهو الأب، الأب ينحدر من سبب... إلى أنْ تنتهي هذه الأسباب الجزئيّة إلى أسباب كليّة، إلى مناشئَ كليّةٍ، جميع هذه السّلسلة من الأسباب والمسبَّبات معلومةٌ في مرتبة علمه الأولى، وتلك المرتبة التي هي العلم بجميع ما سواه تسمّى بالعرش، وهذه المرتبة التي تسمّى بالعرش هي مظهر لمالكيّته تبارك وتعالى وقيوميّته تبارك وتعالى لجميع ما سواه، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، هذا بحسب المنظور الفلسفي.
3 - نأتي الآن إلى المنظور الرّوائي:
ما يستفاد من بعض الرّوايات الشّريفة الواردة عن أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، نأتي الآن إلى هذه الرّواية «رواية جيّدة، نقتصر على روايةٍ واحدةٍ»: في التّوحيد للشّيخ الصّدوق عليه الرّحمة في كتاب التّوحيد عن حنّان بن سدير عن الصّادق عليه السّلام سأله: ما العرش وما الكرسي؟ فأجابه الإمام، قال: ”العرش والكرسي بابان من أبواب الغيوب - بابان من أبواب الغيب - وهما مقرونان بالغيب - يعني: لا ينفكّان، كلٌ منهما ملازمٌ للآخر - وهما مقرونان بالغيب، فالكرسي هو الباب الظاهر من الغيب، منه مطلع الأشياء ومنه البَدْع، والعرش هو الباب الباطن من الغيب، وفيه علم الكيف والقدر والمشيئة وصفة الإرادة والكون“ ما هذا الكلام؟! كلام عظيم، كلام العظماء عظيم الكلام، وأنت تذهب وتدوّخ حالك مع قتادة؟! ماذا قال قتادة وماذا قال الرّازي...؟! أنت اسمع ماذا يقول جعفرُ بن محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله، من أين يتحدّث هؤلاء؟! من أين يخبرون؟!
جاء قتادة إلى الإمام الباقر، قتادة إذا تفتح تفاسير إخوانا أهل السنّة تجد قتادة وقتادة، إذا تدخل الكشّاف للزّمخشري أو تدخل التّفسير الكبير للرّازي قال قتادة وقال قتادة! قتادة دخل على الإمام الباقر عليه السّلام، قال: يا قتادة! بلغني أنّك تفسّر القرآن؟! قال: نعم، قال: ”إنْ كنتَ تفسّره من عندك فقد هلكتَ وأهلكت، وإنْ كنتَ تفسّره من الرّجال فقد هلكتَ وأهلكت، إنّما يعرف القرآنَ مَنْ خوطب به - يعني: النبي محمّدٌ - إنّما يعرف القرآنَ من خوطب به وما هو - يعني: بعد النبي - إلا عند الخاصّة من ذرّية نبينا محمّدٍ ، وما ورّثك اللهُ من كتابه حرفًا“، حديث الثقلين يقول لكم ارجعوا إلى هؤلاء فلماذا أنت تذهب إلى قتادة؟! ”إنّي مخلّفٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوضَ“ وأنت متمسّكٌ بقتادة ومتمسّكٌ ب...؟! هذا مثلما يقول أهلُ الأوّل: ورقة ملزقة بتمر! إذا كان هنالك شيء ملزقٌ بتمر فهل يقف؟! لا يقف، يسقط، هذا هكذا ملزقة بتمر!
الصّادق عليه السّلام منهل العلم، مصدر العلم، يقول: هذا هو الكرسي وهذا هو العرش، ”الكرسي الباب الظاهر من الغيب، منه مطلع الأشياء ومنه البَدْع، والعرش هو الباب الباطن من الغيب، بابان مقرونان“ بمعنى أنّ العرش والكرسي عبارة عن علمه تبارك وتعالى لكنّ علمه له لحاظان: لحاظ بالنّسبة إليه جلّ وعلا، ولحاظ بالنّسبة إلى الوجود، علمه عزّ وجلّ إذا لوحظ بالنّسبة إليه فهو الباب الباطن من الغيب، وإذا لوحظ بالنّسبة إلى عالم الوجود فهو الباب الظاهر، علمه بالنّسبة إليه بابٌ باطنٌ من الغيب لا يعلمه إلا هو، علمه بالنّسبة إلى الوجود حيث إنّ هذا الوجود ينحدر عن علمه، وينبعث عن علمه، فنسبة هذا الوجود إلى علمه يكون العلم هو الباب الظاهر من الغيب، وقد قلنا بأنّ علمه تبارك وتعالى وهو غيب الغيوب ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ علمه تبارك وتعالى ليس علمًا صوريًا، يعني: نتيجة صور، لا، علمه علمٌ حضوريٌ، المعلوم حاضرٌ بنفسه عنده وليس عبر الصّورة ولا بواسطة الصّورة، ونحن الموجودات التي خلقها وبرأها، نحن لنا ثلاث حالات، ليس علمه هو يتغيّر، ليس علمه هو يتبدّل، التّبدّل والتّغيّر والتّحوّل في المعلوم نفسه لا في علمه، علمه عين حضور المعلوم، المعلوم هو يتّصف بثلاث حالات، ما هي الحالات التي نتّصف بها؟ نحن مرننا بثلاث حالات، ما هي هذه الحالات؟
الحالة الأولى: أنّنا كنّا كلنا وجودًا واحدًا يسمّى وجودًا إجماليًا
لا يوجد في ذلك الوجود زيد وعمرو وبكر وإنسان وحيوان... لا، خيط الوجود خيط واحدٌ جامعٌ لشتات الموجودات، فذلك وجودٌ إجماليٌ بسيط لا كثرة فيه ولا تعدّد فيه، كلّ هذه الموجودات كانت مطويّة، كلها كانت مطويّة، الوجود واحدٌ وهو وجودٌ إجماليٌ بسيط لا كثرة فيه، لا تعدّد فيه، جميع الموجودات هكذا، ثم بسط هذا المطويَّ فخرج من اللف إلى النشر، من الطي إلى البسط، من الإجمال إلى التفصيل، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾، ولذلك هذا الوجود الذي نحن نعيش فيه الآن الذي فيه سماء وأرض وشمس وقمر وإنسان وحيوان ونبات وحجر يعاد مرة ثانية، يطوى، يرجع إلى الوجود البسيط الإجمالي، يعاد مرة أخرى ويطوى، أشارت الآياتُ القرآنيّة إلى يوم الطيّ ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ يوم الجمع هذه التفاصيل كلها تُجْمَع في وجودٍ واحدٍ، ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾، إذن كان هذا الوجودُ وجودًا إجماليًا بسيطًا، وعلمه بهذا الوجود عين إفاضته له تبارك وتعالى، وتلك المرتبة من العلم المسمّاة بالعرش، فهي الباب الباطن من الغيب.
ثم هذا الموجود مرّ بحالةٍ ثانيةٍ: صار كثيرًا، بسط الوجود الإجمالي فأصبح وجودًا تفصيليًا لكنّه مازال مجرّدًا من المادّة، وُجِدْنَا نحن في عالم آخر وجودًا تجرّديًا، وُجِدْنَا وجودًا تجرّديًا، وعلمه بنا في ذلك العالم الآخر هو عين إيجادنا وجودًا تجرّديًا، وذلك العالم الآخر هو عالم الكرسي، فهو الباب الظاهر من الغيب.
ثم تنزلنا إلى هذا العالم المادّي: نزلنا بالحدود، بالأقدار، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، هذا الوجود الذي نحن فيه هو عالم المحو والإثبات ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.