ورد في حالات الأنبياء والرسل والأئمة والحجج صلوات الله عليهم حالات قد يستغرب منها الأمم والأقوام نابعة من الجنبة البشرية فيهم بينما يتوقع الناس منهم ان يشاهدوا منهم الجنبة الملائكية الصمدانية حصرا، كما يشير القرآن الى هذه الغفلة [وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ] [وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا] [ذَٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا ۚ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ۚ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ].
وفي احتجاج النبي ص على مشركي قريش: ثم أنزل الله تعالى عليه: يا محمد (قل إنما أنا بشر مثلكم) يعني آكل الطعام (يوحى إلي أنما الهكم إله واحد) يعني قل لهم: أنا في البشرية مثلكم، ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم، كما يخص بعض البشر بالغناء والصحة والجمال دون بعض من البشر، فلا تنكروا أن يخصني أيضا بالنبوة دونكم.
فالكمالات العليا القدسية للروح لا تتنافى مع شؤون البدن الدانية وتداعياته وتوابعه وعلائق النفس به، فاختلاط المعصوم ع في صغره مع الصبيان مثلا وأحوالهم لا يعني افتقاره الى الكمالات مثلهم ولا ينفي وجود النبوة في كمالاته الروحية كما لا ينافي وجود الإمامة فيه، فهذا الحسن والحسين عليهما السلام في صغرهما يشير إليهما المصطفى ص أمام الملأ من المسلمين انهما إمامان قاما او قعدا، واحتج الله تعالى بهما آنذاك في آية المباهلة على أهل الكتاب.
وفي حين يوصف النبي عيسى ع (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) فجمع فيه بين صباوة البشرية وبين نبوة اولي العزم والعلم بالكتاب ، ولا يستلزم ذلك نقص في نبوته ولا خدش في عصمته، وكذلك في شأن يحيى (يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، فجمعت في المعصوم البشرية وشؤونها وتداعياتها ولوازم أحوال مراحلها المختلفة وجمعت فيه القدسية العليا من الكمالات.
ومنه يظهر ان ذهاب المعصوم ع كما ورد في النبي عيسى ع ايضا انه ذهب مع الصبيان الى المكاتب -التعليم- او ما ورد من ملاعبة النبي ص للحسنين ع في الصبى لا يعني افتقاره في العلم الى البشر كسائر الناس، بل هي من التعايش مع مقتضى الطبيعة البشرية كالأكل والشرب والنكاح والنوم وغيرها من لوازم واحوال عموم الطبيعة البشرية او لوازم مرحلة من مراحلها كالصبا او الشيخوخة ولا تضادد بين الطبع البشري والهوية القدسية العرشية كما قد يتخيله الكثير، فاختلاط المعصوم في صباه مع الصبيان الاقران في السن البشري كاختلاط المعصوم ع في بيت الزوجية مع نساء البشر من مقتضيات الطبع البشري لا يتنافى مع الروح القدسية فيه وذهابه للمكاتيب ليس لاجل افتقاره في العلم والادب للمعلم بل للاختلاط ضمن الرسوم البشرية.
ومن ثم ورد ان النبي عيسى ع كان في الصبا يعلم معلمه فيغضب فيلاطفه ليسكن غضبه وكذلك ورد ذلك في شأن الامام الهادي عليه الصلاة والسلام.
تمّ في هذه الآيات بيان مختلف الطرق التي اتّصل الأنبياء الإلهيون عن طريقها بعالم الغيب وما وراء الطبيعة بصورة إجمالية، والتي تبلغ أربعة أو خمسة طرق:
في الآية الاولى اشير إلى ثلاثة طرق، يقول المرحوم الطبرسي في تفسير هذه الآية:
"ليس لأحد من البشر أن يكلّمه اللَّه إلّا أن يوحي إليه وحياً كداود الذي أوحى في صدره الزبور، أو يكلّمه من وراء حجاب مثل موسى أو يرسل رسولًا كجبرائيل إلى محمّد صلى الله عليه و آله ليبلّغه أمرَه".
فهذا الارتباط إنّما يكون أحياناً عن طريق الإلقاء في القلب، واخرى عن طريق الأمواج الصوتية التي يسمعها النبي من الخارج، وثالثة عن طريق نزول الملك الموكّل بالوحي.
أصل "الوحي" الإشارة السريعة، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بالصوت المجرّد عن التركيب اللغوي، وتارةً بالإشارة أو الكتابة.
هذا ما ذكره "الراغب" في "المفردات"، لكن "ابن فارس" في المقاييس" يرى معناه الأصلي إلقاء علم ما بشكل خفي أو علني على شخص آخر.
ذكر ابن منظور أهمّ معاني هذه اللفظة واعتبرها الرسالة والإلهام والكلام من غير معاينة، والإلقاء في الروع، كما ذكر معظم أرباب اللغة هذه المعاني بزيادة أو نقيصة، ولكنّ الخليل بن أحمد ذكر معناه في كتاب (العين) بأنّه الكتابة والتدوين!
أمّا في اصطلاح أهل الشرع فيطلق على إبلاغ الرسائل الإلهيّة من قبل اللَّه إلى الأنبياء عليهم السلام، وإن كانت دائرة استعماله في القرآن أوسع من هذا المعنى كثيراً، وشاملة لكلّ أنواع الإلقاء للعلم المرموز، ولذا استعمل في مورد الغرائز أو العلوم التي استودعت عند بعض الحيوانات كالنحل مثل: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» (النحل/ 68).
ويقول فيما يتعلّق بما ألقاه اللَّه على قلب امّ موسى بالنسبة لولدها: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى» (القصص/ 7).
إذ قد تمّ التعبير عن الإلهام الإلهي لها بالوحي مع عدم كونها نبيّاً قطعاً، كما أنّ يوسف لم يكن في طفولته نبيّاً ومع ذلك يقول القرآن في حقّه: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ (اخوتك) بِأَمْرِهِمْ هَذَا (التخطيط لقتلك)».
واستعملت الأوامر الإلهيّة الغامضة فيما يتعلق بالجمادات كالأرض قوله تعالى: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا» (الزلزال/ 5).
جملة «من وراء حجاب» تعني أنّ اللَّه كان يخاطب نبيّه بأمواج صوتية خاصّة خافية على الآخرين أو أنّ نبيّه كان يسمع الخطاب دون مشاهدة مصدره، بالضبط كالكلام الذي يطرق السمع من وراء الستار.
ودار الحديث في ثاني آية عن نزول ملك الوحي وإتيانه بالقرآن للنبي صلى الله عليه و آله، يقول تعالى:
الملفت للنظر هو أنّ ملك الوحي قد تمّ وصفه بوصفين «الروح» أي عين الحياة و «الأمين» إشارة إلى الأمانة التي هي أهمّ شرط للرسالة والتبليغ.
يستفاد جيّداً من مختلف الآيات والروايات أنّ ملك الوحي المأمور بإبلاغ الرسالة إلى نبي الإسلام كان اسمه جبرائيل، في حين أنّه يظهر من ثالث آية من الآيات مورد البحث، أنّ الملائكة بصيغة الجمع كانوا أحياناً يؤمرون بإبلاغ الوحي الإلهي إلى الأنبياء، يقول تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ».
البشارة التي كان يحملها هذا الفريق من الملائكة هي البشارة بولادة إسماعيل وإسحاق، إذ إنّ إبراهيم عليه السلام كان قد قضى كثيراً من عمره محروماً من الولد مع تمنّيه الذرّية لحمل لوائه.
كما كانت هنالك وظيفة اخرى للملائكة ذكرت في الآيات التي بعدها، إلى جانب وظيفتهم الاولى في إبلاغ إبراهيم بالبشارة الإلهيّة ألا وهي تدمير مدينة قوم لوط وقلبها رأساً على عقب.
هنالك نوع آخر من أنواع الوحي ذكر في رابع آية وهو الرسالة التي كانت تصل إلى النبي عن طريق الرؤيا، وهي "رؤيا صادقة" لا تتفاوت مع حالة اليقظة، يقول تعالى: «قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ».
ونقرأ في الآيات التي بعدها أنّ إبراهيم عليه السلام استعدّ لتنفيذ هذا الأمر، ولا يخفى أنّ هذه الرؤيا لو كانت مثل الرؤيا العادية لما أقدم إبراهيم عليه السلام على ذبح ابنه أبداً وهذا يكشف عن كونها وحياً إلهياً قطعيّاً.
كما يصدق نفس هذا المعنى في حقّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله فيما يتعلّق بالبشارة التي بشّر بها في (الحلم) من دخول المسلمين إلى المسجد الحرام، وأدائهم لمناسك الحجّ بكلّ أمان:
التعبير بـ «صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا» يدلّ بوضوح على كون هذا الحلم حلماً إلهياً أي نوعاً من أنواع الوحي.
في خامس وآخر آية من الآيات مورد البحث تمّت الإشارة إلى إحدى طرق ارتباط الأنبياء بمبدأ عالم الوجود، والتي اشير إليها كناية في أوّل آية أيضاً بالتعبير (من وراء حجاب) يقول تعالى: «فَلَمَّا أَتَاهَا (حينما أتى موسى النار التي رآها بجانب الطور) نُودِىَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».
أجل فلقد سمع موسى عليه السلام كلام اللَّه مباشرة، وطبقاً لبعض الروايات يقول موسى: «لقد سمعت كلام ربّي بجميع جوارحي، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي».
هذا الكلام سمعه موسى عليه السلام من كلّ الجهات وبكافّة جوارحه (لا الاذنين فقط)، ومثل هذا الارتباط على حدّ قول الطبرسي في مجمع البيان يعدّ من أفضل منازل الأنبياء وأرفع أنواع ارتباطهم بمبدأ عالم الوجود.
ولا شكّ أنّ اللَّه لم يكن جسماً وليس له سائر العوارض الجسمانية واللسان والأمواج الصوتية، لكنّه يتمكّن من إيصال مشيئته إلى سمع خواصّ عباده بالأمواج الصوتية التي يوجدها، ولغرض العلم بكونه من كلام اللَّه ينبغي أن يكون محفوفاً بالقرائن لنفي أي احتمال آخر عنه، وهذه القرائن كانت موجودة في قصّة موسى عليه السلام وسائر الأنبياء عليهم السلام.
هذه القرائن يمكنها أن تكون رؤية النار من الشجرة الخضراء أو سماع الصوت من كافّة الجهات، مع الإحساس بكونه صادراً من الشجرة أو سماعه بكلّ أعضاء بدنه، أو على حدّ قول البعض: اتّحاد صوت كلّ الكون بهذا الصوت، أو مضموناً خاصّاً غير ممكن من غير اللَّه، أو قرائن اخرى. يستفاد من سور (طه/ 11)، و (النمل/ 8) أنّ هناك كلاماً آخر أيضاً قيل لموسى عليه السلام في هذه اللحظة إذ نقرأ في سورة طه: «نُودِىَ يَامُوسَى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً».
على أيّة حال فمن مجموع الآيات أعلاه انعكست أشكال مختلفة من ارتباط الأنبياء بمبدأ عالم الوجود.
إنّ عجز الأدلّة العقلية عن حلّ جزئيات هذه المسألة هو ممّا لا يخفى، لانحصار وظيفتها في بيان لزوم إرسال الرسل، وإنزال الكتب المستلزمة لارتباط الأنبياء بعالم الغيب، ومن هنا فينبغي الرجوع إلى الأدلّة النقلية للوقوف على جزئياتها.
وهذا السؤال لا ينشأ إلا مع تعميم إرسال الرسل مكانياً وتوزيع بعث الأنبياء على كامل الكرة الأرضية وبكلمة أوضح، إنّ الواقع التاريخي الذي نجهل معرفته معرفة تفصيلية تامة في هذا الخصوص يجعلنا نفترض حالتين لا تخلو الحقيقة منهما: إمّا أنّ الأنبياء بالفعل لم يظهروا إلا ضمن بقعة جغرافية محددة وهي (الشرق الأوسط)، وإمّا أنّ النبوة عمت كل الأرض وظهر الأنبياء بين كل الأقوام بيد أنّ التأريخ طوى ذكرهم، كما القرآن أيضاً وبناءً عليها ينشأ السؤال: لماذا اهتم القرآن بأنبياء الشرق الأوسط ولم يذكر سواهم؟!
واذن، لا يُسأل عن خلو القرآن عمّا لا وجود له، والمكان ليس عائقاً مثلما لاحظنا، لكن هذا لا يُخرج الحالة الأولى من السؤال، فإذا كانت النبوة في الشرق الأوسط وحسب، كيف إذن نفهم الآيات التي أفادت التعميم، لكل الأقوام؟! وعليه، فثمّة سؤالان وقضيتان في هذا المقال:
الأولى: اهتمام القرآن بأنبياء الشرق الأوسط
سيكون للسؤال وجه في حال أنّ القرآن الكريم صرّح بأنّ من ذكرهم من الرسل هم وحدهم رسل الله ولا رسل سوى الذين ذكرهم، أو على الأقل فيما لو سكت بيد أنّه يفيد بكل صراحة أنّ ثمة رسل موجودون بالفعل ولم يذكرهم »وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا«([1])، وأنّ هؤلاء الأنبياء سواء الذين ذكرهم أو الذين لم يقصصهم قد أرسل كل واحد منهم بلسان قومه: »وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...«([2]).
إنّ إعداد قوائم تتضمن سرد أسماء أولئك الأنبياء فقط، يعني أننا أمام سجلات النفوس، وأمّا إذا أشير لشيء من أحوالهم وقصصهم فالأمر يقتضـي تدوين موسوعات تاريخية، الله وحده يعلم عدد أجزائها وكم مرّة يضاعف عمر الإنسان ليطلع عليها، وفي كلتا الحالتين يخرج الكتاب الكريم عن كونه كتاب هداية ليكون إمّا سجّلاً للنفوس أو كتاباً تاريخياً.
طبعاً إذا أغمضنا النظر عن أوصيائهم، وإلا فحسب العقيدة الإسلامية واستناداً لبعض الأخبار، فإنّ عدد المجموع يقرب من الربع مليون، ولا أقلّ من عشـرات الآلف!
يقول الصدوق (توفي: 381هـ ): "اعتقادنا في عددهم أنّهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، ومائة ألف وصي وأربعة وعشرون ألف وصي، لكل نبي منهم وصي، أوصى إليه بأمر الله تعالى"([3]).
ومن ناحية قرآنية أيضاً، تعدّ كلّ من: اليهودية والمسيحية والإسلام امتداداً تكاملياً لدين واحد، دين إبراهيم الذي ظهر في الشرق (العراق تحديداً)، تكمل المسيحية اليهودية، ويكمل الإسلام ما قبله، وعندها فالسياق المنطقي يقتضـي أن يكون الشرق موضعاً لإرسال الرسل ويأخذوا محل اهتمام القرآن.
كما أنّ تلك البقعة حوت أسبق الحضارات وأكثرها تقدماً منها عرف البشـر الكتابة، وفيها خطّ حمورابي أولى القوانين التي عرفها البشر (مسلّة حمورابي)، وقد قيل عنها: إنّها شرائع نازلة من السماء كما نقل ول ديورانت في قصة الحضارة كما وأشار لـ (فضل مدينة بابل على المدينة الحديثة)([4])، وفيها اكتشفت العجلة، واشتملت أعلى منسوب في الكثافة السكانية من بين سائر بقع الأرض، والحديث طويل في هذا الجانب، لكن المهم هو أنّ ذلك كله أهّل الشرق وأهّله في أن يكون محلاً للاهتمام في هذا الجانب ليكون النافذة والبوابة لسائر أمم الأرض.
وما دامت تخلو سائر بقع الأرض وشعوبها من تأريخ مدون ومكتوب لرسلها كما افترضت الإشكالية، كيف إذن يسوغ للقرآن أن يسرد ويذكّر تلك الأمم والشعوب برسلها وأنبيائها الذين لا تعرف عنهم تلك الأمم شيئاً أصلاً؟!، ألا يكون هذا مدعاة لرمي القرآن بالاختلاق والكذب من قبل تلك الشعوب؟!
بالعودة لتلك الآيات، مثل: »وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً« فثمّ أربع احتمالات لا يخرج الواقع عنها، على ضوء مفردتين متضمنتين فيها: الرسول و، والأمة، كل منهما يحمل افتراضين، وفيما يخصّ المفردة الأولى، فإنّ الآيات المشار إليها لم تتحدث بلسان "النبوة، والنبي"، بل عبّرت بـ "الرسول"، والمعنى المفترض لها أعمّ من المعنى المعهود والمتداول، لكنه محتمل، وهو بمعنى الحجة، ويشمل كل من له ارتباط بالله ويوصل رسائله إلى الناس، أي أنّه الواسطة بين الخلق والخالق وإن لم يكن نبياً، ليس لقمان وحده، فثمّ ذو القرنين المذكور في القرآن، ولا يقطع أحد بمعرفة شخصه حتى اليوم، قيل هو الاسكندر ملك مقدونيا الأغريقي المعروف وقيل هو (تبّع)أحد ملوك اليمن وذهب آخر إلى أنّه (كورش الكبير) أول ملوك الفرس، لكن لقمان مثال جيد، فقد عرف عنه في التأريخ وبين الناس بالحكيم، والقرآن أيضاً، »وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ«([5])، وهكذا كما انقلب قول المعترض: بدلاً عن الأنبياء ظهر في اوروبا الفلاسفة العظماء، من امثال ارسطو و افلاطون و سقراط، ينقلب الآن وهنا قوله: ظهر فى الصين الحكيم كبديل للنبى.
وفيما يخص المفردة الثانية، في معناها احتمالان متصوران: أحدهما يأخذ الوحدة الزمنية كرابطة بين أعضاء أفرادها، وفي الآخر تؤخذ اعتبارات أخرى كاللغة أو القومية أو الدين وهكذا، ولا نود الإسهاب في هذه الجانب، وكل الذي نود قوله هنا هو الآتي:
على جميع الاحتمالات الأربعة المتصورة لا يترتب أيّ محذور ولا يلزم الإشكال، فلا بعد المسافة والمكان يعيق الغرض من إرسال الهداة من أنبياء ومرسلين وحجج وأولياء، ولا تواجد الحجة بشخصه ضروري لبلوغ هدفه، تصل الهداية للناس أو يصلوا إليها، وتبلغ الرسالة كل العالم مع ما بين الهادي والمهدي من بعد، والواقع الراهن و التأريخي شاهد، يظهر المسيح عيسى ابن مريم ومعه تلامذته ورسله في الشرق الأوسط وتحديداً في فلسطين من بلاد الشام ذات الأغلبية المسلمة اليوم، لكن أوربا التي لم تطأها قدماه تدين بالمسيحية! وذات الكلام في رسول الإسلام محمد بعده، ولو كان عذر المكان والحضور الشخصي صحيحاً لم تكن اليمن والعراق وايران واندنوسيا ووالخ بلدانا اسلامية، ولن تنتهي القصة لو كان لكل قارة رسول ففي كل بقعة وبلد داخل القارة الواحدة يمكن أن يقال كما قيل في سائر القارات والامكنة، وتصل السذاجة لاعتراض الحي المجاور لحي الرسول، وما يدرينا ربما المنزل المجاور!
يعترف (دوكينز) باندهاشه من الجهل العام بالكتاب المقدس في العقود الأخيرة؛ إذ يورد استطلاعاً للرأي تمّ سنة: 1954م، وجد بأنّ ثلاثة أرباع المسيحيين لم يستطيعوا تسمية نبي واحد من العهد القديم، هذا في الولايات المتحدة الأكثر تديناً من البلاد الأخرى، كما يقول دوكينز([6]).
وأكثر الناس في الشـرق الأوسط لا يعرفون إمامهم، وقرآنهم بين أيديهم يتلونه ويتلى عليهم في كل مكان وزمان ولأكثر من ألف عام، وهو يقول: »يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ«([7])، وأهمّ من ذلك قوله بصيغة المضارع المستمر: »تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ«([8])، ولا يعرفون على من تتنزل اليوم؟! هذا بحد ذاته يضعك أمامك بذرة جواب متكامل إياً يكن انتماؤك وأينما كنت، احتمل صدقيته على الأقل، هذه تنهيدة وجدتْ لنفسها محلاً، على ألا تنسينا القاعدة التي يرسيها القرآن: لا عذاب ولا مسائلة إلا مع قيام الحجة: »وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا« ([9])، و»لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا«([10]).
ونتيجة ذلك كله، أنّ بعث الأنبياء في مكان محدد غير عائق من بلوغ دعوتهم لسائر الأمم، ويحدث أن يصدق العكس، فمغنية الحي لا تطرب، كما يقول المثل، وقوله لا يقاس، ومن محاسن الصدف أن ثمة مثل في ذات الموضوع بالخصوص، يقول المثل: لا كرامة لنبي في وطنه ([11])، وللشاعر أيضاً بيت:
لا عيب لي غير أنّي من ديارهم
وزامر الحي لا تشجي مزامره
([1]) النساء: 164.
([2]) إبراهيم: 4.
([3]) الصدوق – الاعتقادات، ص92، تحقيق : عصام عبد السيد، مركز الأبحاث العقائدية (186).
([4]) ديورانت - قصة الحضارة، ج2 ص187، مصدر سابق.
([5]) لقمان: 12.
([6]) دوكينز - وهم الإله، ص347.
([7]) الإسراء : 71.
([8]) القدر : 4.
([9]) الإسراء: 15.
([10]) الطلاق: 7.
([11]) جاء أيضاً في الكتاب المقدس : [لأنّ يسوع نفسه شهد ان ليس لنبي كرامة في وطنه] إنجيل يوحنا : 4: 44.
هل يوجد أنبياء في غير الشـرق الأوسط؟ أو هل ذكر التاريخ شيئاً عن الأنبياء السابقين؟، بدلاً من صياغته السالفة: لماذا لا يوجد أنبياء؟! ومن جميل ما قيل: عدم الإيجاد لا يدل على عدم الوجود، وهذه الملاحظة تحوّل الإشكال إلى سؤال، ومع هذا التصحيح، فجوابه في نقاطٍ ثلاث:
1ـ أديان شفهية وتاريخ غير مكتوبة
إنّ أقدم تاريخ لاكتشاف التدوين، يعود للسومريين في حضارة وادي الرافدين، ويعتبر علماء التاريخ " اختراع الكتابة " هو ما يفصل بين عصور ما قبل التاريخ، والعصور التاريخية التي ظهرت فيها حضارات الانسان الكبرى، وهذا واضح ومعلوم، لكن السؤال هنا: ماذا عمّا قبل التاريخ؟! أعني تلك الفترة التي تبدأ من قبل نصف مليون سنة، وتنتهي إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد؟! وهي فترة قد استغرقت أكثر من (99%) من حياة الإنسان الواعية، ولا تبدو الخمسة آلاف سنة التي تلتها ـ مع غزارتها العقائدية ـ إلا وهلة صغيرة([1]) هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ كل الأديان التاريخية التي نعرفها لا يتجاوز عمرها الأربعة آلاف سنة، وهي فترة لا تساوي شيئاً مقارنة بثلاثة ملايين سنة عاشتها الأديان التي سبقتها، ولم يكن أتباع تلك الأديان القبلية والبدائية يعرفون القراءة والكتابة.
من أجل هذا يدعوها بعض الدارسين للأديان وتاريخها بـ(الأديان الشفهية)؛ إذ يعتبر المشافهة إحدى خصائص الأديان البدائية، وعلى ضوء ذلك يدرس التجربة الاسترالية وسكانها الأصليين، وكيف أنّ زعماء تلك الأديان حتى عندما وصلتهم الكتابة والقراءة ظلوا يحافظون على معتقداتهم من انتهاكات الكتابة والقراءة([2]).
كما أنّ المعروف عن عالم الأنتربولوجيا ويلهلم شميدت(توفي:1954م) في دراسته لقبائل أقدم الأجناس البشرية ( الأقزام ) وتوصل إلى أنّها كانت تؤمن بإله خالق متعال، يعمل في الكون من خلال مندوبيه أو نوّابه([3])، وهنا ينشأ سؤالٌ آخر: كيف سنعرف هوية اولئك المندوبين وتحديد حقيقة هويتهم وحال المؤرخين هو الاهتمام بتدوين تأريخ الأقوياء، الأمراء و الملوك والسلاطين وحروبهم وبطولاتهم وأسرهم وما يدور في هذا الفلك حتى قيل: التاريخ يكتبه الأقوياء المنتصرون؟!
على أنّ كُتّاب التاريخ لا يختلفون غالباً عن بيئتهم ومجتمعهم بل هم ـ في الغالب ـ انعكاس لرؤية العقل الجمعي، فماذا كان موقف معظم الناس من الأنبياء والرسل؟! «فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا»([4])، و«كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ»([5]).
2ـ نور الحكمة من مشكاة النبوة
تركن طائفة لا بأس بها من العلماء إلى نبوة شخصيات خارج الشرق الأوسط لم تعتد البشرية على وصفها بغير الحكمة، أعني فلاسفة اليونان من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وهلم جراً، فيما يلي بعض من أولئك:
أولاً: الشريف المرتضى (توفي: 436هـ).
قال السيد رضي الدين ابن طاووس (توفي: 664هـ ): ووجدت في كتاب "ريحان المجالس" وتحفة الموانس تأليف أحمد بن الحسين بن علي الرخجي وسمعت من يذكر أنه من مصنفي الإمامية وعندنا الآن تصنيف له آخر اسمه "أنس الكريم " وقد كان يروي عن المرتضى ما هذا لفظه:
حدثني أبو الحسن الهيثم أن الحكماء العلماء الذين أجمع الخاصة والعامة على معرفتهم وحسن أفهامهم ولو يتطرق الطعن عليهم في علومهم مثل هرمس المثلث بالحكمة وهو إدريس النبي عليه السلام، ومعنى المثلث، أنّ الله أعطاه علم النجوم والطب والكيمياء ومثل: (أبرخسـي وبطليموس) ويقال: إنّهما كانا من بعض الأنبياء وأكثر الحكماء كذلك، وإنما التبس على الناس أمرهم؛ لعلة أسمائهم باليوناينة ومثل نظرائهم ممن صدر عنهم العلم والحكمة المفضلين([6]).
ثانياً: صدر الدين الشيرازي (توفي: 1050هـ).
قال عن بعض حكماء اليونان: "كانوا مقتبسين نور الحكمة من مشكاة النبوة و لاخلاف لأحد منهم في أصول المعارف، و كلام هؤلاء في الفلسفة يدور على وحدانية الباري و إحاطة علمه بالأشياء كيف هو و كيفية صدور الموجودات و تكوين العالم عنه وأنّ المبادي الأول ما هي وكم هي وأن المعاد ما هو وكيف هو و بقاء النفس يوم القيمة" ([7]).
ثالثاً: قطب الدين الأشكوري الديلمي اللاهيجي (توفي: نهاية القرن الحادي عشر).
وكتابه: (محبوب القلوب) مليءٌ بما يمكن الاستشهاد به على رأيه وشواهده عليه في المسألة، سنركز على بعدين بشكل بسريع وموجز:
أـ المطابقة بين مقولاتهم الفلسفية، وبين النصوص الدينية:
كتب الديلمي نقلاً عن فيثاغورس عن الله: أنّ وحدته عددية، وأنّه تعالى لا يدرك من جهة العقل ولا من جهة النفس... وإنّما يدرك بآثاره، وأنّ من أحب الله عمل بمحابّه، يقارن الديلمي كل ذلك بما ورد عن أهل البيت، فعن الصحيفة السجادية: لك يا إلهي وحدانية العدد، وعن الباقرعليه السلام: كلّما ميزمتوه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود عليكم، وبما ورد أيضاً: ما أحب الله من عصاه:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعتَه
إنّ المحب لمـن أحـب مطـيع
وما في القرآن: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ»([8]).
ب ـ نقل رواية: أرسطو نبي جهله قومه:
وأشار صاحب (محبوب القلوب) أيضاً إلى أنّ أعظم الفلاسفة عند اليونانيين طبقة وقدراً خمسة: أنباذقلس، وفيثاغورس وسقراط، وأفلاطون، وأرسطوطاليس.
وانفرد برواية نقلها تقول: إنّ عمرو بن العاص قدم من الإسكندرية على رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله عما رأى؟
فقال: رأيت قوما يتطلّسون ويجتمعون حلقا ويذكرون رجلا يقال له أرسطو طاليس، لعنه الله، فقال 2: مه يا عمرو! إنّ أرسطو طاليس كان نبيا فجهله قومه([9]).
رابعاً: حسن زاده الآملي: وهو من المعاصرين.
بعد أن نقل مقطعاً مروياً عن الإمام الصادق عليه السلام جاء فيه: "وقد كان أرسطوطاليس ردّ عليهم فقال: إنّ الذي يكون بالعرض والاتفاق إنّما هو شيءٌ في الفرط مرةً مرةً، لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها وليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا".
يعلّق الآملي: تبجيل الإمام عليه السلام أرسطوطاليس بما نطق فيه من لسان العصمة، حجةٌ على المتقشفين، الذين ليس لهم إلا إزراء العلم وذويه، بما أوهم فيهم نفوسهم الأمارة بالسوء والإيذاء، فهؤلاء بمعزل عن سبيل الولاية، وإلّا فهذا وليّ الله الأعظم، يبجّل العلم والعالم.
وكفى بأرسطوطاليس فخراً أنّ حجة الله على خلقه نطق باسمه تبجيلاً، وارتضى سيرته السنية المضيئة بأنه كان يسلك الناس إلى بارئهم من طريق وحدة الصنع والتدبير، ويوقظ عقولهم بأن الاتفاقي لا يكون جاريا دائما متتابعا وما هو سنة دائمة لا تبدل ولا تحول فهو تحت تدبير الملكوت، فكأن الأصل ما هو قبل الطبيعة وفوقها وبعدها.. "ونقل الآملي أيضاً كلام الديلمي في محبوب القلوب المارّ آنفاً دون تعليق([10]).
خامساً: ومن علماء السنة، مفتي طرابلس نديم الجسر(توفي: 1980م) في كتابه: (قصة الإيمان)، ولم يقتصـر على الأغريق، فقد رجّح كون الكثير من فلسفة الأقدمين في مصر والصين والهند هي بقايا نبوات نسيها التاريخ فحُشـر أصحابها في عداد الفلاسفة، ولعلهم من الرسل أو أتباع الرسل([11]).
وهكذا احتملت نبوة بوذا، وزرادشت أيضاً، وبالفعل يعتقد الزرادشتيون (المجوس) من أتباعه نبوته، فقد نقلتْ المرويات الفارسية نبوته وإيمانه بأهورا- مزدا (رب النور) الإله الأعظم ([12])، وهذا وارد في كوفوشيوس في الصين، و كرشنا في الهند.
وفي الطاوية (الدين الصيني الآخر التي نشأتْ مع شخصية غامضة لا يعرف حتى اسمه الحقيقي (لاو تسو)، وكتابها المقدس (طاو تي تشينغ) حقائق ملفتة جداً يمكن مراجعتها في كتب دراسة الأديان مثل: أديان العالم([13]).
ومؤخراً نشر موقع (بك ثنك) مقالاً بعنوان: البوذية: فلسفة أم دين؟
وقد جاء فيه:
"تتشابه البوذية مع الديانات الأخرى بناحية الميتافيزيقيا، ويعتبر (الابهيدارماكوسا) أحد أهم النصوص البوذية الميتافيزيقية، والتي تتضمن حديثاً مباشراً بين بوذا والآلهة"([14]).
وعلى أيّ حالٍ، من ناحية واقعية ليس بوسع أحد، القطع بعدم ارتباط تلك الأسماء بالوحي، مباشرة أو بالواسطة، واتصالهم بنبي أو ولي، وأنّى لنا القطع بعدم نبوتهم والحال أنّ نبوة النبي لا تتطلب بالضـرورة ادّعاء الإتصال بالوحي وإشهار نبوته في الناس، ما دام الغرض من بعثته متحققاً، فيدعو قومه للهداية، ويأمرهم بعبادة الله تعالى وحده، ويؤدي دوره الذي من أجله بُعث كاملاً من غير أن يعلن نبوته وإتصاله بالله عبر قناة الوحي؟!
ولايزال هناك بعض المؤشرات على صحة قول أولئك الأعلام منها مثلاً معبد أبولو في دلفي من أقدم المعابد الدينية في اليونان القديمة، يذكر أنّه كان مركزاً لنبي الوحي أبولو([15]).
3ـ من جهة أخرى أهمّ وبعيداً عن كل ذلك، فحتى لو صحّ أنّ الواقع يخلو من أنبياء في تلك البقاع، وأنّ الحقيقة المطلقة تقول: إنّ الأنبياء لم يظهروا إلا في مكان واحد، فلا نرى فيه أي وجهٍ للإنكار؛ ذلك أنّ ظهورهم في مكان معين لا يعني أنّهم لم يبعثوا إلا له، فالأنبياء بعثوا في مكان محدد، لا أنّهم بعثوا لمكان محدد، أو قل: خصّ الله الأنبياء بالشرق، ولم يخصّ الشرق بالأنبياء.
بكلمة أخرى أكثر وضوحاً: الإشكالية نتجت عن خطأ بيّن تمثّل في ربط تأثير الدين بمحيطه المكاني الذي ظهر فيه، لكنّها فكرة لكنها منقوضة بما لا يحصـى من الأمثلة والشواهد، يمكنك أن تضع هنا: الخالدون المئة، الذين وضعهم مايكل هارت في كتابه([16])، كان سقراط يقول: أنا لستُ أثينياً ولا يونانياً، أنا مواطن عالمي أو كوني .وفي الدين: خذ مثلاً الغرب الذي ارتبط اسمه بالمسيحية لاحقاً، ولا علاقة له لا بظهورها ولا بولادة نبيها، حقاً: الدين لا وطن له، لكن لا تجدُ وطناً بلا دين، بالنهاية يبقى الإنسان محدوداً في كل شيء، و في وقوفه لابد له من أرض محددة يقف عليها وينطلق منها، لا نطيل أكثر فلنا عودة .
الهوامش:
([1]) الماجدي – أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ ص10، دار الشروق، الإصدار الأول: 1997م .
([2]) هوستن سميث - أديان العالم، ص536 .
([3])المصدر السابق، ص555.
([4]) الإسراء: 89.
([5]) الذاريات: 52.
([6]) ابن طاووس - فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم، ص 151، دار الذخائر – قم .
([7]) صدر الدين الشيرازي - الأسفار الأربعة، ج 5، ص207
([8]) آل عمران: 31.
([9]) قطب الدين اللاهيجي - محبوب القلوب، المقالة الأولى: في أحوال الحكماء وأقوالهم من آدم إلى بداية الإسلام، ص281 وص 117، تقديم وتحقيق: د. ابراهيم الديباجي، و د.حامد صدقي، نشر: مرآة التراث، الطبعة الأولى: 1999م .
([10]) حسن زاده الآملي – هامش (2) من كتاب: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، للحلي، ص202.
([11]) نديم الجسر- قصة الإيمان: بين الفلسفة والعلم والقرآن . ص 36، توزيع: دار الطليعة، الطبعة الثالثة: 1969م .
([12])قصة الحضارة ج2 ص424 .
([13]) هوستن سميث – أديان العالم ص300 .
([14]) ترجم المقال للعربية بواسطة: المشـروع العراقي للترجمة: www.iqtp.org/?p=15250 .
( ([15]محاورات أفلاطون – أسماء الأماكن ص213 .
([16])عنوان الكتاب: المائة - ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ، لعالم الفيزياء الأمريكي المعاصر: مايكل هارت، ترجم الكتاب للعربية أنيس منصور بعنوان: الخالدون مئة أعظمهم محمد، لأنّ هارت وضع أسم النبي أولاً .
انطلاقا من الآية المباركة نتحدث عن نقطة محورية، وهي مسألة الإعجاز، ما هي الحكمة والهدف من الاعجاز؟
دليل النبوة
نحن نعرف ان النبوة حدث غير طبيعي لأن النبوة عبارة عن اتصال قلب النبي بعالم الغيب، واتصالُ المادي بعالم مجرد عن المادة حدثٌ غير طبيعي، اتصال المحدود باللامحدود حدث غير طبيعي واتصال عالم الملك (الذي هو عالم المادة) بعالم الملكوت (الذي هو عالم وراء المادة) حدث غير طبيعي، فبما أن النبوة هي أمر غير طبيعي لذلك كان الدليل والبرهان على ثبوت النبوة أمرا غير طبيعي ألا وهو الإعجاز، لكي يحصل تناسب وانسجام بين الدليل والنتيجة، فالنتيجة التي نريد أن نثبتها هي النبوة وهي أمر غير طبيعي.
إذن بما أن النتيجة التي نريد أن نتوصل اليها أمر غير طبيعي لذلك اقتضت الحكمة أن يكون الدليل والبرهان الموصل الى ثبوت النبوة هو امر غير طبيعي ألا وهو الإعجاز لكي يحصل تناسخ وانسجام بين النتيجة والدليل، وحديثنا هنا عن الإعجاز في محاور ثلاثة:
ما هي حقيقة الإعجاز؟
وهل يتنافى الإعجاز مع الميزان العلمي؟
وهل يتنافى الإعجاز مع المنطق القرآني؟
المحور الأول: ما هي حقيقة الإعجاز؟
من أجل أن نتعرف على حقيقة الإعجاز نذكر أربعة عناصر:
العنصر الأول:
هل أن الاعجاز هدم لقانون السنخية بين المُسبب والسبب؟ نحن لدينا قانون عقلي أن لكل مسبب سببا من سنخه فالبيضة تنتج فرخا ولا تنتج تفاحة، وبذرة الشجرة نتنج ثمرة ولا تنتج حيوانا، والنطفة المنوية تنتج انسانا ولا تنتج تفاحة، فلكل مُسبب سبب من سنخه، هذا القانون العقلي هل أن الاعجاز ضرب لهذا القانون العقلي؟ هل أن الاعجاز خارق للعادة من دون سبب من سنخه أم لا؟
قد يقول قائل نعم لأن قدرة الله مطلقة فبما أن الله قادر على كل شيء إذن هو قادر على أن يضرب هذا القانون وهو أن لكل مسبب سبب من سنخه، باعتبار أن هذه القوانين أبدعها الله فبما أنه هو الذي أبدعها فهو القادر على خرقها وهدمها، وعلى هذا تكون المعجزة هي ضرب لقانون السنخية من قبل الله تعالى بمقتضى قدرته، ولكننا لا نؤيد هذه الفكرة ، نحن نقول أن الله قادر على كل شيء وأما ما ليس بشيء فلا تتعلق به القدرة ، أي ان كل أمر ممكن أن يتحقق فهو شيء تتعلق به القدرة الالهية وأما الأمر الذي يستحيل تحققه فهذا ليس بشيء حتى تتعلق به القدرة الالهية، فمثلا القانون الرياضي اثنان زائد اثنان يساوي أربعة ، زوايا المثلث تساوي قائمتين فهذا القانون الرياضي لا يمكن أن نقول الله قادر على هدمه، يمكن أن يجعل الله الاثنين ثلاثة او يمكن ان يجعل زوايا المثلث تساوي قائمة واحدة فهذا امر غير ممكن، تساوي زوايا المثلث مع قائمة أمر مستحيل في نفسه فانه ليس بشيء حتى تتعلق به القدرة الالهية كذلك عندما نأتي الى النقيضين فهما لا يجتمعان فلو قال شخص أن الله قادر على كل شيء فإذن هو قادر على جمع النقيضين مثل جعل الانسان موجودا وغير موجود في آن واحد، نقول لا يمكن هذا، لا لعجز فيه تعالى بل لأن اجتماع النقيضين ليس بشيء لأنه أمر مستحيل في نفسه، ولذلك جاء في توحيد الصدوق حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله ، عن عمه محمد بن أبي القاسم، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبي أيوب المدني عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قيل لأمير المؤمنين عليه السلام : هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟
قال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون. ([2])
أي هذه المسألة التي سألت عنها أمر مستحيل في نفسه فليس بشيء حتى تتعلق به القدرة الالهية، فلا يمكن أن يكون الظرف أصغر من المظروف فهي مسألة مستحيلة عقلا.
إذن لا يمكن أن تكون المعجزة ضربا لقانون السنخية، لأنه قانون عقلي ومن المستحيل أن يكون المُسبَب ناشئ عن سبب من غير سنخه كما أنه من المستحيل أن يوجد المسبب بلا سبب يستحيل ان يوجد المسبب بلا سبب من سنخه، فالمعجزة ليست ضربا لقانون السنخية لأنه أمر محال في نفسه لا أن قدرة الله عاجزة عنه.
العنصر الثاني:
القوانين إما رياضية او عقلية او طبيعية. فالقانون الرياضي يستحيل تخلفه، فاذا ضربنا 4 × 4 = 16 فهذا يستحيل تخلفه، زوايا المثلث تساوي قائمتين يستحيل تخلفها.
والقانون العقلي أيضا يستحيل تخلفه، فالنقيضان لا يجتمعان والكل أكبر من الجزء فلا يمكن ان يكون الجزء اكبر من الكل، وكذا الظرف لا يمكن ان يكون اصغر من المظروف، فهذه قوانين عقلية لا يمكن تخلفها.
أما القانون الطبيعي وهو الذي أثبتناه بالتجربة مثل: كل ماء اذا بلغت درجة حرارته مائة فانه يغلي، هل يمكن تخلف هذا القانون الطبيعي؟ الجواب نعم يمكن .
ممكن في بعض المرتفعات البعيدة عن سطح البحر ان تبلغ درجة حرارة الماء مائة ولكنه لا يغلي. فالقانون الطبيعي يمكن ان يتخلف لأن اثباته عن طريق الاستقراء التجريبي والاستقراء ممكن ان يتخلف في بعض الافراد، ففي المثال أعلاه لو قمنا باستقراء مليار فرد من الماء فوجدناه يغلي بدرجة الحرارة المئوية ولكن لم نستقرأ كل ماء على وجه الأرض وفي كل حال وفي كل ظرف، فبما أن الدليل القائم عليه القانون هو الاستقراء وهو قابل للاستثناء إذن القانون الطبيعي المستفاد من الاستقراء التجريبي يمكن أن تكون له استثناءات.
العنصر الثالث:
القانون الطبيعي على قسمين:
قانون واقعي لا يمكن ان يتخلف
قانون ظاهري بمعنى اننا اكتشفنا هذا القانون من خلال الاستقراء والتجربة ولكن لعل في اكتشافنا خللا، ليس الخلل في ذات القانون بل في اكتشافنا له ولذا نسميه قانونا ظاهريا، لعل اكتشافنا للقانون عن طريق الاستقراء التجريبي غير استيعابي لذلك نرى استثناءات لهذا القانون، ومن هنا نقول: القانون الطبيعي قد يكون ثابتا لا يتخلف، وقد يكون هناك قانون اكتشفناه بالتجربة ثم ثبت لنا أنه ليس عاما فهو ليس قانونا واقعيا انما هو قانون ظاهري، أي اننا اثبتناه بالتجربة، ومثال ذلك: ولادة الانثى هل يمكن ان يحصل بدون نطفة منوية من أب؟ فلو مشينا على القانون الظاهري المعتاد نقول: منذ قرون أن الاستقراء أثبت أن الأنثى من الحيوان تحتاج الى بويضة ملقحة من ذكر وأنثى هذا هو القانون، ولكن العلماء اليوم اكتشفوا من خلال نعجة دولي في اسكوتلندا عام 1994 أن الحيوان الأنثى يمكن ان يُتخلق من خلية الأنثى بلا حاجة الى حيوان منوي من الأب.
إذن ما كنا نراه بالأمس قانونا طبيعيا لا يتخلف اكتشفنا أنه ليس قانونا ثابتا عاما لا يتخلف، من هنا فالقانون الطبيعي قد يكون واقعيا لا يتخلف وقد يكون ظاهريا يتخلف وسبب تخلفه أننا اكتشفناه بالتجربة وهي قد تتخلف.
العنصر الرابع:
إن حقيقة المعجزة ليست ضربا لقانون رياضي ولا ضربا لقانون عقلي ولا ضربا لقانون طبيعي واقعي ثابت وانما هي تحكيم قانون على قانون آخر.
مثلا: يوجد في الغرب نظام وهو كل مؤسسة ربحية عليها ضرائب وهو قانون، ولكن هناك قانون آخر وهو أن المؤسسة إذا كانت خيرية تعفى من الضرائب، فمن يؤسس مركزا ويحوله الى مؤسسة خيرية فهو لم يضرب القانون الأول وإنما حكمنا القانون الثاني على الأول، كذلك في القضايا الطبيعية يوجد تحكيم قانون على آخر، هناك في بعض البقاع في روسيا ليست فيها جاذبية بمعنى أنك تأخذ قارورة الماء تلقيها على هذه البقعة فلا تسقط القارورة في البقعة بل تطير في الهواء او ترجع اليك مرة أخرى، لماذا؟ مع أن قانون الجاذبية ثابت! ما هو السر في ذلك هو حكومة قانون على قانون، فنحن نعرف أن في الكون قوة جاذبية وقوة مضادة، ولولا قوة الجاذبية لتبعثر الكون كله الى أشلاء، ولولا القوة المضادة للجاذبية لالتطم الكون كله بعضه ببعض وتحطم، إذن شاءت ارادة الله أن توجد قوة جاذبية وقوة مضادة لها حتى تحفظ توازن الكون، قال تعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[3]، فعندنا قوة جاذبية وقوة مضادة لها.
في بعض المناطق في الأرض نتيجة بعض الصفات الجيلوجية تكون قوة الجاذبية محكومة بالقوة المضادة لها بشكل أقوى، أي في هذه البقعة من روسيا توجد قوة الجاذبية وهي قانون، ولكن قانون الجاذبية فيها محكوم بقانون أقوى منه وهو القوة المضادة لها لعوامل جيلوجية، إذن هناك تحكيم قانون على قانون.
فالمعجزة إذا قمنا بتحليلها نجدها عبارة عن تحكيم قانون على قانون، فمثلا - من باب التفسير التخميني لأننا لا نعلم بالواقع - معجزة ابراهيم الخليل (عليه السلام) فلقد وضع في النار اللاهبة لكنه لم يحترق فيها (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[4]، فما الذي حصل؟ هنا حصل حكومة قانون على قانون، فالقانون الأول يقول الجسم المتصل بالنار يحترق لأن الحرارة الكامنة في النار تنفذ الى الجسم المتصل بها وهو قانون طبيعي ثابت، ولكن هناك قانون حكم عليه وهو أن ابراهيم عليه السلام لبس قميصا ذلك القميص يتضمن مادة عازلة منعت وصول الحرارة الحارقة الى جسم ابراهيم ع ، قد تكون المعجزة من هذا القبيل حكومة قانون طبيعي على آخر طبيعي، أو لا المسألة ترجع الى تفريغ المادة لأن لدينا بالفيزياء الثابت الكوني وهو عبارة عن أن كل متر مربع من هذا الكون الذي نعيش فيه يتضمن مادة، فلا توجد منطقة فراغ لا مادة فيها ولا طاقة فهذا غير موجود فكل متر مكعب يتضمن مادة، ونتيجة وجود المادة يقع التواصل بين الاجسام فلو قمنا بتفريغ الفضاء الوهمي من المادة لن تتواصل الأجسام، وهذا التفريغ أمر ليس مستحيلا ولكنه غير معتاد ولا مألوف، ولعل المسألة هكذا بأن الفضاء الوهمي المحيط بإبراهيم ع قد فُرغ من المادة ولما أفرغ من المادة شكل هذا الفراغ عازلا وحينها لم تنفذ الحرارة من النار الى جسم ابراهيم ع لأن النفوذ يحتاج الى مادة واصلة ولا توجد مادة واصلة، فلعل المعجزة من هذا القبيل، والذي نريد قوله ان الاعجاز هو حكومة قانون على قانون، ولماذا نصر على هذا؟ لأنه لو كان الاعجاز هو عبارة عن هدم قانون من دون استناد هذا الأمر الخارق غير الطبيعي الى قانون آخر فمعناه أن المسبب حدث من دون سبب من سنخه، لأنكم اذا قلتم انه لم يحترق جسم ابراهيم بالنار فهو أمر غير طبيعي وهذا الأمر غير الطبيعي – أي عدم احتراق جسم ابراهيم ع – هدَمَ قانونا طبيعيا من دون ان يستند الى قانون طبيعي وهو معناه أن المسبب حدث من دون سبب من سنخه وقد قلنا بأن قانون السنخية هو قانون عقلي وهو ثابت لا يتخلف، فاذا كان هذا القانون غير قابل للتخلف فالنتيجة أن المعجزة هي: تحكيم قانون على قانون آخر، لأن لكل مسبب سببا من سنخه، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[5]، أي ربط كل مُسبب بسبب من سنخه وقال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)[6]، والقدر المعلوم هو ربط الأسباب بمسببات من سنخها، وهذه حقيقة المعجزة.[7]
المحور الثاني: هل المعجزة تتنافى مع الميزان العلمي؟
في هذا المحور نتحدث عن ما ذكره ديفيد هيوم في كتابه مبحث عن الفهم البشري الذي ذكر فيه عدة اعتراضات حول المعجزة، ونحن نذكر هنا أهم اعتراضين :
الاعتراض الأول: المعجزة خرق للقانون الطبيعي!
وهذا امر غير معقول، لماذا؟ لأن من صفات القانون الطبيعي أنه مطرد فاذا كان كذلك وخرقته المعجزة لم يكن مطردا، إذن كيف نصدق بالمعجزة مع تصديقنا بأن القانون الطبيعي مطرد، لا يجتمع الأمران.
إذا صدقنا بأن القانون الطبيعي مطرد - كما هو كذلك – إذن لا يمكن لنا أن نصدق أن هناك معجزة لأن المعجزة هي عبارة عن ضرب الاطراد فكيف يجتمع هذا مع تصديقنا أن القانون الطبيعي مطرد ، هذا هو الاعتراض الذي ذكره هيوم.
وللجواب على هذا الاعتراض نقول:
أولا: نحن بحثنا في المحور الأول عن أن الاعجاز ليس خرقا للقانون الطبيعي الثابت، إنما هو تحكيم قانون على قانون وهذا الاشكال الذي يبتني على نقطة خرق القانون الطبيعي ، نقول: لا هناك قانون طبيعي مطرد وآخر مطرد وقد حكم الثاني على الأول لأقوائيته عليه، وقد مثلنا لذلك بالأمثلة.
ثانيا: من أين ثبت لنا بأن هذا القانون الطبيعي مطرد؟ أليس بالاستقراء والتجربة؟ وهنا رجعنا الى النقطة التي ذكرناها سابقا وهي ان هناك قانونا واقعيا وقانونا ظاهريا.
من أين ثبت لكم الاطراد؟ عندما تقولون: بأن الفلزات تتمدد بالحرارة، تقولون هذا قانون، الجسم ينكمش بالبرودة تقولون هذا قانون.
هذا القانون – الفلز يتمدد بالحرارة – كيف ثبت لكم أنه قانون مطرد؟ إنما ثبت الاطراد بالاستقراء التجريبي، فبما أن الدليل الذي أوصلنا الى معرفة أنه قانون مطرد هو الاستقراء التجريبي فالاستقراء التجريبي يمكن أن يتخلف ويمكن أن يكون له استثناء.
وبعبارة أخرى : التجربة لا تكشف الضرورة بين حادثة وحادثة ، إنما تكشف التوالي وليست الضرورة ، يعني اننا اذا رأينا أن درجة الحرارة بلغت المائة فهذه حادثة، وإذا رأينا الغليان فهذه حادثة أخرى ، فنقول كلما رأينا الحادثة الأولى – وهي بلوغ درجة الحرارة المائة - رأينا الحادثة الثانية وهي الغليان، فبين الحادثتين توالٍ وتتابع، وهذا غاية ما تثبته التجربة والاستقراء، وأما أن الحادث الأول هو السبب التام للحادث الثاني بحيث لا يتخلف الثاني عن الأول فهذا لا تثبته التجربة ولا يثبته الاستقراء، فالاستقراء يثبت لنا التوالي ولا يثبت وجود ضرورة حتمية بأن كلما حدثت الحادثة الأولى حدثت الثانية، فبما أن الاستقراء لا يثبت لنا الضرورة والحتمية؛ وانما يثبت لنا مجرد التوالي؛ إذن الاطراد انما ثبت باستقراء قابل للإستثناء وقابل للتخلف.
ثالثا: نحن عندما نقرأ كتاب معاجز الى (سيئس لويس) وهو عالم فيزيائي يتحدث ويناقش هيوم ويقول: لو أخذنا بهذا الكلام فالنتيجة أن هذا الاستدلال دوري والاستدلال الدوري باطل في علم المنطق، لأنه لا يمكن أن نثبت ان القانون مطرد إلا اذا أثبتنا عدم وقوع المعجزة لأنه متى ما وقعت المعجزة صار القانون غير مطرد، فإثبات أن القانون مطرد يتوقف على اثبات عدم وقوع معجزة، فلو أردنا أن نثبت عدم وقوع المعجزة لأجل اطراد القانون لزم الدور فكل منهما يتوقف على الآخر والدور باطل وهذا الاستدلال دوري لا قيمة له، هذا جواب الاعتراض الأول.
الاعتراض الثاني:
يقول هيوم : أن المعجزة حدث فردي وليس حدثا متكررا، فالأحداث الكونية متكررة ، لذلك يمكن لنا التصديق بها لأنها متكررة فالتكرار التجريبي يثبت لما صدق وقوعها.
أما المعجزة فهي حدث فردي لا يتكرر، فبما أنها لا تتكرر فلا طريق لنا لإثبات هذا الحدث وتصديقه، فالطريق هو التكرار وهذا الحدث – المعجزة – غير متكرر .
وللجواب عليه نقول: ([8]) هناك فرق بين المعرفة وموضوع المعرفة، فالمعرفة هي عبارة عن اثبات الحدث بدليل قطعي، وأما موضوع المعرفة فقد يكون حدث مفرد وقد يكون مكررا، فلا نخلط بين المعرفة وموضوع المعرفة.
ومثال ذلك : معاجز الأنبياء فبما أن المعجزة حدث مهم نحن لا نكتفي بخبر الآحاد، بل مقتضى كون المعجزة حدثا اجتماعيا كبيرا أن تتظافر النقول للإخبار عنه، ومقتضى كونه حدثا مهما أن تتوافر القرائن على صدقه ووقوعه.
لذلك نحن نثبت أي حدث مهم عبر دليل حساب الاحتمالات أي تظافر القرائن التي اذا اجتمعت تتصاعد درجة الاحتمال الى أن تصل مستوى اليقين والوثوق بحصول هذا الحدث.
كل حدث مهم نثبته من خلال دليل حساب الاحتمالات هذا هو كلامنا في المعرفة، أما موضوع المعرفة فقد يكون هذا الحدث المهم - الذي نثبته من خلال دليل حساب الاحتمالات – متكررا وقد يكون غير متكرر أي مفرد، فكون الحدث مفرد لا يعني عدم امكان التصديق به ما دام يمكن الوصل اليه عبر دليل حساب الاحتمالات أو عبر الدليل القطعي، وهنا نضرب مثالين:
المثال الأول:
الانفجار العظيم فكل هذا الكون ولد من نقطة الانفجار العظيم، والانفجار العظيم حدث مفرد غير متكرر ، فكيف أثبتناه مع أن الأحداث المفردة لا يمكن تصديقها ولا اثباتها؟ الجواب أثبتناه بالدليل القطعي بمعادلات رياضية مبتنية على قوانين كونية ثابتة أوصلتنا الى الوثوق بحصول الانفجار العظيم، فهو حدث مفرد أثبتناه بالمعرفة أي بدليل قطعي.
المثال الثاني:
الآن عندنا مشروع علمي معروف، والعلماء يغدقون أموالا ضخمة لإنجاز وانجاح هذا المشروع وهو أن يكتشف حياة عاقلة في كوكب آخر، هذه مهمة هذا المشروع: اثبات وجود حياة عاقلة في كوكب آخر يطلقون على هذا المشروع أسم : إس إي تي آي .
والطريق الى اثبات مطلوبهم مفرد غير متكرر، فرسالة واحدة نحو الكوكب الآخر اذا جاءتنا ذبذبات تجيب عن هذه الرسالة كشفت لنا عن وجود حياة عاقلة في الكوكب الآخر، فلاحظوا أن الطريق الذي استخدمناه هو طريق مفرد غير متكرر لأنه دليل قطعي، فلا يشترط في المعرفة التكرار ولا يشترط في موضوع المعرفة ان يكون حدثا متكررا، بل يمكن ان يكون موضوع المعرفة حدثا مفردا او حدثا متكررا مادام الطريق اليه دليلا قطعيا كدليل حساب الاحتمالات.
ولذلك (واتلي) في كتابه شكوك تاريخية قال لو صح منهج (هيوم) بأنه لا يمكن اثبات الأحداث المفردة إذ لا طريق لنا الى تصديقها فإن كل قصة نابليون هي قصة اسطورية وخرافية ولا وجود لها هذه هي النتيجة اذا مشينا على هذا المنهج بأن الحدث المفرد لا يمكن الوصول اليه ولا يمكن تصديقه، وعلى إثر ذلك كتب هذا الكتاب (شكوك تاريخية)، فالنتيجة ان الاعجاز ينسجم مع الميزان العلمي ولا يتنافى معه.
المحور الثالث: هل يتنافى الإعجاز مع المنطق القرآني؟
قد يقول قائل ان القرآن سد باب الاعجاز إذ قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)[9]، ربما يقول قائل هذه النقطة من الآية: (سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) هي دليل على سد باب المعجزات، أي أنا لست بابا للمعجزة بل انا مجرد رسول !!
والجواب عليه بوجهين:
الوجه الأول:
هناك فرق بين الانسان الجدلي وبين الباحث عن الحقيقة، فهؤلاء المشركون عندما قالوا للنبي (صلى الله عليه واله) (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) لم يكونوا باحثين عن الحقيقة حتى يستجيب النبي ص لطلبهم ويقدم لهم المعاجز، بل كانوا مجادلين ولو فعل معهم ما فعل لن يؤمنوا به، لذلك تراهم نوعوا في الطلب: يَنْبُوعًا و جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ورقي في السماء ... بل اقترحوا عليه أمرا مستحيلا وهو ان يأتي بالله والملائكة قبيلا!!
كل هذه المقترحات تكشف عن كونهم مجادلين غير باحثين عن الحقيقة، فقول الرسول ص (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) ليس سدا لباب الاعجاز وانما عدم استجابة لطلب المجادلين لأنهم ليسوا باحثين عن الحقيقة.
الوجه الثاني:
هناك فرق بين التعبير بـ(نؤمن لك) وبين (نؤمن بك) فلو كانوا صادقين لقالوا لن نؤمن بك حتى تفجر من الأرض ينبوعا بمعنى إن فجرت لنا من الأرض ينبوعا آمنا بك ولكنهم لم يقولوا ذلك، وفرق بين التعبيرين إذ المعبر عنه بالباء (بك) يحكي عن الايمان الواقعي، والمعبر عنه باللام (لك) يحكي عن الايمان الظاهري، فنلاحظ قوله تعالى (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) جاء عبد الله بن أبي سلول الى الرسول ص فقال له النبي ص يا ابن ابي سلول أخبرني جبرئيل أنك تدبر المكائد ضد المسلمين.
فقال: جبرئيل مشتبه أنا رجل مؤمن متقٍ فالنبي ص أظهر له أنه صدقه وقبل كلامه، فلما خرج ابن ابي سلول قال: محمد أذن، أنا أقول له شيء يصدقني جبرئيل يقول شيء يصدقه، فنزل قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) فلماذا اختلف التعبير في فقرة واحدة؟ فبالنسبة الى الله عبر بالباء وبالنسبة الى المؤمنين باللام أي (يؤمن بالله) و (يؤمن للمؤمنين) وهو للإشارة أن الايمان على قسمين: إيمان هو عبارة عن تصديق واقعي، فالنبي ص يصدق بالله تصديقا واقعيا.
وإيمان هو عبارة عن تصديق ظاهري وهو (للمؤمنين) فالنبي ص لا يصدق بكل المؤمنين تصديقا واقعيا إنما يصدق بكلامهم تصديقا ظاهريا، فيؤمن لهم أي يظهر التصديق بكلامهم لأجل منفعتهم وهي تأليف القلوب، (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي إنما جعلنا النبي ص يصدقكم بهذه الطريقة حتى يؤلف قلوبكم.
فهم يقولون لن نؤمن بك ونصدقك تصديقا واقعيا أبدا ، ولكن إن فعلت لنا ما نطلبه منك نؤمن لك ونصدقك تصديقا ظاهريا، وعليه فهم لن يكونوا يطلبون المعجزة ليحصلوا على الايمان بل هم سطروا هذه المقترحات من أجل التصديق الظاهري فقط، فلأجل أنهم لم يطلبوا إيمانا وتصديقا واقعيا وإنما طلبوا تصديقا ظاهريا فلم يستجب لهم الرسول ص وقال: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا.
إذن تبين لنا أن هذه الآية لا تصلح دليلا على سد باب المعجزات، بل قد ذكر القرآن آيات تصرح بالمعاجز، قال تعالى: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[10]
والمؤمنون الواقعيون والظاهريون في كل زمان، ففي زمن النبي ص كان المؤمنون على قسمين: من يؤمن به واقعا ومن يؤمن به ظاهرا فهناك مؤمنون وهناك منافقون، وكذا في زمن الامام علي ع أيضا، وفي زمن الحسين ع أيضا ...
*تقرير: السيد هيثم الحيدري، مراجعة وتدقيق: الشيخ قيصر الربيعي
ذكر أوغست كونت، وجون بول سارتر، وكارل ماركس وأمثالهم من أساطين الماديّة أنّ الأنبياء والأديان والشرائع غير قادرة على الإتيان بأيّ تطور تكنلوجي، ولو كان لبان..، ولا يسع الفكر الإنساني إلاّ الخضوع لحقيقة أنّ ما جاء به الأنبياء لا يعدو الميتافيزيقا الحالمة التي لا تمت للواقع العلمي ومعادلات المادّة في الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا بأي صلّة.
ترتب عليه إنّ الفكر الإنساني ليس بحاجة إلى النبيّ عليه السلام لبناء الإنسان والمجتمع، وجلّيٌ أنّ الكلام مع هؤلاء ينحو منحى الكلام مع الملاحدة والزنادقة؛ لوضوح أنّ هذه الشبهات متأصلة على الإلحاد؛ أي على إنكار وجود الخالق والرسل والكتب السماويّة، والمطولات من الكتب نهضت بالرد على هؤلاء الملاحدة، لا تهدف له مقالتنا هذه.
ما نريد قوله أنّ بعض غلاة العلمانيّة، بعضهم من المتأسلمين وأخر من المتميسحين، ممّن يزعم انتسابه للإسلام والمسيحيّة، بات يلوك هذه الإشكاليّة كأنّه بلغ الجبال طولاً.
إشكاليّة عدم الحاجة للأنبياء
اجترّ دعاة هذه الإشكاليّة من المتأسلمين والمتميسحين وغيرهم، ما ذكره أساطين الماديّة من ملاحدة أوربا، أنّ كلّ ما جاء به الأنبياء عليهم السلام لا يعدو الدعوة للأخلاق بالمعنى المتعارف بين البشر، علاوة على العقيدة القلبيّة بالخالق وبيوم الحساب، لكن –بغض النظر عن كون هذا خرافة أم لا- كلّ من هذين الأمرين لا ينتج أيّ تطوّر علميّ في أيّ مجال من مجالات الحياة.
إنّ أرقى ما وصل إليه العقل الإنساني، فيما تزعم هذه الإشكاليّة، هو التطور العلمي في مجال الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة و...، ناهيك عن الديمقراطيّة المتجسدة في الدول اليوروأمريكيّة، وهي أرقى ما أنتجه الفكر البشري في علم السياسة.
لا ريب أنّ الدين بمعزل عن كلّ هذا؛ إذ لا دخل للدين في تحقيق أي تقدّم مادّي في المجالات العلميّة أعلاه، بل التمسّك به تقزيم لحريّة العقل البشري القادر على الوصول للقمر..؛ فإنّ كل ما جاء به الأنبياء من موروث، لا ينهض لبناء مركبة فضائيّة، أو قمراً صناعيّاً، أو تلسكوباً.
إنّ أرقى ما وصل إليه العقل البشري في العلوم الطبيعيّة؛ سيما الفيزياء، هو القنبلة الهيدروجينيّة، ولا ارتياب أنّ هذه القنبلة لم تصنعها المجتمعات الدينيّة التي عاشت زنزانة العقيدة الدينيّة، المصنّفة سياسياً دول عالم ثالث، لكن علماء مثل البرت آينشتاين وماكس بلانك وأضرابهما هم توصّل إليها.
مضاد الجراثيم البنسلين لم يكتشفه مسجد المسلمين، ولا كنيس اليهود، ولا كنيسة المسيح، ولا معبد بوذا، ولا بيت نار زرادشت، وإنّما اكتشفه مختبر الطبيب الاسكتلندي الكسندر فلمنك، بوازع من عقله الطبيّ الذي لا يمت للدين وعقائد الما وراء بصلة.
الأنظمة السياسية التي تعتبر أكفأ ما وصل إليه العقل السياسي، لم يأت بها الدين، بل لم يفكر بها، بل بسبب اختناقه بأحلام الميتافيزيقا لا يقتدر على ذلك..
جان جاك روسو في كتابه العقد الإجماعي هو من جاء بها؛ فيكفي أنّ كلّ الأنظمة السياسية الراقية في العالم الأول، مدانة لهذا الفكر، تدور في فلكه حتى يومنا هذا، بل إنّ كثيراً من المجتمعات الدينيّة التي تنشد التحرر من زنزانة القوقعة الدينية، تسعى لمحاكاته.
كانت غالب المجتمعات الأوربيّة قبل الثورة الفرنسيّة، مثالاً للمجتمعات الدينية المحبوسة في زنزانة الكاثوليكية والبروتستانية، ولقد كانت تعيش الجهل والجوع والمرض في أردأ المستويات.
لكن بعد الثورة الفرنسيّة؛ أي لما لم يسمح للدين أن يتطفل في السياسة، أضحى المجتمع الأوربي هو الأوّل في التصنيف العالمي، وصنّفت دوله بدول العالم الأوّل في كلّ مجالات الحياة، الفيزيائية والكيميائية والطبيّة والاقتصاديّة والاجتماعية والسياسية.
في حين أنّ كلّ المجتمعات الدينيّة منذ ذلك العهد، آلت للسقوط لتصنف دول عالم ثالث، مدنياً وحضارياً وعلمياً وسياسيّاً.
ونؤكد مرّة أخرى إلى أنّ هذه الإشكاليّة وإن خرجت في مبدأ أمرها عن شرنقة الإلحاد، إلاّ أنّ بعض المتدينين من علمانيي المسيحية والإسلام وغيرهما اعتنقوها لتكون ديناً يقرأ الحياة والمجتمع والإنسان، وبالتالي بناء التاريخ والحضارات.
جواب الإشكاليّة!!
[ذات صلة]
دعى الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وكذا كلّ ما جاءت به شرائعهم، إلى كلّ تطوّر علمي في عموم مجالات الحياة، شرط ألا تنتهك حرمة الإنسان والإنسانيّة.
بجملة واحدة، يمنع الأنبياء عليهم السلام، أي تطوّر علمي مادّي، ينتهك قدس الإنسان، ولا يعبأ بحرمة الإنسانيّة؛ فإنّ هدف الانبياء الأوّل، ومطلبهم الأمثل، ومبتغاهم الأكمل، تقديس الإنسان واحترام الإنسانيّة، ورفض كلّ ما يدنّس حريمهما المقدّس.
لا ريب أنّ أرقى ما وصل إليه العقل البشري في الفيزياء، هو القنبلة الذريّة والمفاعل النوويّة، لكن رفض الأنبياء عليهم السلام رفضاً قاطعاً([1])، كما رفض آينشتاين نفسه، صناعة القنبلة الذريّة التي أضحت عاراً على جبين العقل البشري في هيروشيما وناكازاكي، بدايات القرن العشرين.
كما رفض الأنبياء عليهم السلام كلّ تجارب البحوث الذريّة والنووية التي أجريت في أربعينيات القرن الماضي في صحراء نيفادا وغيرها؛ لتسببها –نتيجة الإشعاعات الذريّة- في ظهور مرض السرطان أوّل مرة في تاريخ الإنسانيّة ([2]).
المثير للانتباه أن مرض السرطان لم يكن له وجود في المجتمع البشري قبل انفجار القنابل الذريّة والنووية والهايدروجينيّة، وربما كذب البعض فزعم وجوده قبل ذلك، فراراً من اللائمة.
يرفض الأنبياء عليهم السلام اختراع القنبلة الهيدروجنيّة، التي تسببت في حدوث فتحة الأوزون، تلك التي أنذرت باقتراب نهاية البشر على الأرض.
يرفض الأنبياء عليهم السلام رفضاً قاطعاً تصنيف الإنسانية إلى عالم أول وعالم ثالث باعتبار التطوّر التكنلوجي.
يكفي أنّ هذا العالم الأوّل، عالم اليورو أمريكان، المتطوّر علمياً وسياسياً واجتماعياً ومدنياً، هو عالم وحوش مفترسة شقراء، كما أسماهم فريديريك نيتشة، لا يمت للإنسان والإنسانيّة بأدنى صلة.
يكفي برهاناً أنّ عالم الإجرام الأوّل هذا، افتعل حرباً راح ضحيّتها 60 مليون إنساناً، ما يعادل 2.5 بالمائة من مجموع المجتمع البشري، في الحرب العالميّة الثانية.
هذا الرقم أكبر من مجموع كلّ ضحايا الحروب التي قام بها البشر من لدن آدم حتى عهد الحرب العالمية الثانية.
للأنبياء تصنيف أسمى من هذا، محوره احترام الإنسان والمجتمع والرحمة بهما؛ فالأشرف هو الأرحم والأعدل والأحكم، على ما نطقت به أدبيات الأنبياء.
افتراض الإشكاليّة أنّ ما جاء به الأنبياء لا علاقة له بالواقع المادي، محض افتراء، فأيّ فكر في المجال السياسي، على سبيل المثال، ينهض لمقارعة ما جاء به النبيّ محمد عليه السلام؟!!
ليس للنبي محمد عليه السلام إلاّ حماره وعصاه وبضع أصحاب مخلصين، لكن خلال عقدين من الزمن، هزّ هذا النبيّ الأميّ العربيّ، عرشي أقوى إمبراطوريتين عرفهما التاريخ هما الفارسية والروميّة، بل قد تلاشيا من بعده إلى يومنا هذا.
وننبه إلى أنّ المقياس فيما نحن فيه، ليس التلاشي وحسب، بل التلاشي الأبدي لهؤلاء، والبقاء الدائم الأبدي لما جاء به محمد عليه السلام، فعلى أيّ تقدير واقعي، مادّي أو معنوي؛ فما جاء به النبي محمد هو الدائم الباقي المؤثر في معادلات التاريخ، وغيره منهار فانٍ متلاشٍ، ذكرى بائسة سخر منها التاريخ ([3]).
وقد يتشدّق البعض فيزعم أنّ الإرهاب والإسلام متآخيان؛ فأين احترام الإنسانيّة وتقديس الإنسان فيما جاء به محمد عليه السلام؟!!
قلنا: ما عادت تنطلي هذه المزحة على الصغار فضلاً عن الكبار؛ فثوب الإرهاب الإسلامي، خاطته مصانع اليورو أمريكان، بخيوط الطغيان، وإبرة الشيطان.
ولقد ذكرنا أنّ حقيقة ما جاء به محمد ليس إلاّ الباقي الدائم المؤثر في بناء التاريخ وصيانة الإنسان، وكون الإرهاب ممّا لا ديمومة له ولا بقاء، يعني أنّه لا يمت بصلة لما جاء به محمد عليه السلام، وإن ألصق به عنوة؛ تشويهاً لصورته في حرب الأفكار وسجالات الآيديولوجيات.
هذا بعينه يقال فيما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام، فليس كل ما نسب إليهما هو من اليهوديّة أو المسيحيّة، وإنّما خصوص ما هو دائم باق يقدّس حرمة الإنسان.
وبلا أدنى ترديد فحقيقة ما جاء به الأنبياء هو المشروع الدائم الباقي المتنامي لصيانة الإنسان والمجتمع والتاريخ والطبيعة وتقديسهما، وكل ما عدا ذلك يبرأ منه الأنبياء، ويمنعون منه منعاً أبديّاً، حتى لو كان في حقيقته كشفاً عظيماً؛ كالقنبلة النوويّة والرؤوس النووية التي تبجحت بها الفيزياء المجرمة في هيروشيما وبقيّة بلدان العالم.
الأنبياء عليهم السلام يدعون لأن ترتقي التكنلوجيا وكذا كلّ العلوم الطبيعيّة، بكل ما أوتي الإنسان من قوّة على الكشف والارتقاء، شرط أن تكون هذه العلوم منزهة عن العهر والدنس والإجرام وكلّ ما من شأنه الحط من قيمة الإنسان والطبيعة.
تساؤل!!
لعله يقفز إلى الذهن أنّ كثيراً ممّا جاءت به التكنلوجيا والعلوم الطبيعيّة، هي اكتشافات لا آثار سلبيّة فيها على الإنسان والطبيعة.
قلنا: أعطونا شيئاً جائت به التنكنلوجيا، أنتج في مصنع منزّه عن كل الآثار السلبية الضارة بالإنسان والطبيعة.
ولو فرضنا ذلك، فكم تكون نسبته قياساً بالتكنلوجيا المفسدة للحياة؟!
ولا ندري فثمة تساؤل ملح:
هل نشكر ارتقاء العلوم الطبيّة التي عالجت مرض السل، أم نمتعض منها لأن هذا العلاج سبب في ظهور مرض الربو أول مرة في تاريخ البشريّة.
---------------
الهوامش:
([1]) المقصود أنّ الإشعاعات الذريّة نتيجة التجارب غير الأخلاقيّة لدول العالم الأوّل، هي ما نشّط الخلايا السرطانيّة في جسم الإنسان وغيره.
([2]) كل ما وصل عن الأنبياء، في كل الكتب السماويّة، النهي عن القتل الجماعي، والبرائة من أمثال هذه الجناية الوحشيّة التي لا ترى بأساً بقتل الطفل والعجوز والمرأة بهذا النحو الطاغوتي.
([3]) لفهم هذا الأمر بشكل جدّي، راجع كتابنا: ديموتاريخ الرسول محمد والحسين. طبع دار الأثر، بيروت.
إن بحث التقية من الأبحاث العقائدية المهمة.. فما هي أدلة التقية: قرآناً، وسنة، وإجماعا، وعقلاً؟.. وما هي موارد التقية؟.. وما هو الفرق بين التقية القلبية، والتقية الخارجية؟
إن الذين ينكرون مبدأ التقية، ويستنكرون المتقين.. من الغريب أنهم لا يلتفتون إلى الآيات القرآنية المتعددة، والروايات الشريفة في هذا المجال:
من القرآن الكريم:
الآية الأولى: «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ».. فإذن، إن هذا الرجل لديه إيمان في القلب، ولكنه يكتم إيمانه لمصلحةٍ.. ودرجة المصلحة وشدة الضرر، عائد إلى المكلف.. وعليه، فإنه إذا كتم شخص إيمانه ككتمان مؤمن آل فرعون، فلا ينبغي التنكر لفعله.
الآية الثانية: وهي الآية المعروفة بمبدأ التقية، وصاحب هذه القصة هو عمار الذي مليئ إيمانا.. وقد قال ابن سعد في الطبقات الكبرى: أن هذه الآية نزلت في عمار، عندما ذكر آلهة المشركين، وخرج -حسب الظاهر- عن الإسلام، لا عن الأمور الاعتقادية الثانوية.. فعند ذكر الآلهة نزلت هذه الآية: «مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم».. ومن الطريف أن النبي (ص) علق على هذه الحادثة قائلا: (فإن عادوا فعد)!.. أي إن عادوا إلى الترهيب والتهديد والتخويف، فعد.. وعليه، فإن معنى ذلك، أن هذا الحكم ليس مختصّاً بعمار، بل هي قاعدة عامة تستفاد من القرآن الكريم.. وقد ذكره الماوردي في ج 3 ص 215، وكذلك الواحدي.
فالآية الأولى، ذكرت كتمان الإيمان.. والآية الثانية، ذكرت الجو العام: الإكراه، والقلب المطمئن.. والآية الثالثة، ذكرت التقية اسماً.
أما السنة النبوية:
فعن طريق الخاصة: سئل الصادق (ع) عن التقية فقال: (التقية من دين الله).. أي أن التقية جزء من التشريع، كما أن هناك أمرا بالجهاد، وأمرا بالأمر بالمعروف، وأمرا بإلقاء النفس في المعارك؛ من أجل تعزيز كلمة الإنسان، فإن هناك أيضا مبدأ التقية.. ولعله في تلك الأيام كان هنالك مداخلات في هذا الأمر. فقال الراوي: قلت: من دين الله؟.. قال: (إي والله من دين الله).. فالإمام (ع) يؤكد على هذا المبدأ، ثم يذكر الإمام (ع) مثالاً وهو عن إبراهيم (ع) عندما قال: «إِنِّي سَقِيمٌ».. يقول الصادق (ع): (ولقد قال إبراهيم: «إِنِّي سَقِيمٌ».. والله ما كان سقيماً). فإذن، كما أن إبراهيم (ع) قد دفع البلاء عن نفسه بهذه العبارة، وكذلك عمار.. فإن معنى ذلك أن القضية متناولة في روايات أهل البيت (ع).
وعن طريق العامة: ففي صحيح البخاري/ حديث 5780، يقول عروة بن الزبير: وفي حديث عائشة أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال:
(ائذنوا له فبئس ابن العشيرة –أو بئس أخو العشيرة–).. فلما دخل ألان له الكلام.. قالت عائشة فقلت له: يا رسول الله!.. قلت ما قلت ثم ألنت له في القول. فقال: (أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه –أو ودعه– الناس اتقاء فحشه)!.. فالنبي (ص) قبل أن يستقبله وصفه بأنه بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان النبي (ص) معه الكلام اتقاء لفحشه.. وأيضاً فإن حياة النبي (ص) عند بداية الدعوة، لم تبدأ علانية، بل سراً ثم علانية.
الدليل العقلي
إن العقل يحكم بذلك، كأن يكون هناك ضرران: ضرر شديد، وضرر أقل –فمثلا- إنسان معرض للتعذيب، والقتل، والضرب، والشتم.. فيذكر تورية ونحوها لدفع الشر عن نفسه.. ومن الغريب أن الذي ينكر التقية، هو في مقام العمل وفي الحياة اليومية، من أكبر المتقين: في مجال عمله، وفي تجارته، أو مع من يخاف، فإنه يغير ما يقول.. فإذن، هذه هي سنة الناس، فهم يدفعون الضرر الأعظم بالأصغر.. فما المشكلة في ذلك؟.. حتى في الفقه السني، فالامام مالك في المدونة الكبرى 3: 29 يقول بعدم وقوع طلاق المكره على نحو التقية، محتجاً بذلك بقول الصحابي ابن مسعود: (ما من كلام يدرأ عني سوطين من سلطان، إلا كنت متكلماً به).
ملاحظات مهمة
إن التقية لا تكون مع كل خطر.. بل لا بد أن يكون هناك خطر يعتد به شرعاً، فلا يتذرع الإنسان في أن يكتم الحق، وفي أن يعمل بواجبه.
وهنالك موارد للتقية: منها دفع الضرر عن النفس، وعن المال، وعن العرض.. أما أن تكون التقية في كل صغيرة وكبيرة، فإن هذا ليس من مذاق الشريعة.
إن هنالك تقية خارجية، وهنالك اعتزاز باطني.. فعمار عندما أًكره على الشرك، كان قلبه متوجها إلى الله عز وجل.. وعليه، فإن المتقي لا يخاف، وإنما يراعي المصلحة.. واقتران التقية بالخوف القلبي، هذا هو الذل الباطني.. والإمام الصادق (ع) عندما يقول: (التقية من دين الله).. فإنه لا يرضى أن يعيش الخوف، والهلع الباطني.
هب أنك مجاز بالتقية!.. فإن هذا لا يعني عدم العمل على تغيير الطرف الآخر، الذي يحمل معتقدات خاطئة.. فعليك أن تحاول تغيره، من الباطل إلى الحق.. فالتقية لا تنافي الحركة الواعية، لأجل تغيير الذين لا يعرفون الحق.. إلا المعاندين، فأولئك ذرهم وشأنهم إلى أن يلقوا ربهم يوم القيامة.
يعتبر الباحث والاكاديمي الإيراني عبد الكريم سروش من ابرز الكتاب الإيرانيين المتأثرين بمقالات علم الكلام الجديد واللاهوت المسيحي والتي حاول عكسها على مسائل كلامية إسلامية، منها النقد الذي وجهه قبل سنوات حول مسائل الإمام المهدي، وكون الاعتقاد به يجرد مفهوم خاتمية النبوة من معناه، ويفقده الفائدة المتوخاة منه وهي اعتماد البشر على انفسهم، فيعزو سبب ختم النبوات الى وصول البشر الى مرحلة النضج والتحرر، والقدرة على تنظيم حياتهم من دون الرجوع الى الوحي، وان الاعتقاد بوجود مهدي له نفس خصائص الرسول يتنافى مع هذا الغرض، فتراه يؤيد كلام اقبال اللاهوري حول مسألة الخاتمية حيث يقول: "اننا اذا قدسنا التاريخ، وقلنا بوجود مهدي يحمل صفات النبي، فإننا سنحرم من فوائد الخاتمية؛ لأن فلسفة الخاتمية تهدف الى بلوغ الإنسانية مرحلة التحرر، وأننا بقولنا بوجود مهدي يأتي في آخر الزمان يحمل مواصفات النبي نكون قد نقضنا ذلك التحرر".
من هنا يرى سروش ان على الشيعة ان يحلوا معضلة الجمع بين المهدوية وفكرة التحرر والديمقراطية. فيقول: "ان اقبال اللاهوري ذهب الى ان ظهور العقل الاستقرائي التجريبي كبح الاعتماد على الغريزة (الوحي)، وعقمت حركة التاريخ عن ان تتمخض عن الانبياء، ولذلك تم الاعلان عن ختم النبوات، وعاد من الخطأ انتظار ولي سماوي؛ ليكون مصدراً جديداً للمعرفة وبناء تفكير جديد. ان اعلان ختم النبوات كان بداية اطلاق سراح العقل الانساني، لينطلق بتفكيره الى الأمام، مستضيئاً بنور عقله" ([1]).
والسبب الرئيس في التنافي بين الاعتقاد بالإمام المهدي وفكرة الخاتمية هي القول بحجية كلام أهل البيت عليهم السلام الذي جعل منهم بمنزلة النبي صلى الله عليه وآله فإذا فقد النبي لم ينتفي خبر السماء بالمطلق وان توقف الوحي لاعتقاد الشيعة بان الإمام تحدثه الملائكة.
فيقول سروش: "ان مصادر الأحاديث عند الشيعة غير محدودة بما روي عن النبي، فلديهم مصادر ترقى الى رتبة النبي، بمعنى انهم اذا سمعوا حديثاً عن الإمام الحسين، وعن الإمام علي، وعن الإمام جعفر لصادق، وعن الإمام الباقر، فهذا يعني ان النبي هو الذي قالها. ان الإمام الصادق وسائر الأئمة عند الشيعة ليسوا من الفقهاء، وإنما يقولون هم حكم الله، ... وطبعا لا يقول الشيعة بأن ائمتهم محل لنزول الوحي، ولكنهم يستخدمون تعبيراً آخر، حيث يقولون: انهم محدثون، وأنه يتم ايصال الحقائق اليهم بنحو من الأنحاء، وذلك كي يميزوهم عن النبي، مع اعطائهم نفس شأن النبي، فيثبتون لهم العصمة مثل النبي تماماً، وإن كلامهم مساو لكلام النبي والقرآن،.. وذلك لأنهم يحملون الولاية الإلهية"([2]).
وقد اثار كلام سروش السابق ردوداً كثيرة من العلماء، ونحن قبل ان ننقل شطراً منها، نود ان نشير الى الملاحظات التالية:
كلامهم أم كلام النبي؟!
لا يخفى على القارئ النبيه ما في كلامه من خلط، فالشيعة لا تعتقد أن ائمة أهل البيت عليهم السلام يمتلكون صلاحية التشريع بل هو منحصر بشخص النبي صلى الله عليه وآله، وما هم إلا نقلة لعلمه، ومبينين لشرعه، فاحاديثهم هي عبارة عن رواية عن النبي، كما روى ثقة الاسلام (الكليني) عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره قالوا: سمعنا ابا عبد الله عليه السلام يقول: "حديثي حديث أبي، وحديث ابي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن: وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله عزو جل"([3])، وفي أمالي الشيخ المفيد عن جابر قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: إذا حدثتني بحديث فأسنده لي. فقال: "حدثني أبي عن جدي عن رسول الله عن جبرئيل عن الله عز وجل وكل ما أحدثك بهذا الإسناد. وقال يا جابر لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا و ما فيها"([4])، وما رواه علي بن موسى بن جعفر بن طاووس، عن حفص بن البختري قال: "قلت للإمام الصادق نسمع الحديث منك فلا ادري منك سماعه او من ابيك؟ فقال: ماسمعته مني فأروه عن أبي، وما سمعته مني فاروه عن رسول الله". ([5]) ، وروى الصفار عن الإمام ابي الحسن الرضا عليه السلام قال: "قلت له كل شيء تقول به في كتاب الله وسنته او تقولون فيه برأيكم؟ قال 8: بل كل شيء نقوله في كتاب الله وسنة نبيه" ([6]).
ونختم بقول الإمام الباقر عليه السلام حيث قال: "يا جابر إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله 9 كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم"([7]).
لذا يقول الشيخ جعفر سبحاني في معرض رده على سروش: " ان القرآن قد اخبرنا عن إكمال الدين بنزول جميع المسائل المتعلقة به على قلب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لكنه يرى ان بعض المشاكل والعراقيل قد حالت خلال حياة النبي من بيان بعض الأصول والأحكام العملية، فلذلك عمد الله على استئمان جماعة على ما لم يستطع النبي بيانه وتوضيحه([8]). هذه الجماعة هم أهل بيت النبي الذين هم أحد الثقلين بحسب حديث الرسول: "إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله، وعترتي أهل بيتي"([9]).
مصادر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
لكن ماهي مصادر علوم أهل البيت ومعارفهم؟ وكيف يشرحون الأحكام والتكاليف التي لم ترد في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وآله؟ يقول الشيخ السبحاني: "إن هذه هي الشبهة التي يؤكد عليها سروش، وإن التعرض الذي تصوره بين ختم النبوة وبين المرجعية العلمية للأئمة المعصومين يدل على أنه لم يلاحظ المصادر العلمية التي يستندون عليها وهي:
اولاً: الرواية عن رسول الله فالأئمة يأخذون الأحاديث عن رسول الله إما مباشرة او من طريق آبائهم وينقلونها الى الآخرين. وهي أحاديث موجودة في المصادر الحديثية المعتمدة عند الشيعة والمسنودة بسند متصل الى الرسول.
ثانياً: النقل من كتاب الإمام علي الذي كان مصاحباً للرسول إذ كان هذا الكتاب من إملاء النبي صلى الله عليه وآله وخط علي عليه السلام ، وقد توارثها الأئمة عليهم السلام([10]).
ثالثاً: الاستنباط من الكتاب والسنة. بمعنى أخذ الحكم منهما، لا على نحو الاجتهاد عند الفقهاء.
رابعاً: الإلهام الإلهي وهو ليس مختصاً بالأنبياء، بل ألهم الله اشخاصاً كالخضر صاحب النبي موسى عليه السلام، وهو يعرف بالعلم اللدني".([11]).
([1] ) الكلام في الأصل كان محاضرة لسروش في حشد من الجامعيين الايرانيين في جامعة السوربون في باريس عام 2005، مسألة العلاقة بين خاتمية النبوة والإمامة المهدوية، وقد نشرت مفصلة في العدد 21، من مجلة نصوص معاصرة.
([2] ) نفس المصدر.
([3] ) الكافي: ج1، ص 53. وسائل الشيعة: ج18، باب8 من ابواب صفات القاضي: حديث رقم: 26.
([4] ) الأمالي للمفيد ص : 43المجلس السادس.
([5] ) وسائل الشيعة: ج18، باب8 من ابواب صفات القاضي: حديث رقم: 67. عن مجالس المفيد.
([6] ) بصائر الدرجات: ج6، باب 15، ص301، حديث رقم: 1.
([7] ) بصائر الدرجات: ج6، باب 15، ص301، حديث رقم: 1.
([8] ) بحار الأنوار: ج26، ص28 عن الاختصاص.
([9] ) مجلة نصوص معاصرة: العدد 21.
([10] ) روى الشيخ الطوسي في أماليه: ص441 عن أبي الطفيل، عن[ محمد بن علي الباقر، عن آبائه )عليهم السلام(، قال قال رسول الله صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السلام اكتب ما أملي عليك. قال يا نبي الله أ تخاف علي النسيان قال لست أخاف عليك النسيان، و قد دعوت الله لك يحفظك و لا ينسيك، و لكن اكتب لشركائك. قلت و من شركائي يا نبي الله قال الأئمة من ولدك، بهم تسقى أمتي الغيث، و بهم يستجاب دعاؤهم، و بهم يصرف الله عنهم البلاء، و بهم تنزل الرحمة من السماء، و أومأ إلى الحسن عليه السلام و قال هذا أولهم، و أومأ إلى الحسين عليه السلام و قال الأئمة من ولده.
إنّ الاعتراض على خلو القرآن الكريم من أسماء الأئمة عليهم السلام سيبرر إنكار مشركي مكة لنبوة النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن السور التي اشتملت على الآيات الناصّة على نبوته باسمه الشريف نزلت في المدينة، فحينئذ يصح للمشركين التبجح بمثل هذا الاعتراض لتبرير إنكارهم لنبوة الخاتم!
فقد ذكر اسم النبي (صلى الله عليه وآله) في خمس آيات، بلفظ (أحمد) في آية وبلفظ (محمد) في اربع آيات.
الآية الأولى: في سورة آل عمران وهي قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) ([1]). وسورة آل عمران مدنية ([2]).
الآية الثانية: في سورة الأحزاب وهي قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) ([3]).وسور الأحزاب مدنية أيضاً([4]).
الآية الثالثة: في سورة محمد (صلى الله عليه وآله) وهي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) ([5]). وسورة محمد (صلى الله عليه وآله) مدنية أيضاً([6]).
الآية الرابعة: في سورة الفتح وهي قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ([7]). وسورة الفتح مدنية([8]).
الآية الخامسة والأخيرة: المشتملة على لفظ (أحمد) في سورة الصف وهي قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) ([9]). وسورة الصف مدنية([10]).
[ذات صلة]
فثبت مما تقدم أن جميع الآيات المشتملة على اسم النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) مدنية فلا وجود لأسمه المبارك في آيات القرآن الكريم التي نزلت في مكة، ولا يمكن لعاقل يحترم عقله أن يعطي المبرر للمشركين فيما لو أنكروا نبوته بدعوى عدم ورود اسم النبي (صلى الله عليه وآله) في الآيات والسور القرآنية النازلة آنذاك! ونفس الكلام يجري في عدم ذكر أسماء الأئمة (عليهم السلام) في القرآن.
بل أكثر من ذلك فان الاشكال إذا تم فانه يطرد في نبوة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) وباقي الأنبياء (عليهم السلام) فللنصارى أن يستدلوا على ببطلان نبوة النبي (صلى الله عليه وآله) بعدم وجود نص في انجيلهم – المعتمد عندهم - باسم النبي (صلى الله عليه وآله)، وكذا يصح استدلال اليهود على بطلان نبوة عيسى (عليه السلام) لعدم ورود اسم عيسى في توراتهم – المعتمدة عندهم – وهكذا باقي الأنبياء (عليهم السلام)!!
يتبع...
من كتاب: "خلو القرآن الكريم من أسماء الأئمة.. معالجة جذرية لمشكلة متجددة" – صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة
علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد 30 سنة من ولادة النبي - 40 هـ
هو: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر وهو قريش بن كنانة.
أمه: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، التي قيل أنها أول هاشمية تلد لهاشمي، وكان والدا علي قد كفلا محمدًا حين توفي والداه وجده وهو صغير فتربى ونشأ في بيتهما.
مكان الولادة:
وفقًا لمجموعة من الروايات ذكرت أن موضعًا بأحد جدران الكعبة يسمى المستجار قبل الركن اليماني قد انشق لفاطمة بنت أسد حين ضربها الطلق فدخلت الكعبة وولدت علي.
وذُكر ذلك في المصادر السنية ومنها المستدرك للحاكم النيسابوري فجاء فيه:
"تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه في جوف الكعبة"
إيمانه:
آمن الإمام علي وهو صغير، بعد أن عرض النبي محمد، الإسلام على أقاربه من بني هاشم، تنفيذا لما جاء في القرآن. وقد ورد في بعض المصادر أن محمدا قد جمع أهله وأقاربه على وليمة، وعرض عليهم الإسلام، وقال أن من يؤمن به سيكون وليه ووصيه وخليفته من بعده، فلم يجبه أحد إلا عليا. سمي هذا الحديث "حديث يوم الدار" أو "إنذار يوم الدار" أو "حديث دعوة العشيرة.
هجرته:
خرج علي للهجرة إلى المدينة وهو في الثانية والعشرين من عمره، وحسب رواية ابن الأثير في أسد الغابة فقد خرج علي وحيدا يمشي الليل ويكمن النهار بينما تذكر مصادر أخرى أنه اصطحب ركبا من النساء هن: أمه فاطمة بنت أسد وفاطمة بنت محمد وفاطمة بنت الزبير وزاد البعض فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب أو ما سمي بـركب الفواطم. ولم تمض غير أيام قليلة حتى وصل علي إلى قباء حيث انتظره الرسول بها ورفض الرحيل قبل أن يصل علي الذي كان قد أنهكه السفر وتورمت قدماه حتى نزف منهما الدم. وبعد وصوله بيومين نزل علي مع الرسول إلى المدينة حين وصل الرسول إلى المدينة قام بما عرف بمؤاخاة المهاجرين والأنصار وآخى بين علي وبين نفسه وقال له: «أنت أخي في الدنيا والآخرة»
شجاعته:
شهد علي جميع المعارك مع الرسول محمد إلا غزوة تبوك، التي خلفه فيها على المدينة وعلى عياله بعده وقال له:
«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»
، وسلم له الراية في الكثير من المعارك، عرف علي بن أبي طالب ببراعته وقوته في القتال، وقد تجلى هذا في غزوات الرسول؛ ففي غزوة بدر، هزم علي الوليد بن عتبة، وقتل ما يزيد عن 20 من المشركين، وفي غزوة أحد قتل طلحة بن عبد العزى حامل لواء قريش في المعركة، وأرسله محمد إلى فدك فأخذها في سنة 6 هـ، وفي غزوة الأحزاب قتل عمرو بن ود العامري أحد فرسان العرب، وفي غزوة خيبر، هزم فارس اليهود مرحب، وبعد أن عجز جيش المسلمين مرتين عن اقتحام حصن اليهود، قال محمد: «لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ويفتح عليه» فأعطاها لعلي ليقود الجيش، وفتح الحصن وتحقق النصر للمسلمين، وقيل إنه اقتحم حصن خيبر متخذاّ الباب درعا له لشدة قوته في القتال. وكان ممن ثبت مع محمد في غزوة حنين، وكان لعلي سيف شهير أعطاه له محمد في غزوة أحد عرف باسم ذو الفقار، كما أهداه محمد درعا عرفت بالحطمية ويقال أنها سميت بهذا الاسم لكثرة السيوف التي تحطمت عليها.
بيعة الغدير:
في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة الهجرية بايع المسلمون علياً أميراً للمؤمنين في مكان عرف بإسم غدير خم، حيث أخذ النبي (صلى الله عليه واله) منهم البيعة فنزلت الآية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً﴾ .
انقلاب السقيفة:
نكث السواد الأعظم من المسلمين بيعة الامام
بيعته بالخلافة:
لما قتل عثمان، بويع علي بن أبي طالب للخلافة بالمدينة المنورة في اليوم التالي من الحادثة (الجمعة 25 ذي الحجة سنة 35 هـ) فبايعه جميع من كان في المدينة من الصحابة والتابعين والثوار. يروى إنه كان كارها للخلافة في البداية واقترح أن يكون وزيرا أو مستشارا إلا أن بعض الصحابة حاولوا إقناعه فضلا عن تأييد الثوار له، ويروي ابن خلدون والطبري أنه ارتضى تولي الخلافة خشية حدوث شقاق بين المسلمين.
شهادته:
في يوم التاسع عشر من رمضان من عام 41 للهجرة قام أحد أفراد طائفة الخوارج ويدعى عبد الرحمن بن ملجم المرادي بإغتيال الإمام علي (ع) أثناء أدائه لصلاة الفجر حيث ضربه على رأسه بالسيف فبقي يومين يعاني أثر تلك الجراحة، وأرتفع بعدها شهيداً في الحادي والعشرين من رمضان من نفس السنة.
الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) 03 هـ - 40هـ
هو: الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
أمه: فاطمة الزهراء بنت رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
كنيته:
كنيته أبو محمد، من أشهر ألقابه «التقي»؛ وله ألقاب أخرى: التقي، الطيب، الزكي، السيد، المجتبى، السبط و كريم أهل البيت . وقد لقبّه النبي محمد بـالسيد.
سيرته مع جده النبي:
أول سبط للنبي محمد ، وأوّل ولد لعلي بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء بنت محمد، ولد في النّصف من شهر رمضان، في السّنة الثّالثة من الهجرة، قدم النبي محمد إلى بيت علي ليهنّئه، وسماه «الحسن».
قيل أن أول من سماه هو رسول الله، وقد أذّن في أذنه اليمنى، وأقام في يسراه.
وقد أمضى الحسن السبط مع النبي محمد زهاء سبع سنوات من حياته، وكان يحبّه الجدّ حبّاً جمّاً، وكثيراً ما كان يحمله على كتفيه ويقول: « اللّهمَّ إنّي أُحبُّه فأحِبَّه ».
ويقول: « من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني ».
ويقول أيضاً: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة ».
ويقول أيضاً عنهما: « إبناي هذان إمامان، قاما أو قعدا ».
ولِما يملكه الإمام الحسن من سمو في التفكير، وشموخ روح، كان النبي محمد يتّخذه شاهداً على بعض عهوده، بالرّغم من صغر سنّه، وذكر الواقدي: أنّ النبي محمد عقد عهداً مع ثقيف، كتبه خالد بن سعيد، وشهد عليه الحسن والحسين.
زوجاته وأبناؤه:
أحصى الذهبي للحسن تسع زوجات و الشيخ المفيد من علماء الشيعة متفق معه، فزوجاته و أبناؤه منهن:
1ـ أم بشير بنت أبي مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة.
زيد بن الحسن السبط.
أم الحسن بنت الحسن بن علي.
أم الحسين بنت الحسن بن علي.
2ـ خولة بنت منظور بن زَبّان بن سيار بن عمرو.
الحسن المثنى بن الحسن السبط.
3ـ أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي.
حسين بن الحسن بن علي (حسين الأثرم).
فاطمة بنت الحسن بن علي.
طلحة بن الحسن بن علي.
زينب بنت سبيع بن عبد الله أخي جرير بن عبد الله البجلي.
3ـ أم ولد تدعى نفيلة (رمله).
القاسم بن الحسن بن علي.
عمرو بن الحسن بن علي.
عبد الله بن الحسن بن علي.
4ـ جعدة بنت الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي.
5ـ أم ولد تدعى صافية.
عبد الرحمن بن الحسن بن علي.
6ـ أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم.
7ـ أم ولد تدعى ظمياء.
و أم عبدالله و فاطمة وأم سلمة و رقية لأمهات شتى.
فترة خلافته
استلم الحكم بعد والده وكانت فترة خلافته ستة أشهر، وقيل ثمانية، وكان أول من بايع الحسن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فقال: أبسط يدك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال المخالفين، فقال الحسن: "على كتاب الله وسنة رسوله فإنهما ثابتان".
الصراع مع معاوية بن أبي سفيان
كادت أن تندلع الحرب بين الحسن ومعاوية وأنصاره من الشام؛ فقد سار الجيشان حتى التقيا في موضع يقال له (مسكن) بناحية الأنبار؛ كان حريصًا على المسلمين وعدم تفرقهم، فإتفق مع الشاميين على المهادنة والتنازل عن الحكم .
شروط الصلح
ما يذكره المؤرخون في هذا الشأن هو صحيفة كتب عليها الحسن شروطه مقابل الصلح، ولم يذكر أي من المؤرخين كل ما كتبه عليها، إنما تعرضوا لبعض ما فيها، إلا أنه يمكن أن نصل إلى بعض هذه الشروط بتتبع المصادر والتوفيق فيما بينها، ويمكن تقسيم هذه الشروط إلى ثلاثة أقسام:
الشروط المتعلقة بالحكم مثل:
العمل بكتاب الله وسنة نبيه.
أن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن ثم الحسين.
أن لا يقضي بشيء دون مشورته.
الشروط الأمنية والاجتماعية والدينية:
أن لا يُشتم علي وهو يسمع، أو أن لا يذكره إلا بخير.
أن لا يلاحق أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق مما كان في أيام أبيه.
أن لا يناله بالإساءة.
الشروط المالية:
أن لا يطالب أحداً مما أصاب أيام أبيه.
أن يعطيه خراج داربجرد فارس.
إعطاؤه ما في بيت مال الكوفة.
صفاته وخصاله:
كان أشبه الناس بجده رسول الله محمد في وجهه، فقد كان أبيضا مشربا بحمرة، وكان شديد الشبه بأبيه في هيئة جسمه حيث أنه لم يكن بالطويل ولا النحيف بل كان عريضا.
الكرم والعطاء
سمع رجلاً إلى جنبه في المسجد الحرام يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف إلى بيته وبعث إليه بعشرة آلاف درهم.
وحيّت جارية للحسن بطاقة ريحان، فقال لها: « أنت حرّة لوجه الله » فقيل له في ذلك، فقال: « أدّبنا الله فقال: وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا وما وجدت أحسن من إعتاقها ».
وقد قسّم كلّ ما يملكه نصفين، ثلاث مرّات في حياته، وحتّى نعله، ثمّ وزّعه في سبيل الله كما يقول عنه الرّاوي مخاطباً إياه « وقد قاسمت ربّك مالك ثلاث مرّات حتّى النّعل والنّعل ».
وكان من ألقابه الزكي، المجتبى، كريم أهل البيت، ريحانة رسول الله محمد.
حلمه:
روي أنّ شاميا رأى الإمام راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن فسلّم عليه وضحك فقال: « أيّها الشّيخ أظنّك غريباً ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لانّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً ». فلمّا سمع الرّجل كلامه بكى، ثمّ قال: « أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته ».
لمّا مات الحسن، بكى مروان بن الحكم في جنازته، فقال له الحسين، أتبكيه وقد كنت تُجرَّعه ما تُجرّعه؟ فقال: إنّي كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا، وأشار بيده إلى الجبل.
من أقواله وحكمه:
هلاك المرء في ثلاث، الكبر والحرص والحسد، فالكبر هلاك الدين، وبه لعن إبليس، والحرص عدو النفس، به أخرج آدم من الجنة، والحسد رائد السوء، ومنه قتل قابيل هابيل.
لا أدب لمن لا عقل له، ولا مروءة لمن لا همة له، ولا حياء لمن لا دين له، ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل، وبالعقل تدرك الداران جميعاً، ومن حرم العقل حرمهما جميعا.
استشهد الحسن بن علي في 7 صفر سنة 50 هـ عن عمر يناهز الثمانية و أربعين عاماً و استمرت إمامته عشر سنوات
وقد ذكرت الروايات أن الحسن بن علي استشهد متأثراً بالسم، و جعدة بنت الأشعث هي التي دست السم بأمر من أمر من معاوية ، و ذلك ليجعل ابنه يزيد خليفة له بخلاف ما نص عليه الصلح، و مساعيه فشلت في ثلاث مرات و في مرة الرابعة تآمر مع جعدة بنت الاشعث ، زوجة الحسن ، فأَرسل لها مائة ألف درهم ووعدها بالزواج من ابنه يزيد شرط أن تدسّ السمّ للحسن ، فاستجابت و قبلت أن تسمه فوضعت السم في شربة من لبن ، و كان الحسن صائمًا فسقته اللبن المسموم في وقت الافطار فشربه فتقطّع كبده، وطلب طشتاً وتقيأ كبده فيه وأدى ذلك إلى شهادته بعد مرض استمر أربعين يومًا. فوفى معاوية لجعدة بالمال، ولكنّه لم يزوجها من ابنه فقال:" من لم تفِ مع الحسن فلا وفاء لها مع يزيد.
الحسين بن علي بن ابي طالب (عليه السلام) 4 هـ - 61 هـ
الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم
أمه: فاطمة الزهراء بنت رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم
تسميته: ورد في المصادر بأن النبي الأكرم (ص) هو الذي سماه - وبأمر من الله تعالى – حسيناً، حيث قال : «إنّي اُمرتُ أن اسمَي ابنَيَّ هذين حسناً وحسيناً».
وقد أكّدت الروايات أن الحسن والحسين اسمان من أسماء أهل الجنة. لم يكونا في الجاهلية.
كنيته: يكنى بأبي عبد الله وهي الكنية التي كنّاه بها رسول الله كما هو المشهور بين المؤرخين والرجاليين.
وُلد الحسين بن علي في المدينة المنورة بتاريخ 8 يناير سنة 626م، الموافق فيه 3 شعبان سنة 4 هـ ، سماه جده محمد بن عبد الله، الحسين، وأذن له في أذنه، ودعا له، وذبح عنه يوم سابعه شاة، وتصدق بوزن شعره فضة، وكان يقول عنه جده محمد بن عبد الله: حسين مني وأنا منه أحب اللَّه من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط، نشأ الحسين في بيت النبوة بالمدينة ست سنوات وأشهراً، حيث كان فيها موضع الحب والحنان من جده النبي، فكان كثيراً ما يداعبه ويضمه ويقبله، وكان يشبه جده النبي خلقاً وخُلقا، فهو مثال للتدين في التقى والورع، وكان كثير الصوم والصلاة يطلق يده بالكرم والصدقة، ويجالس المساكين، حجَّ خمساً وعشرين حجة ماشياً.
ألقابه:
اشترك الحسين مع أخيه في مجموعة من الألقاب، وانفرد بألقاب أخرى منها: الزكي، الطيّب، الوفي، السيد والمبارك. النافع، الدليل على ذات الله، الرشيد والتابع لمرضاة الله، ومن أشهر ألقابه الزكي ومن أهمها سيد شباب أهل الجنة.
ولقّب في بعض الروايات الشيعية بالشهيد تارة وسيد الشهداء تارة أخرى.
الأولاد علي السجاد، علي الأكبر، علي (عبد الله الرضيع) ، جعفر، فاطمة، سكينة
الخروج إلى مكة والعزم على الذهاب إلى الكوفة:
حاول يزيد بطريقة أو بأخرى إضفاء الشرعية على تنصيبه كخليفة فقام بإرسال رسالة إلى والي المدينة يطلب فيها أخذ البيعة من الحسين الذي كان من المعارضين لخلافة يزيد إلا أن الحسين رفض أن يبايع "يزيد" وغادر المدينة سرًا إلى مكة واعتصم بها، منتظرًا ما تسفر عنه الأحداث.
وصلت أنباء رفض الحسين مبايعة يزيد واعتصامه في مكة إلى الكوفة التي كانت أحد معاقل الفتنة وبرزت تيارات في الكوفة تؤمن أن الفرصة قد حانت لأن يتولى الخلافة الحسين بن علي حفيد رسول الله. واتفقوا على أن يكتبوا للإمام الحسين يحثونه على القدوم إليهم، ليسلموا له الأمر، ويبايعوه بالخلافة. بعد تلقيه العديد من الرسائل من أهل الكوفة قرر الحسين أن يستطلع الأمر فقام بإرسال ابن عمه مسلم بن عقيل ليكشف له حقيقة الأمر. عندما وصل مسلم إلى الكوفة شعر بجو من التأييد لفكرة خلافة الحسين ومعارضة شديدة لخلافة يزيد بن معاوية وحسب بعض المصادر الشيعية فإن 18,000 شخص (تخلو عنه قبل و أثناء المعركة فيما بعد) بايعوا الحسين ليكون الخليفة وقام مسلم بن عقيل بإرسال رسالة إلى الحسين يعجل فيها قدومه. حسب ما تذكر المصادر التاريخية، ان مجيء آل البيت بزعامة الحسين كان بدعوة من أهل الكوفة. قام أصحاب واقارب واتباع الحسين بإسداء النصيحة له بعدم الذهاب إلى ولاية الكوفة ومنهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري وعمرة بنت عبد الرحمن.
الأحوال في الكوفة:
لما وصلت هذه الأخبار إلى الخليفة الأموي الجديد الذي قام على الفور بعزل والي الكوفة النعمان بن بشير بتهمة تساهله مع الاضطرابات التي تهدد الدولة الأموية وقام الخليفة يزيد بتنصيب وال آخر كان أكثر قسوة، اسمه عبيد الله بن زياد قام بتهديد رؤساء العشائر والقبائل في منطقة الكوفة بإعطائهم خيارين، الأول، سحب دعمهم للحسين، والثاني، انتظار قدوم جيش الدولة الأموية ليبيدهم عن بكرة أبيهم. وكان تهديد الوالي الجديد فعالا فبدأ الناس يتفرّقون عن مبعوث الحسين، مسلم بن عقيل شيئا فشيئا لينتهي الأمر بقتل بن عقيل واختلفت المصادر في طريقة قتله فبعضها تحدث عن إلقائه من أعلى قصر الإمارة وبعضها الآخر عن سحبه في الأسواق وأخرى عن ضرب عنقه، وقيل أنه صُلب، وبغض النظر عن هذه الروايات، فإن هناك إجماع على مقتله وعدم معرفة الحسين بمقتله عند خروجه من مكة إلى الكوفة بناء على الرسالة القديمة التي استلمها قبل تغيير موازين القوة في الكوفة، وقد علم الحسين بمقتل مسلم بن عقيل عندما كان في زرود في الطريق إلى العراق.
في الطريق إلى الكوفة:
استمر الحسين وقواته بالمسير إلى أن اعترضهم الجيش الأموي في صحراء كانت تسمى الطف واتجه نحو الحسين جيش قوامه 30000 مقاتل يقوده عمر بن سعد بن أبي وقاص، ووصل هذا الجيش الأموي بالقرب من خيام الحسين وأتباعه في يوم الخميس التاسع من شهر محرم. في اليوم التالي عبأ عمر بن سعد رجاله وفرسانه فوضع على ميمنة الجيش عمر بن الحجاج وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن وعلى الخيل عروة بن قيس وكانت قوات الحسين تتألف من 32 فارسا و40 راجلا وأعطى رايته أخاه العباس بن علي
مقتله:
بعد أن رأى الحسين تخاذل أهل الكوفة وتخليهم عنه كما تخلوا من قبل عن مناصرة مسلم، وبلغ تخاذلهم أنهم أنكروا الكتب التي بعثوا بها إلى الحسين حين ذكرهم بها، فعرض على عمر بن سعد ثلاثة حلول: إما أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه، أو أن يذهب إلى ثغر من ثغور الإسلام للجهاد فيه، أو أن يأتي يزيد بن معاوية في دمشق فيطلب منه الحلين الأولين، فبعث عمر بن سعد لابن زياد خطاباً بهذا إلا أن شمر بن ذي الجوشن رفض وأصر على بن زياد أن يحضروه إلى الكوفة أو يقتلوه، فأرسل بن زياد لعمر بن سعد برفضه.
ومع رفض الحسين للتسليم، بدأ رماة الجيش الأموي يمطرون الحسين وأصحابه الذين لا يزيدون عن 73 رجلا بوابل من السهام وأصيب الكثير من أصحاب الحسين ثم اشتد القتال ودارت رحى الحرب وغطى الغبار أرجاء الميدان واستمر القتال ساعة من النهار، ولما انجلى غبار المعركة، كان هناك خمسين صريعا من أصحاب الحسين. واستمرت رحى المعركة تدور في ميدان كربلاء وأصحاب الحسين يتساقطون ويستشهدون الواحد تلو الآخر واستمر الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسين وأحاطوا بهم من جهات متعددة. حرق جيش يزيد خيام أصحاب الحسين، فراح من بقي من أصحاب الحسين وأهل بيته ينازلون جيش عمر بن سعد ويتساقطون الواحد تلو الآخر وفيهم: ولده علي الأكبر، أخوته، عبد الله، عثمان، جعفر، محمد، أبناء أخيه الحسن أبو بكر القاسم، الحسن المثنى، ابن أخته زينب، عون بن عبد الله بن جعفر الطيار، آل عقيل: عبد الله بن مسلم، عبد الرحمن بن عقيل، جعفر بن عقيل، محمد بن مسلم بن عقيل، عبد الله بن عقيل..
بدأت اللحظات الأخيرة من المعركة عندما ركب الحسين بن علي جواده يتقدمه أخوه العباس بن علي بن أبي طالب حامل اللواء، ولكن العباس وقع شهيداً ولم يبقى في الميدان سوى الحسين الذي أصيب بسهم مثلث ذو ثلاث شعب فاستقر السهم في قلبه، وراحت ضربات الرماح والسيوف تمطر جسد الحسين. وحسب رواية فإن شمر بن ذي جوشن قام بفصل رأس الحسين عن جسده باثنتي عشرة ضربة بالسيف من القفى وكان ذلك في يوم الجمعة من عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة وله من العمر 56 سنة. ولم ينج من القتل إلا علي بن الحسين السجاد وذلك بسبب اشتداد مرضه وعدم قدرته على القتال، فحفظ نسل أبيه من بعده.
وكانت نتيجة المعركة واستشهاد الحسين على هذا النحو مأساة مروعة أدمت قلوب المسلمين وغير المسلمين وهزت مشاعرهم في كل أنحاء العالم، وحركت عواطفهم نحو آل البيت، وكانت سببًا في قيام ثورات عديدة ضد الأمويين.
وقد استلهم عدد كبير من غير المسلمين، ثورة الحسين، ومنهم الزعيم الهندي الراحل غاندي صاحب المقولة المشهورة:" تعلمت من الحسين كيف اكون مظلوما فانتصر
لعلي بن الحسين ألقاب عدة، لُقب بالسجاد لكثرة سجوده ومن ضمن ألقابه: زين العابدين وسيّد الساجدين والزكي والأمين وذو الثفنات وسيد العابدين.
أبناؤه:
محمد الباقر، عبد الله، الحسن، الحسين، زيد، عمر، الحسين الأصغر، عبد الرحمن، سليمان، علي، محمد الأصغر، علية، فاطمة، عائشة، خديجة، أم كلثوم
إمامته:
مدة إمامته 35 عاماً من سنة 61 إلى 95 هجرية. وجاءَ في تسميته بذي الثفنات، أنّ الإمام الباقر قال : « كان لابي في موضع سجوده آثار ثابتة وكان يقطعها في السنة مرتين، في كل مرة خمس ثفنات، فسمي ذا الثفنات لذلك »
في كربلاء:
تؤكد المصادر التاريخية أنّ علي زين العابدين كان حاضراً في كربلاء إذ شهد واقعة الطفّ بجزئياتها وتفاصيلها، وكان شاهداً عليها ومؤرخاً لها. إن المؤكد في الكثير من المصادر التاريخية، أو المتفق عليه فيها أنه كان يوم الواقعة مريضاً أو موعوكاً والظاهر هو أنّ الإمام السجاد خرج مع أبيه الإمام الحسين وأهل بيته من المدينة إلى مكة، بعد أن رفض الإمام الحسين إعطاء البيعة ليزيد وكان ذلك في رجب أو شعبان من سنة 60 للهجرة. وفي 3 من ذي الحجة سنة ٦٠ هـ (وقيل 8 منه، أي يوم التروية) خرج ركب أهل البيت من مكة متوجهاً نحو العراق. وفي كربلاء ذاق علي بن الحسين، مع زوجته فاطمة بنت الحسن وابنه محمد الباقر، مرارة عطش الطف وعانى من مرضه مدة 8 أيام متوالية أي من 2 محرم حتى 10 منه والظاهر أنّ المرض امتدّ به حتى وصوله الكوفة وسمِع جميع خطب أبيه الإمام الحسين الموجّهة لعساكر بني أمية، ورأى أباه الحسين يصلي ليلة العاشر من محرم ويتلو كتابه حتى طلوع الفجر وكانت تلك سجية الحسين في كثرة صلاته.
وفي ظهر يوم العاشر من محرم، دخل الحسين على أبنه وأوصاه بوصاياه، وسلّمه بعضاً من مواريث الإمامة كخاتمه، وكانت آخر وصية له: «يا بني، أوصيك بما أوصى به جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً حين وفاته، وبما أوصى جدّك عليّ عمك الحسن، وبما أوصاني به عمّك إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله». ثم ودعه ومضى إلى ميدان المعركة الأخيرة التي استشهد فيها. وكان السجاد مريضاً يوم عاشوراء، فلم يكن قادراً على القتال وقيل أنه قاتل قليلاً ثم أتعبه المرض، ولكنه بعيد. يقول ابن سعد في طبقاته: «كان علي بن الحسين مع أبيه بطف كربلاء وعمره إذ ذاك 23 سنة لكنه مريضاً ملقى على فراشه وقد أنهكته العلّة والمرض ولما استشهد والده، قال شمر بن ذي الجوشن: اقتلوا هذا الغلام؛ فقال بعض أصحابه: أنقتل فتى حدثا مريضا لم يقاتل؟ فتركوه».
علي بن الحسين في الكوفة:
عندما أدخلوا علي بن الحسين على عبيد الله بن زياد في الكوفة، سأله من أنت؟ فقال: «أنا عليّ بن الحسين»، فقال له:
أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟ فقال علي السجاد: «قد كان لي أخ يسمّى عليّاً قتله الناس، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال علي زين العابدين: (الله يتوفّى الأنفس حين موتها)، فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للردّ عليّ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه.
فتعلّقت به عمّته زينب وقالت: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: لا والله لا اُفارقه فإن قتلته فاقتلني معه، فقال لها علىّ: اسكتي يا عمّة حتى اُكلّمه، ثمّ أقبل عليه فقال: أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة؟ ثمّ أمر ابن زياد بزين العابدين وأهل بيته فحملوا إلى دار بجنب المسجد الأعظم.
مكانة الإمام زين العابدين العلمية:
لقد عاش علي بن الحسين في المدينة المنورة، حاضرة الاِسلام الاُولى، ومهد العلوم والعلماء، في وقت كانت تحتضن فيه ثلّة من علماء الصحابة، مع كبار علماء التابعين.
ومما قيل فيه، قول الزهري: (ما كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين، وما رأيت أحداً كان أفقه منه). وممن عرف هذا الاَمر وحدّث به الفقيه.
و من العلماء الذين تتلمذوا على يديه، و ينقلون عنه الحديث، و كما أحصاهم الذهبي : ابنه أبو جعفر محمد الباقر وعمر، وزيد، وعبد الله، والزهري، وعمرو بن دينار، والحكم ابن عُتيبة، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد، وأبو الزناد، وعلي بن جدعان، ومسلم البطين، وحبيب بن أبي ثابت، وعاصم بن عبيدالله، وعاصم بن عمر ابن قتادة بن النعمان، وأبوه عمر بن قتادة، والقعقاع بن حكيم، وأبو الاَسود يتيم عروة، وهشام بن عروة بن الزبير، وأبو الزبير المكي وأبو حازم الاَعرج، وعبد الله بن مسلم بن هرمز، ومحمد بن الفرات التميمي، والمنهال بن عمرو، وخلق سواهم. وقد حدّث عنه أبو سلمة وطاووس، وهما من طبقته. غير هؤلاء رجال من خاصة شيعته من كبار أهل العلم، منهم: أبان بن تغلب، وأبو حمزة الثمالي، وغيرهم ممن أخذوا عننه علوم الشريعة من تفسير القرآن الكريم والعلم بمحكمة ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وأحكامه وآدابه، والسُنّة النبوية الشريفة روايةً وتدويناً، إلى أحكام الشريعة، حلالها وحرامها وآدابها، إلى فضيلة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
آثاره العلمية:
الصحيفة السجادية: كتاب يحوي على الأدعية التي يطلب فيها العفو من الله تعالى وكرمه والتوسّل إليه. وقد قال الشيخ الطنطاوي صاحب التفسير المعروف: " ومن الشقاء إنا إلى الآن لم نقف على هذا الأثر القيم الخالد في مواريث النبوة وأهل البيت، وإني كلما تأملتها رأيتها فوق كلام المخلوق، دون كلام الخالق" (مقدمة الصحيفة بقلم العلامّة المرعشي 28).
رسالة الحقوق: وهي رسائل في أنواع الحقوق، حيث يذكر الإمام فيها حقوق الله سبحانه على الإنسان، وحقوق نفسه عليه، وحقوق أعضائه من اللسان والسمع والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج، ثمّ يذكر حقوق الأفعال، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدي... التي تبلغ خمسين حقّاً، آخرها حق الذمّة.
الخلفاء المعاصرون لعلي بن الحسين:
معاوية بن أبي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
شهادته سلام الله عليه:
كانت شهادة الإمام زين العابدين صلوات الله وسلامه عليه في يوم 25 من شهر محرم الحرام عام 94 للهجرة.
وقد سمّه الوليد بن عبد الملك، فقضى نحبه مسموماً شهيداً، ودفن في البقيع الغرقد حيث مزاره الآن، وقد هدم الوهابيون تلك المزارات الطاهرة، وقيل ان الذي سمه هشام بن عبد الملك، ويحتمل ان هشام حرض اخاه على قتل الإمام عليه السلام ـ كما احتمل ذلك الشيخ عباس القمي في منتهى الآمال ـ ومنشأه هو عدم تمكن هشام من استلام الحجر الأسود وتمكن الإمام في الحادثة المعروفة فحقد هشام وحرض أخاه على ذلك.
هو: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وأمه:
فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
ولادته ونشأته:
ولد محمّد الباقر في المدينة المنورة يوم الجمعة بتاريخ 13 مايو سنة 677مـ الموافق فيه 1 رجب سنة 57 هـ، وقيل الثالث من صفر في نفس السنة، وكانت ولادته قبل أربع سنوات من واقعة الطف، أفاد عدد من المصادر الشيعية والسّنيّة أنّ جدّه النّبي محمّد تنبّأ بولادة محمّد الباقر وسمّاه بمحمّد، فقد جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري: «كنت مع رسول الله والحسين في حجره وهو يلاعبُه. فقال يا جابر يُولَد لابني الحسين ابن يقال له علىّ. إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم سيد العابدين، فيقوم علي بن الحسين. ويُولَد لعلىٍّ ابنٌ يُقال له محمّد. يا جابر فإن رأيته فاقرأه منّى السّلام» وأنَّ النّبي هو من كنّاه بالباقر، كما جاء في الحديث أن رسول الله قال ذات يوم لجابر بن عبد الله الانصاري: «يا جابر، إنّك ستبقى حتّى تلقى ولدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف في التوراة بالباقر. فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام»
قد وصفه معاصروه بأنّ شمائله كشَمائل رسول الله وأنّه مربوع القامة، جعد الشّعر، أسمر، له خال على خده وخال أحمر في جسده، ضامر الكشح، حسن الصوت ومطرق الرأس، وروي أنّه كان على جبهته وأنفه أثر السجود، وكان يختضب بالحناء والكتم، ويأخذ عارضيه ويبطن لحيته وكان يلبس جبّة خزّ ومطرف خزّ، ويرسل عمامته خلفه وكان نقش خاتمه «العزة لله» ويقول الصّدوق أنّه كان يتختم بخاتم جدّه الإمام الحسين وكان نقشه «إنّ الله بالغ أمره».
والده علي بن الحسين زين العابدين رابع الأئمة عند الشيعة و من المعصومين وأهل البيت في اعتقاد الشيعة وأمّه فاطمة بنت الحسن بن علي سيّد شباب أهل الجنة، وتكنّى أمّ عبد الله وكانت من سيدات نساء بني هاشم، ويقول فيها الجعفر الصادق: «كانت صدّيقة لم تدرك في آل الحسن مثلها». فيقول العلامة محسن الأمين أنّ محمّد الباقر هاشميّ من هاشميين وعلويّ من علويين فاطميّ من فاطميين، لأنّه أوّل من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين.
نشأ الإمام الباقر في بيت الرسالة وعاش مع جدّه الحسين بن علي أربع سنين ومع أبيه تسعًا وثلاثين سنة وقد لازمه وصاحبه طيلة هذه المدة فلم يفارقه.
يقول المفيد أنّه كان من بين إخوته خليفة أبيه ووصيّه والقائم بالإمامة -بالمعنى الشيعي- من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد، والسؤدد، وكان أنبههم ذكرًا وأجلّهم في العامة والخاصة وأعظمهم قدرًا ولم يظهر عن أحد عن ولد الحسن والحسين من علم الدين والآثار والسّنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر. وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء الفقهاء المسلمين وكتبوا عنه تفسير القرآن.
زوجاته:
كان لدى الإمام الباقر من الزوجات الدائمة اثنتان وهما:
أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي، وقيل إن اسمها فاطمة، وأُمّ فروة كنيتها وهي أُمّ الإمام جعفر الصادق وعبد اللّه. وكانت من ذوات الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وقال الإمام جعفر الصادق: «كانت أُمّي ممن آمنت واتّقت وأحسنت، واللّه يحبّ المحسنين».
أم حكيم بنت أسيد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفية. وهي أُمّ إبراهيم وعبيد اللّه.
أولاده:
جعفر الصادق، عبد الله، إبراهيم، عبيد الله، علي، زينب، أم سلمة.
علمه:
كان زاهداً عابداً وقد بلغ من العلم درجةً عاليةً سامية، حتى إن كثيراً من العلماء كانوا يرون في أنفسهم فضلاً وتحصيلاً، فإذا جلسوا إليه أحسُّوا أنهم عِيالٌ عليه، وتلاميذٌ بين يديه، ولذلك لُقِّب بالباقر: من بَقَر العلم أي شَقَّه، واستخرج خفاياه، وقد كان إلى جانب علمه من العاملين بعلمهم؛ فكان عفَّ اللسان، طاهرَ.
من وصاياه وحكمه:
أيّها الناس: أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أوّلكم، وبنا ختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجّل فإنّ لنا ملكاً مؤجّلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة، يقول الله عزّ وجل: (والعاقبة للمتقين).
يا ذي الهيئة المعجبة، والهيم المعطنة: ما لي أراكم أجسامكم عامرة، وقلوبكم دامرة، أمّا والله لو عاينتم ما أنتم ملاقوه، وانتم إليه صائرون، لقلتم: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
أوصيك بخمس: إن ظلمت فلا تظلم، وإن خانوك فلا تخن، وإن كذبت فلا تغضب، وإن مدحت فلا تفرح، وإن ذممت فلا تجزع، وفكّر فيما قيل فيك، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله جلّ وعزّ عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة ممّا خفت من سقوطك من أعين الناس، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك، فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك.
شهادته:
جاء في بعض المرويات أنّ سبب إقدام السلطة على قتل الإمام عليه السلام هو وشاية زيد بن الحسن إلى عبد الملك بن مروان، وأنّه قال له حين دخل عليه: أتيتك من عند ساحر كذّاب لا يحلّ لك تركه، وأنّ عنده سلاح رسول الله وسيفه ودرعه وخاتمه وعصاه وترِكته، ممّا أثار حفيظة عبد الملك بن مروان، وذلك لأنّ زيداً خاصم الإمام الباقر عليه السلام في ميراث رسول الله إلى القاضي، ثمّ أنّ عبد الملك بعث بسرج إلى الإمام الباقر عليه السلام، فلمّا أسرج له نزل متورّماً، وعاش ثلاثاً، ثمّ مضى إلى كرامة ربّه.
هو: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
كناه وألقابه: أبو عبد الله (وهي أشهرها)، وأبو إسماعيل، وأبو موسى. ولقب بالصادق، والفاضل، والطاهر، والقائم، والكامل، والمنجي.
أمه هي: أم فروة فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة.
مولده ونشأته:
وُلد جعفر الصادق في المدينة المنورة بتاريخ 24 أبريل سنة 702م، الموافق فيه 17 ربيع الأول سنة 80 هـ، وهي سنة سيل الجحاف الذي ذهب بالحجاج من مكة، تنص بعض المصادر على أن ولادته كانت يوم الجمعة عند طلوع الشمس وقيل أيضاً يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وقالوا سنة ست وثمانين، وقيل في السابع عشر منه، أفاد عدد من علماء الشيعة أن النبي محمد تنبّأ بولادة جعفر الصادق، وأنَّه هو من كنّاه بالصادق، فقد جاء في الحديث: «إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسموه الصادق، فإن الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدَّعي الإمامة اجتراءً على الله وكذباً عليه، فهو عند الله جعفر الكذاب المفتري».
إمامته:
آلت الإمامة - بالمعنى الشيعي- إلى جعفر الصادق عندما بلغ ربيعه الرابع والثلاثين (34 سنة)، وذلك بعد أن توفي والده مسموماً (وفق بعض المصادر)، مثل كتاب الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي، وكان ذلك في ملك هشام بن عبد الملك، وتشير المصادر إلى أن الأخير كان وراء سمّ الباقر، وتنصّ مصادر أخرى على أنَّ جعفر الصادق قال: «قال لي أبي ذات يوم في مرضه: "يا بني أدخل أناساً من قريش من أهل المدينة حتى أشهدهم"، فأدخلت عليه أناساً منهم فقال: "يا جعفر إذا أنا متّ فغسلني وكفني، وارفع قبري أربع أصابع، ورشّه بالماء"، فلما خرجوا قلت له: "يا أبت لو أمرتني بهذا صنعته ولم ترد أن أُدخل عليك قوماً تشهدهم"، فقال: "يا بني أردت أن لا تُنازَع، وكرهت أن يُقال أنه لم يوصِ إليه، فأردت أن تكون لك الحُجة"».
زوجاته وأبناؤه:
تزوَّج الصادق من نساءٍ عديدات، منهنّ: فاطمة بنت الحسين الأثرم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان أبوها ابن عم زين العابدين، ومنهن حميدة البربريَّة والدة الإمام موسى الكاظم، واتخذ إماء أخريات. وكان له عشرة أولاد، وقيل أحد عشر ولداً؛ سبعة من الذكور وأربع إناث، فأما الذكور فهم: إسماعيل (وإليه ينسب المذهب الإسماعيلي)، وعبد الله، وموسى الكاظم، وإسحاق، ومحمد، وعلي (المعروف بالعريضي)، والعبَّاس. وأما الإناث فهن فاطمة وأسماء وفاطمة الصغرى وأم فروة، كانت زوجة الصادق الأولى هي فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهي أم إسماعيل وعبد الله وأم فروة، وبعد وفاتها ابتاع الإمام أمَةً أندلسية، يرجع أصلها إلى بربر المغرب تُدعى (حميدة بنت صاعد)، فأعتقها وعلَّمها أصول الشرع والدين ثم تزوَّجها، فولدت له موسى ومحمد، وقد أجلّها الشيعة وبالأخص نساؤهم؛ لورعها وتقواها وحكمتها، وعُرفت باسم " حميدة خاتون" و"حميدة المصفّاة" بسبب ما قاله زوجها عنها: «حميدة مصفّاة من الأدناس كسبيكة الذهب».
مكانته العلمية:
عُرف عن الإمام الصادق اطّلاعه الواسع وعلمه الغزير، حيث شهد له بذلك الأكابر من العلماء، منهم تلميذه الإمام أبو حنيفة حيث نوّه بعلم أستاذه الإمام جعفر الصادق ومقدار فضله حينما سُئل: «"من أفقه من رأيت؟" فأجاب قائلاً: "جعفر بن محمد، لمَّا أقدمه المنصور بعث إليَّ فقال: يا أبا حنيفة إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فهيّء له مسائلك الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليَّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر [الصادق]ما لم يدخلن لأبي جعفر [المنصور]، فسلمت عليه فأومأ إليّ فجلست، ثم التفتّ إليه فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة، فقال: نعم أعرفه. ثم التفتّ إليَّ فقال: ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك، فجعلت ألقي عليه ويجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا، وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة فما أخلّ منها بشيء!" ثم قال أبو حنيفة: "أليس قد روينا: أعلم الناس، أعلمهم باختلاف الناس؟!"».
الإمام الصادق كما عرفه العلماء:
أقوال علماء السنَّة فيه
يرى أهل السنة والجماعة أن جعفر الصادق إمام من أئمة المسلمين، وعالم من علمائهم الكبار، وأنه ثقة مأمون، وأقوال أئمة الحديث فيه طافحة في الثناء والمدح، ومن بعض الشهادات التي وردت من علماء أهل السنة بحق الإمام جعفر بن محمد الصادق:
1ـ الذهبي: حيث قال في معرض حديثه عن الإمام الصادق: «جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي أبو عبد اللّه أحد الأئمة الأعلام برّ صادق كبير الشأن وليس هو بالمكثر إلا عن أبيه، وكان من جلَّة علماء المدينة، وحدَّث عنه جماعة من الأئمة، منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما.».
2 ـ النووي: قال «روى عنه محمّد بن إسحق، ويحيى الأنصاري، ومالك، والسفيانيان، وابن جريج، وشعبة، ويحيى القطّان، وآخرون، واتفقوا على إِمامته وجلالته وسيادته، قال عمرو بن أبي المقدام: كنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنه من سلالة النبيّين.»
3 ـ ابن خلكان: «أحد الأئمة الإثني عشر على مذهب الإماميّة، وكان من سادات أهل البيت، ولقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يذكر.»
4 ـ الشبلنجي: «ومناقبه كثيرة تكاد تفوت حدّ الحاسب، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب».
5 ـ محمد الصبان: «وأمّا جعفر الصادق فكان إِماماً نبيلاً. وقال: وكان مُجاب الدعوة إِذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إِلا وهو بين يديه».
6 ـ سبط ابن الجوزي: «قال علماء السير: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة» وقال: «ومن مكارم أخلاقه ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن الشقراني مولى رسول اللّه قال: خرج العطاء أيام المنصور ومالي شفيع، فوقفت على الباب متحيّراً وإِذا بجعفر بن محمّد قد أقبل فذكرت له حاجتي، فدخل وخرج وإذا بعطائي في كمّه فناولني إِيّاه، وقال: إِن الحَسَن من كلّ أحد حَسَن، وأنه منك أحسن؛ لمكانك منّا، وأن القبيح من كلّ أحد قبيح، وأنه منك أقبح؛ لمكانك منّا. وإِنما قال له جعفر ذلك؛ لأن الشقراني كان يشرب الشراب، فمن مكارم أخلاق جعفر أنه رحّب به وقضى له حاجته مع علمه بحاله، ووعظه على وجه التعريض، وهذا من أخلاق الأنبياء».
7 ـ الشيخ محمَّد بن طلحة الشافعي (ت 652 هـ): «هو من عُظماء أهل البيت، ذو علوم جَمَّة، وعبادة موفورة، وأوراد متواصلة، وزهادة بيِّنة، وتلاوة كثيرة، يتتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه...».
8 ـ مالك بن أنس إمام المالكية: «وما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمّد الصادق، علماً، وعِبادة، وَوَرَعاً»، ويقول في كلمة أخرى: «ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمّد فضلاً وعلماً وورعاً، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء البلاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون ربّهم، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد».
9 ـ ابن الصبّاغ المالكي: «كان جعفر الصادق - من بين أخوته - خليفةَ أبيه، ووصيَّه، والقائمَ بالإمامة بعده، برز على جماعة بالفضل؛ وكان أنبهَهُم ذِكراً، وأجلَّهُم قدراً...».
10 ـ حسن بن زياد: «سمعت أبا حنيفة و[قد]سُئل من أفقه من رأيت؟ فقال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد»
تلامذته:
كان جعفر الصادق أحد أبرز العلّامات في عصره، فإلى جانب علومه الدينيَّة، كان عالماً فذّاً في ميادين علوم دنيويَّة عديدة، مثل: الرياضيَّات، والفلسفة، وعلم الفلك، والخيمياء والكيمياء، وغيرها. وقد حضر مجالسه العديد من أبرز علماء عصره وتتلمذوا على يده، ومن هؤلاء أشهر كيميائي عند المسلمين أبو موسى جابر بن حيَّان المُلقب بأبي الكيمياء، كما حضر مجالسه وتلقّى من علومه اثنان من كبار الأئمة الأربعة هما الإمامان أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس[45]، وقد نقل الأخير 12 حديثاً عن جعفر الصادق في مؤلفه الشهير "الموطأ"، بالإضافة إلى واصل بن عطاء مؤسس مذهب المعتزلة.
وفاته:
إستشهد الإمام جعفر الصادق سنة 148 هـ، الموافقة لسنة 765م وتفيد الكثير من المصادر بأنَّ الصادق قضى نحبه مسموماً على يد أبي جعفر المنصور الذي كان يغتاظ من إقبال الناس على الإمام والالتفاف حوله، حتّى قال فيه: «هذا الشّجن المُعتَرِضُ في حُلوقِ الخلفاءِ الّذي لا يجوزُ نفيُهُ، ولا يحلُّ قتلُهُ، ولولا ما تجمعني وإيّاه من شجرة طاب أصلُها وبَسَقَ فرعُها وعذُبَ ثمرُها وبورِكَت في الذرّية، وقُدِّست في الزُّبر، لكان منِّي ما لا يُحمدُ في العواقبِ، لِمَا بلغني من شدّة عيبِهِ لنا، وسوءِ القول فينا»، وأنه حاول قتله أكثر من مرَّة، وأرسل إليه من يفعل ذلك، لكن كل من واجهه هابه وتراجع عن قتله، كما تفيد تلك المصادر أنَّ المنصور كان يخشى أن يتعرَّض للإمام؛ لأن ذلك سيؤدي لمشاكل جمَّة ومضاعفات كبيرة، ومما قيل عن الفتور الذي كان بين الصادق والمنصور، أنَّ الأخير كتب له يقول: "لِمَ لا تزورنا كما يزورنا الناس؟!"، فأجابه جعفر الصادق: «ليس لنا في الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك بها وفي نقمة فنعزيك بها». فكتب إليه مجدداً: "تصحبنا لتنصحنا". فكتب الصادق إليه: «من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك».
هو موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم.
ولادته:
ولد الإمام في قرية يُقال لها الأبواء وكانت ولادته يوم الأحد السابع من شهر صفر من سنة 128 وقيل سنة 129 هجرية، في أيام حكم مروان بن محمد.
وبعد فترة وجيزة من ولادته ارتحل أبوه الإمام جعفر الصادق إلى يثرب فأطعم الناس إطعاماً عاماً لمدة ثلاثة أيام تيمناً بولادة موسى الكاظم.
وتشير بعض المصادر إلى أن الإمام الصادق كان يوليه عناية ومحبة خاصة حتى أنه حينما سُئل عن مدى حبه لولده الكاظم أجاب: "وددت أن ليس لي ولدٌ غيره لئلا يشركه في حبي أحد".
ألقابه: الكاظم، باب الحوائج، العبد الصالح
أمه: حميدة البربرية.
دليل إمامته:
عن صفوان الجمال: "عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال له منصور بن حازم: بأبي أنت وأمي إن الأنفس يغدا عليها ويراح، فإذا كان ذلك فمن؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: إذا كان ذلك فهو صاحبكم وضرب بيده على منكب أبي الحسن عليه السلام الأيمن - فيما أعلم - وهو يومئذ خماسي وعبد الله بن جعفر جالس معنا.»
حياته العلمية:
كان عمر الإمام موسى بن جعفر 55 عاماً، قضى منها 20 عاماً في حياة والده جعفر الصادق و35 بعد وفاته.
وقد عاش تلك الفترة في زمن أبيه وارتاد مدرسته العلمية الكبرى التي أنشأها في الكوفة، والتي خرّجت الآلاف من العلماء والفلاسفة والفقهاء والمحدثين، حتى قال الحسن الوشّاء عند مروره بمسجد الكوفة: «أدركت في هذا المسجد 900 شيخ كلهم يقول: "حدثني جعفر بن محمد"»، وأما منزل أبيه الصادق فكان أيضاً مدرسة علمية يرتادها كبار العلماء والفقهاء، قال محمد صادق نشأت :«كان بيت جعفر الصادق كالجامعة يزدان على الدوام بالعلماء الكبار في الحديث والتفسير والحكمة والكلام، فكان يحضر مجلس درسه في أغلب الأوقات ألفان، وفي بعض الأحيان أربعة آلاف من العلماء المشهورين. وقد ألّف تلاميذه من جميع الأحاديث والدروس التي كانوا يتلقّونها في مجلسه مجموعة من الكتب تعدّ بمثابة دائرة علميّة للمذهب الجعفري.» وتربى الكاظم في هذا الجوّ العلمي المشحون بالمناظرات والنقاشات.
وكانت الفترة التي عاشها في أواخر حياة والده الصادق وبعد وفاته هي فترة علمية حساسة جداً في تاريخ المسلمين حيث سيطرت فيها الفلسفة اليونانية على الفكر العام، وكثرت فيها الاتجاهات الفكرية وتنوّعت، وامتد ذلك إلى صلب العقيدة والدين، فمن حركات تدعو إلى الإلحاد ومن حركات فلسفية تشكك في بعض العقائد الدينية، فكان على الكاظم أن يتحمل مسؤوليته من الناحية العلمية. فواصل منهج أبيه الصادق في رئاسة المدرسة التي أسسها هو وأبوه الباقر. وكانت مدرسته في داره في المدينة وفي المسجد كما كان آباؤه، فحضرها كثير من أعلام المسلمين، وتخرج من هذه المدرسة نخبة من الفقهاء ورواة الحديث، قدّر عددهم بـ(319) عالماً وفقيهاً.
حياته السياسية:
كانت العلاقة التي تربط العلويين بالخلافة متأزمة دائما فقد ورث الامام موسى الكاظم تاريخا داميا من تعامل السلطة مع ابائه واجداده، فكونهم ائمة للشيعة ورؤساء لتلك الجماعة التي تمثل اشرس فئات المعارضة للحكم العباسي والأموي جر عليهم الكثير من التضييق والاضطهاد الذي وصل في كثير من الاحيان إلى التصفية الجسدية.
أُعتقل موسى الكاظم في زمن حكم الخليفة المهدي الذي امر عامله على المدينة باعتقال موسى الكاظم وارساله لبغداد، لكن سرعان ما أطلق سراح الكاظم واعيد إلى المدينة.
وتقول الروايات ان المهدي رأى حلما أفزعه فقام بإطلاق سراح الكاظم على الفور.
ومع تربع الخليفة موسى الهادي على سدة الحكم، زاد التشنج مع العلويين ليتوج ذلك في موقعة فخ التي ذهب ضحيتها ثلة من اعيان العلويين، الامر الذي زاد من التضييق على الامام الكاظم الذي كان يراه الخليفة المسؤول والمحرض للحسين بن علي بن الحسن المثلث واصحابه المقتولين في فخ حيث قال الخليفة الهادي: والله ما خرج حسين إلا عن أمره، ولا اتبع الا محبته، لأنه كان صاحب الوصية في اهل هذا البيت، قتلني الله ان ابقيت عليه، لكن اجل الخليفة الهادي لم يسمح له بتنفيذ تهديده حيث توفي بعد مدة قليلة من وقعة فخ.
الاعتقال والسجن:
استلم الحكم بعد وفاة الهادي أحد اقوى الخلفاء العباسيين هارون الرشيد الذي لم يختلف كثيرا عن ابائه في الحرص على التضييق على الشيعة وعلى راسهم الامام موسى الكاظم. حيث يرى الشيعة ان الائمة الاثنا عشر هم الخلفاء الحقيقيين وان لا شرعية لأي حاكم في وجودهم. وقد لعب الوشاة دورا هاما في تأجيج الوضع حيث دخل علي بن إسماعيل على هارون الرشيد وقال: "ما ظنت ان في الارض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يُسلم عليه بالخلافة" وزاد على ذلك فابلغ الخليفة بان الاموال تُحمل اليه من المشرق والمغرب وبان له بيوتاً من المال.
ولم يكن لهارون الرشيد ان يتهاون مع ما يمكن ان يهدد كرسيه وحكم آل عباس فامر باعتقال موسى الكاظم، فاعتقل وهو يصلي في المسجد النبوي وكان اعتقاله في 20 من شوال 179هـ. وكانت السلطات حريصة على عدم وقوع اضطرابات فأرسلت موكبين وهميين احدهما للبصرة والاخر للكوفة ليوهموا الناس عن مسير موسى الكاظم ووجهة اعتقاله، وأمر هارون الرشيد بتسيير موسى الكاظم ليلا وبشكل سري إلى البصرة.
أودع الكاظم في سجن البصرة تحت اشراف رئيس سجنها عيسى بن أبي جعفر، ويبدو ان شخصية الكاظم الكاريزمية قد اثرت على عيسى ومن معه بالسجن، فكان لهذا اثر في قدرة العلماء الوصول اليه بشكل سري ورواية الحديث عنه. وقد تكون السلطات في بغداد وجلت من انباء تأثير الكاظم على من حوله فطلب الخليفة من عيسى بن أبي جعفر ان يغتال الكاظم، فرد عيسى برسالة يقول فيها بانه اختبر الكاظم ولم يجد منه سوءا ويطلب اعفاءه من تنفيذ هذه المهمة، فامر الرشيد بحمل الكاظم إلى بغداد بعد ان قضى عاماً بحبس البصرة.
لما وصل الكاظم إلى بغداد لم يحبس في السجن مع عامة الناس وانما حبس في بيت الفضل بن الربيع وقد يكون السبب من ذلك الخشية من تأثير الكاظم على الناس، وبعد فترة غير معروفة امر الرشيد بإطلاق سراح الكاظم.
وتقول المصادر ان اطلاق السراح هذا كان بسبب رؤيا راها الرشيد في منامه. لكن الكاظم لم يُغادر بغداد ويذهب العديد من المؤرخين بانه كان تحت الاقامة الجبرية فيها. وخلال هذه الفترة كان يلتقي بصورة متواصلة مع الرشيد ويخوضون المناقشات الدينية.
أعاد هارون الرشيد اعتقال الكاظم مرة اخرى وحبس عند الفضل بن الربيع مجدداً، لكن الفضل عمد إلى الترفيه عن الامام وعدم اذيته. كما اوعز هارون الرشيد إلى الفضل باغتيال الكاظم الا ان الفضل امتنع وماطل في ذلك. وقد وصلت اخبار الترفيه الذي فيه الكاظم إلى هارون الرشيد الذي كان في الرقة آنذاك. فامر بمعاقبة الفضل وإرسال الكاظم إلى السندي بن شاهك. وبالفعل تم اعتقال الفضل وتجريده وجلده مائه سوط امام الناس حتى كاد يفقد عقله.
وفاته:
نُقل الكاظم إلى سجن السندي بن شاهك حسب اوامر الرشيد وقد جهد السندي في ارهاق الكاظم والتنكيل به والتضييق عليه بكل الوسائل ابتغاء لمرضاة الخليفة. وذهب المؤرخون إلى ان الكاظم قد سجن في بيت السندي. وعلى الرغم من التضييق في السجن فان الكاظم استطاع استمالة خادم السندي وغيره الذين كانوا يساعدون الكاظم على الاتصال بالعلماء واجابة مسائلهم الدينية، ولم يدم هذا الوضع طويلاً حتى توفي الكاظم في سجنه وكان ذلك عام 183هـ، ويذهب الرواة على الكاظم لم يمت حتف انفه وانما جرى تسميمه والمشهور ان هارون الرشيد عمد إلى وضع السم في الرطب وامر السندي ان يجبر الكاظم على اكله.
عمدت السلطات على تبرئة نفسها من اي مسؤولية محتملة، فعمد السندي إلى جمع 80 شخصا من السجن قبل وفاة الكاظم وطلب منهم ان يطلعوا على حال الكاظم وان يسألوه ما إذا كان احدا قد اذاه فالتفت الكاظم للشهود وقال: أشهدوا على أنى مقتول بالسم منذ ثلاثة أيام، إشهدوا أنى صحيح الظاهر، لكني مسموم وسأحمر في هذا اليوم حمرةً شديدة، وأبيض بعد غد، وأمضي إلى رحمة الله ورضوانه فأصيب السندي بالصدمة.
واجرت الشرطة التحقيق في وفاة الكاظم فجلبت 25 ممن يعرفون الكاظم شخصياً فقام السندي بالكشف عن ملابسه وسؤالهم "أترون فيه ماتنكرونه؟" فأجابوا بلا وتم تسجيل شهاداتهم. ثم جلب غيرهم ممن شهد على عدم وجود اثر جرح في جسد الكاظم. ثم جمع هارون الرشيد شيوخ الطالبيين والعلويين وموسى الكاظم مسجى فقال لهم: هذا موسى بن جعفر قد مات حتف انفه،
وما كان بيني وبينه ما استغفر الله منه فانظروا اليه. فنظروا إلى جثمانه من دون ان يجدوا فيه اثر جرح او خنق.
ووضع بعد ذلك على جسر الرصافة في بغداد تنظر له المارة. ويرى الشيعة ان القصد من ذلك هو اذلال الامام والتشهير به والحط من كرامته. وقد اثارا هذا قريحة الشعراء فقال الشيخ محمد الملا:
«من مبلغ الإسلام أن زعـيمه قد مات في سجن الرشيد سميماً
فالغيُ بات بموته طرب الحشا وغـدا لمأتمه الرشاد مـقيما
مُلقى على جســر الرصافة نعشه فيه الملائك أحدقوا تعظيما»
ثم حمل الجنود نعشه وصاروا يصيحون: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة انه لا يموت، فانظروا له ميتا. وحُمل الجثمان وسط الجماهير المجتمعة ليوارى الثرى في المقبرة المعروفة بمقبرة قريش.
علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم.
أشهر ألقابه: المرتضى، ثامن الحُجج.
كنيته: أبو الحسن.
أبوه: موسى الكاظم.
أمه: تُكتم وتسمى أيضا طاهرة أو نجمة وهي أم ولد ولقبها شقراء وكنيتها أم البنين.
ولادته: رُوي أنّ ولادته كانت في يوم الخميس أو الجمعة 11 من ذي الحجة سنة 148هجرية كما اختار الشيخ الكليني أن ولادته كانت عام 148هـ، وهو الرأي المشهور بين الأعلام والمؤرخين.
محل الولادة: المدينة المنورة.
مدة إمامته: (21) سنة من (25) رجب سنة (183) وحتى شهر صفر سنة (203) هجرية.
نقش خاتمه: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، حسبي الله.
زوجاته: سبيكة وهي أم ولد وتُكّنى بأم الحسن.
شهادته: يوم الثلاثاء (17) صفر أو يوم الجمعة (25) صفر سنة (203) هجرية و قيل آخر شهر صفر.
سبب شهادته: السم من قبل المأمون بن هارون الرشيد العباسي.
مدفنه: مدينة مشهد في خراسان / إيران.
أولاده:
اختلفت كلمة الباحثين والمؤرخين في عدد أولاده وأسمائهم، فقد ذكروا له خمسة من الذكور وبنتاً واحدة، وهم: محمد القانع، حسن، جعفر، إبراهيم، حسين وعائشة. وذكر ابن الجوزي أنّ له أربعة من الذكور هم: محمد (أبو جعفر الثاني)، جعفر، أبو محمد الحسن، إبراهيم ومن الإناث واحدة لم يذكر اسمها، وقيل أنّ له ابنٌ دُفن في مدينة قزوين. كان عمره سنتين أو أقلّ، والمعروف حالياً باسم حسين. توفي عندما سافر الإمام إليها سنة 193هـ، أمّا الشيخ المفيد فلا يعتقد بأنّ له ولدٌ غير محمد بن علي وهذا ما يذهب إليه كل من ابن شهر آشوب والطبرسي. وذكر بعضهم أنّ له بنتاً تدعى فاطمة.
دلائل إمامته:
عن داود الرقي قال: قلت لأبي إبراهيم - يعني موسى الكاظم -: فداك أبي إني قد كبرت، وخفت أن يحدث بي حدث، ولا ألقاك، فأخبرني من الإمام من بعدك؟ فقال: ابني علي
سفره إلى خراسان:
ذُكر أنّ هجرة الإمام الرضا من المدينة إلى مرو كانت في سنة 200 هـ، وقال مؤلف کتاب الحياة الفكرية والسياسية لأئمة الشيعة: لقد كان الإمام الرضا في المدينة حتى سنة 201 هـ، ودخل مرو في رمضان من نفس السنة.
وجاء في تاريخ اليعقوبي أنّ المأمون أمر الرجاء بن الضحاك - وهو من أقارب الفضل بن سهل - بجلب بالإمام الرضا من المدينة إلى خراسان عن طريق البصرة، وقد حدد المأمون مسيراً خاصّاً لقافلة الإمام خشية من أن يمرّ الإمام على المناطق التي تقطنها الشيعة، ويلتقي بهم فأمر أن لا يأتوا به عن طريق الكوفة بل عن طريق البصرة وخوزستان وفارس ومنه إلى نيسابور، فهكذا ستكون حركة الإمام استناداً لكتاب أطلس الشيعة: المدينة، نقره، هوسجة، نباج، حفر أبي موسى، البصرة، الأهواز، بهبهان، إصطخر، أبرقوه، ده شير (فراشاه)، يزد، خرانق، رباط بشت بام، نيسابور، قدمكاه، ده سرخ، طوس، سرخس، مرو.
من أهم وأوثق ما حدث في هذا الرحلة الطويلة حديث الإمام في مدينة نيسابور المشهور بحديث سلسلة الذهب.
ذكر الشيخ المفيد أن المأمون قد أنفذ إلى جماعة من آل أبي طالب، فحملهم إليه من المدينة، وفيهم الرضا علي بن موسى، فأخذ بهم على طريق البصرة حتى جاءوه بهم. وكان المتولي لأشخاصهم المعروف بالجلودي، فقدم بهم على المأمون، فأنزلهم داراً، وأنزل الرضا علي بن موسى داراً، وأكرمه، وعظّم، أمره، ويختلف الشيخ المفيد في روايته هذه مع اليعقوبي في كون رسول المأمون لجلب الإمام هو الجلودي لا الرجاء بن الضحاك.
من حكمه (عليه السلام):
1- خيار العباد هم الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا، وإذا أعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا غضبوا عفوا.
2- عونك للضعيف أفضل من الصدقة.
3- خَمْسُ مَنْ لَمْ تَكُنْ فيه فلا ترجوه بشيء من الدنيا والآخرة:
- من لم تعرف الوثاقة في أرومته.
- والكرم في طباعه.
- والرصانة في خلقه.
- والنبل في نفسه.
- والمخافة لربه.
4- صل رحمك ولو بشربة من ماء.
كيفية استشهاد الامام (ع) على يد المأمون:
اوعز المأمون لغلام له أسمه عبدالله بن بشير ان يسم الإمام بعنب وحبات رمان، ثم يقدمها للإمام (ع) ليأكلها واوصاه أن يجعل السم تحت أظفاره ثم يحوله إلى كفه، ثم يفرك بكفه حبات الرمان ويناولها الإمام (ع) بمرأى من حضار المجلس، لكي لا يتهمه احد بانه هو قاتل الإمام (ع) كما أوصاه أيضاً بأن يغمس سلكاً بالسم ثم يدخله في حبات العنب من الطرف إلى الطرف بإبرة ويقدم من ذلك العنب إلى الإمام أيضاً أمام أنظار الناس.
فلما اعدَّ عبدالله بن بشر ذلك وحدد المأمون اليوم لاغتيال الإمام (ع) بعث للإمام (ع) وحضر للمجلس، وقدم له العنب والرمان المسمومين، فامتنع الإمام عن الأكل واستعفى المأمونَ من ذلك، ولكن المأمون أصر إصراراً شديداً وقال للإمام (ع) لا بد لك من الله، فلعلك تتهمنا بشيء. فتناول الإمام (ع) من العنقود ثلاث حبات ثم رمى به وقام فقال إلى أين يا بن العم فقال (ع): إلى حيث وجهتني. وخرج (ع) مغطى الرأس، حتى دخل داره وامر بسد أبوابها فأغلقت، ولم يكن في الدار غير خادمة ابي الصلت الهروي فلم يلبث إلا يومين استشهد بعدهما (ع) في بلاد الغربة في تلك القرية وحيداً غريباَ مسموماً، وكان استشهاده يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر صفر من سنة ثلاث ومئتين للهجرة النبوية الشريفة.
وكتم المأمون (لعنه الله) موته (ع) يوماً وليله، ثم انفذ إلى محمد بن جعفر الصادق (ع) عم الإمام، فلما حضروه ا نعاه إليهم وبكى متظاهراً، وأراهم إياه مبيناً انه صحيح الجسد، وعلمت الشيعة بذلك فاجتمعوا لتشييع الإمام (ع) ففزع من وقوع الفتنة، فخرج محمد بن الصادق (ع) بأمر من المأمون، وفرق الناس، قائلاً لهم ان امر الجنازة قد اخر إلى الغد.
فلما تفرق الناس، اخرج المأمون الجنازة الطاهرة، ثم ان الإمام (ع) غسل وكفن وصلى عليه الإمام الجواد (ع) في جوف الليل ثم أمر المأمون بدفن الإمام (ع) بجوار قبر أبيه، بحيث يكون قبر أبيه امام قبر الإمام (ع) فلم تؤثر المعاول ولم تحفر شيئاً، فتعجب المأمون في ذلك واستدعى احد مقربي الإمام (ع) وكان يدعى هرثمة الذي كان الإمام (ع) يسر له بكثير من المغيبات، فاقترح هرثمه ان يجعل قبر الإمام أمام قبر هارون ففعلوا ذلك.
هو: محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم.
أمه هي: سبيكة النوبية، ومن أسمائها التي عُرفت بها كذلك: خيزران، ويُحكى أن الرضا هو من سمّاها بهذا الاسم.
ولادته:
وُلِدَ في المدينة المنورة في اليوم العاشر من شهر رجب 195 نقل أن أباه علي بن موسى الرضا ((عليه السلام)) قد اتَّخذ التدابير اللازمة لولادة ابنه الجواد، فخصَّص حجرة من حجرات داره، وأمر أخته حكيمة بِأَن ترافق خيزران مع القابلة إلى تلك الحجرة، استعداداً لاستقبال المولود. وجعل في تلك الحجرة شمعة يستضيئون بها، وأغلق عليهنّ الباب لئلا يدخل عليهن غيرهن
ألقابه:
الجواد، التقي، القانع، الزكي، باب المراد.
كذلك لُقَّبَ بالمنتجب، والمرتضى، والرضي، والمتوكل.
فراق والده:
لقد عاش محمد بن علي الجواد مع والده علي بن موسى الرضا فترة بسيطة، وقد اختلف المؤرخون على ذلك، حيث يقول بعضهم أنَّ الرضا حينما سافر إلى خراسان كان عمر الجواد خمس سنوات، وآخرون يقولون أنَّ عمره كان سبع سنوات. وقد أجبر المأمون العباسي علي بن موسى الرضا على الرحيل من المدينة المنورة إلى خراسان، فخرج من المدينة المنورة نحو مكة، ومنها إلى خراسان.
أولاده:
علي بن محمد الهادي الذي استلم الإمامة بعد والده حسب معتقد الشيعة الإثني عشرية.، وأمه سمانة.
موسى المبرقع:
أحد أبناء محمد الجواد المُتِّفق عليهم، ولد في المدينة المنورة عام 214 هـ، وقد هاجر من المدينة إلى الكوفة، ثم هاجر منها إلى مدينة قم عام 256 هـ، وتوفي عام 296 هـ، ودُفِنَ في قم، ومزاره هناك مشهور
حكيمة:
هي إحدى بنات محمد الجواد، وهي ذات مكانة سامية عند الشيعة الإثني عشرية ويثقون بما ترويه وتوفيت في مدينة سامراء بالعراق، ودفنت بجوار علي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري.
هجرته إلى بغداد:
كتب المأمون كتاباً إلى والي المدينة المنورة يأمره بإرسال محمد الجواد إلى بغداد، وقد وصل الجواد إلى بغداد وهو في العاشرة أو الحادية عشرة من العمر، ويرى بعض مؤرخي الشيعة أن استقدام المأمون للجواد كان سنة 204 هـ أي فور وصول المأمون من خراسان، فيما يذهب آخرون كابن طيفور أن استقدامه كان سنة 215 هـ.
وقد أراد المأمون أن يزوجه ابنته أم الفضل، وحينها أُثيرت ضجة كبيرة على العباسيين، الذين كانوا يومذاك أصحاب السطلة ورجال الدولة، ويُشَكِّلون طائفة كبيرة، فقد قيل: إنَّ الإحصائيات أُجرِيَت في وِلد العباس فكانوا ثلاثاً وثلاثين ألف نسمة. لكن المأمون كان مصراً على تزويج ابنته أم الفضل لمحمد الجواد، وقد حصل ذلك.
عهد المعتصم ووفاة محمد الجواد:
توفي المأمون سنة 218 هـ (833 م)، واستلم الخلافة من بعده أخوه المعتصم، ولذا يعتقد الشيعة أنَّ المعتصم استغل علاقة ابنة أخيه مع زوجها الجواد، ليحرضها على دس السُم إليه.
وقد روى ابن شهرآشوب المازندراني أنّهُ لمّا بويع المعتصم، جعل يتفقد أحوال محمد الجواد، فكتب إلى عبد الملك الزيات أن ينفذ إليه الجواد وأم الفضل، فأنفذ ابن الزيات علي بن يقطين إليه، فاستعد الجواد للسفر، وخرج إلى بغداد، فأكرمه وعظمه، وأنفذ اشناس وهو أحد قواد جيوشه بالتحف إليه وإلى أم الفضل، ثم أنفذ إليه شراب حُماض الأترج تحت ختمه على يدي اشناس، فسقاه هذا الشراب وفيه السم.
مدفنه:
دُفِنَ الجواد سنة 220 هـ بجانب جده الكاظم، في مقابر قريش التي تُعرف اليوم باسم الكاظمية ولم يُبنى على قبرهما بناء إلا بعد انقضاء فترة طويلة، وقد سُمِّيَت البقعة بـ"الكاظمية" أو "الكاظمين"، وكان الشيعة يقصدون ضريحهما للزيارة وقد بُنيت المساكن والبيوت حول قبرهما، حتى صارت قرية من قرى بغداد، حتى تحولت في العصر الحديث إلى مدينة كبيرة.
اسمه ونسبه: علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السَّلام).
أشهر ألقابه: النقي، الهادي، الناصح، الأمين، النجيب، المرتضى، العالم، الفقيه، المؤمن.
كنيته: أبو الحسن، أبو الحسن الثالث، أبو الحسن الأخير.
أبوه: الامام محمد الجواد (عليه السَّلام).
ولادته: ولد في صريا، قرية في نواحي المدينة المنورة، أسسها الإمام الكاظم (عليه السَّلام) ـ في منتصف ذي الحجة سنة 212. وقد اختلف المحدثون في تاريخ ولادته: فقيل: وُلد في شهر رجب، ويؤيد هذا القول، الدعاء المروي عن الإمام الثاني عشر (اللهم إني أسألك بالمولودين في رجب: محمد بن علي الثاني وابنه علي بن محمد المنتجب..).
نقش خاتمه: الله ربي وهو عصمتي من خلقه، حفظ العهد.
أمه: أم ولد -جارية- واسمها سمانة، ويقال لها سمانة المغربية، ولها أسماء أخرى كسوسن وجمانة، وتكنى بأُم الفضل.
ولادته: يوم الجمعة الثلاثاء (5) شهر ذي الحجة، أو (2) شهر رجب سنة (212) هجرية.
مدة عمره: (41) سنة وسبعة أشهر.
مدة إمامته: (33) سنة وتسعة أشهر أي من آخر شهر ذي القعدة سنة (220) وحتى يوم الاثنين (26) شهر جمادى الثانية أو (3) من شهر رجب سنة (254) هجرية.
زوجاته: من زوجاته: "حديث" وتسمى أيضا: سليل وسوسن.
شهادته: يوم الاثنين (26) شهر جمادى الثانية أو (3) من شهر رجب سنة (254) هجرية.
سبب شهادته: السُّم من قبل المعتز العباسي، أيام خلافته.
مدفنه: مدينة سامراء / العراق.
أولاده:
الحسن العسكري وهو الإمام من بعد والده الهادي.
علي
الحسين
محمد، ويلقب بسبع الدجيل، وهو الابن الأكبر للهادي، والذي كان قد توفي في حياة والده.
جعفر
عالية
إمامته:
انتقل أمر الإمامة إلى الهادي بعد والده الجواد، وهو في المدينة آنذاك. وكان له يومئذٍ من العمر ثمان سنوات. ومدّة إمامته نحو أربع وثلاثين سنة.
ملوك عصره: المعتصم، الواثق، المتوكل، المنتصر، أحمد المستعين بالله، المعتز.
قدومه الى سامراء:
بقي الإمام الهادي في المدينة بقية خلافة المعتصم العباسي وأيام خلافة الواثق العباسي، حيث مضى على إمامته 12 عاماً، فلما تولى المتوكل الخلافة، خشي منه القيام ضده فاستقدمه إلى العراق، ليكون قريباً منه يراقبه ويسهل الضغط عليه.
ويبدو أنه لم يستقدمه إلا بعد أن توالت عليه الرسائل من الحجاز تخبره بأن الناس في الحرمين يميلون إليه، وكانت زوجة المتوكل التي يبدو أنه أرسلها لاستخبار الأمر ممن بعثوا الرسائل.
ويبدو من طريقة استقدام الإمام أن المتوكل كان شديد الحذر في الأمر، حيث بعث بسرية كاملة من سامراء إلى المدينة لتحقيق هذا الأمر.
وفاته:
توفي يوم الإثنين الثالث من رجب سنة 254 هـ ودفن في داره بسر من رأى (سامراء) عن عمر يناهز 42 سنة.
وذكر اليعقوبي: أنه اجتمع الناس في دار الهادي وخارجها، وعندما لم تتسع الدار لإقامة الصلاة على جثمان الإمام، تقرر أن يخرجوا بالجثمان إلى الشارع المعروف بشارع أبي أحمد وهو من أطول شوارع سامراء وأعرضها، حتى يسع المكان لأداء الصلاة. وكان أبو أحمد بن هارون الرشيد، المبعوث من قبل المعتز العباسي للصلاة على جثمان الإمام لما رأى اجتماع الناس وضجتهم أمرَ بردِّ النعش إلى الدار حتى يدفن هناك.
مختارات من أقواله:
"الدّنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون".
"من رضي عن نفسه كثر السّاخطون عليه".
"الهَزْلُ فكاهة السّفهاء وصناعة الجهال".
"من جمع لك ودّه ورأيه فاجمع له طاعتك".
"النّاس في الدّنيا بالأموال، وفي الآخرة بالأعمال".
أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم.
ولد في المدينة المنورة يوم 8 ربيع الثاني 232 هـ، وقيل 10 ربيع الثاني وهو الأغلب لدى جمهور العلماء.
كنيته: أبو محمد، و يعرف بأبن الرضا كأبيه و جده (عليهم السَّلام ).
ولادته.
أبوه: الإمام علي الهادي (عليه السَّلام ).
أمه: حديث وتسمى أيضا: سليل وسوسن، وهي أم ولد.
ولادته: يوم الجمعة أو الاثنين (4) أو (8) من شهر ربيع الثاني سنة (232) هجرية.
محل ولادته: المدينة المنورة.
مدة عمره: (28) سنة.
مدة إمامته: (6) سنوات، من (26) شهر جمادى الثانية أو (3) شهر رجب سنة (254).
نقش خاتمه: سبحان من له مقاليد السماوات والأرض، إن الله شهيد.
زوجاته: من زوجاته: نرجس.
سيرته:
انتقل الحسن العسكري مع أبيه الإمام علي الهادي إلى سامراء بعد أن استدعاه الخليفة المتوكل العباسي إليها. وعاش مع أبيه في سامراء 20 سنة حيث استلم بعدها الإمامة وله من العمر 22 سنة. وذلك بعد وفاة أبيه سنة 254 هـ.
استمرت إمامته إلى سنة 260 هـ، أي ست سنوات. عايش خلالها ضعف السلطة العباسية وسيطرة الأتراك على مقاليد الحكم وهذا الأمر لم يمنع من تزايد سياسة الضغط العباسي بحقه حيث تردد إلى سجونهم عدّة مرات وخضع للرقابة المشدّدة وأخيراً محاولة البطش به بعيداً عن أعين الناس والتي باءت بالفشل. وبالرغم من كل ذلك فإن الحسن العسكري استطاع أن يجهض كل هذه المحاولات مما أكسبه احتراماً خاصاً لدى أتباع السلطة بحيث كانوا يتحولون من خلال قربهم له إلى أناس ثقات وموالين وحرصاء على سلامته.
بل استطاع أن يفرض احترامه على الجميع مثل عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزير العباسي الذي ينسب إليه أنه قال بحقه: "لو زالت الخلافة عن بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره لفضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه".
شهادته: يوم الجمعة يوم 8 ربيع الأول 260 هـ.
سبب شهادته: السم من قبل المعتمد العباسي، أيام خلافته.
مدفنه: سامراء / العراق.
جاء في رواية الصدوق في الإكمال بسنده إلى أبي الأديان أنه قال:
«أخدم الحسن بن علي العسكري وأحمل كتبه إلى الأمصار فدخلت إليه في علّته التي توفى فيها فكتب كتباً وقال: تمضي بها إلى المدائن، فخرجت بالكتب وأخذت جواباتها ورجعت إلى - سُرَّ من رأى - يوم الخامس عشر فإذا أنا بالداعية في داره، وجعفر بن علي بباب الدار والشيعة حوله يعزونه ويهنئونه. فقلت في نفسي: إن يكن هذا فقد حالت ة. ثم خرج عقيد الخادم فقال: يا سيدي قد كفن أخوك فقم للصلاة عليه فدخل جعفر والحاضرون فتقدم جعفر بن علي (وهو أخ العسكري) ليصلي عليه فلما همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سُمرة وشعره قطط وبأسنانه تفليح فجذب رداء جعفر بن علي وقال: (تأخر يا عم أنا أحق منك بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر وقد أربد وجهه فتقدم الصبي فصلى عليه ودُفِنَ إلى جانب قبر أبيه حيث مشهدهما كعبة للوافدين وملاذاً لمحبي أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً يتبركون به ويتوسلون إلى الله سبحانه بحرمة من دفن في ثراه أن يدخلهم في رحمته ويجعلهم على الحق والهدى.»
إسمه و نسبه: محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السَّلام).
ألقابه: المهدي، المنتظر، الحجة الثاني عشر، القائم، بقية الله الأعظم، صاحب الزمان.
كنيته: أبو القاسم.
أبوه: الإمام الحسن العسكري (عليه السَّلام).
أمه: السيدة نرجس بنت يشوعا وهي حفيدة قيصر ملك الروم، ونسبها يرجع من أمها إلى شمعون، وهو من حواري النبي عيسى..
قيل انها وُلدت في القسطنطينية عاصمة الأمبراطورية وذلك قبل عام 240 هـ نهاية القرن التاسع الميلادي.
ولادته: ليلة الجمعة (15) شهر شعبان سنة (255) هجرية.
محل ولادته: سامراء / العراق.
مدة عمره: علمه عند الله، وهو حي يرزق، وهو اليوم في غيبته الكبرى التي بدأت من (329) هجرية حتى يومنا الحاضر، عجل الله ظهوره الشريف، وجعلنا من أعوانه وأنصاره والمستشهدين بين يديه.
مدة إمامته: من يوم الجمعة (1) أو (8) شهر ربيع الأول سنة (260) هجرية إلى أن يشاء الله.
نقش خاتمه: العلم عند الله ولا يعلم الغيب إلا الله وأني حجة الله.
علامات الظهور: قال الشيخ المفيد في الإرشاد: ٢/٣٦٨: (قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي عليه السلام وحوادث تكون أمام قيامه، وآيات ودلالات: فمنها خروج السفياني وقتل الحسني، واختلاف بني العباس في الملك الدنياوي، وكسوف الشمس في النصف من رمضان وخسوف القمر في آخره على خلاف العادات، وخسف بالبيداء وخسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وركود الشمس من عند الزوال إلى أوسط أوقات العصر، وطلوعها من المغرب، وقتل نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين، وذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام، وهدم حائط مسجد الكوفة، وإقبال رايات سود من قبل خراسان)
إنّ أكثر البشر على مرّ التأريخ كانوا في مواجهة الأنبياء والمصلحين، وها هو القرآن الكريم يخبر عن الأكثرية بأنهم: لا يؤمنون، وأكثرهم الفاسقون، ولا يعقلون، ولا يعلمون، وللحق كارهون...الخ.
فهل يمكن لعاقل يؤمن بالله تعالى ان يعزو سبب ذلك إلى تقصير أنبياء الله في إقامة الحجة أو إلى قصور في بيانهم؟!
حاشا لله
فأين الخلل اذاً؟
إنّ أهم عامل لإيمان الأقلية هو خضوعهم وتسليمهم للحق بعد وضوحه وعلى نقيض ذلك هو ما أدى بالأكثرية إلى معارضة انبياء الله وحججه، حيث الاستكبار وعدم البخوع والخضوع والانقياد للحق باختصار هو: المنهج الإبليسي (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)([1]).
لذا فإنّ مجرد تضمّن القرآن أسماء أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لا يحل المشكلة فكم من قضية للقرآن فيها رأي وللآخرين رأيٌ آخر مخالف، خذ لذلك الأمثلة التالية:
يورد القرآن أصل الإمامة فيذكرها بالنص "إماماً" كما في آية الإمامة الإبراهيمية، ومع ذلك تجد الآخرين لهم رأي آخر فيفسروا الإمامة هنا بالنبوة أو الرسالة وكأنّ الله تعالى لم يستعمل مفردتي النبوة والرسالة في كتابه الكريم أو غفل عن ذلك ـ نعوذ بالله!
[ذات صلة]
قال محمد رشيد علي رضا في تفسير (إماماً) الواردة في الآية: الْإِمَامَةَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الرِّسَالَةِ وَهِيَ لَا تُنَالُ بِكَسْبِ الْكَاسِبِ ([2]).
أيضاً يحكم بعضٌ بشركية الأسماء المشتملة على كلمة (عبد) المضافة لغير الله تعالى كـ (عبد الحسين، وعبد الرسول...والخ) مع استعمالها القرآني الصريح في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}([3])، باعتبار لفظ العبد تعني الخادم.
يقول عبد الله الجبرين في سياق حديثه عن الشرك: "وأنواعه ثلاثة، الأول: اعتقاد شريك لله تعالى في الألوهية... ويدخل في هذا النوع من يسمي ولده أو يتسمى باسم يدل على التعبد لغير الله تعالى"، كمن يتسمى بـ "عبد الرسول"، أو "عبد الحسين"، أو غير ذلك([4]).
وكذا الحال بالنسبة لزواج المتعة فمع وروده صريحاً في القرآن الكريم: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}([5])، إلا إنك تجد الأكثرية لا تؤمن بمشروعيته اليوم تحت ذرائع واهية، هذا نزر يسير من الأمثلة ولو أردنا الاستقصاء لطال بنا المقام.
ومما يشهد أيضاً على إن ذكر الأسماء لا يحل المشكلة هو تقمص غير صاحب الاسم وادعائه له وببابك شواهد مدعي المهدوية مع أن اسمه وأسم ابيه الشريف وردا في السنة.
ومن هنا يعتقد الشيعة ان إمامة الإمام لا تثبت بمجرد النص المشتمل على اسم الإمام، بل لا بد أن يرافق النص تعيين الإمام وتشخيصه من قبل من ثبتت إمامته جزما، وقد وقع ذلك في أئمة اهل البيت (عليهم السلام) بدءاً بالنبي (صلى الله عليه وآله) ونصه وتشخيصه لأمير المؤمنين (عليه السلام) وتعيينه في واقعة الغدير حين رفع يده، وانتهاءً بالإمام العسكري مع الإمام المهدي (صلوات الله عليهم أجمعين).
يقول الشيخ المفيد: واتفقت الإمامية على أن الإمامة لا تثبت مع عدم المعجز لصاحبها إلا بالنص على عينه ([6]).
يتبع...
من كتاب: "خلو القرآن الكريم من أسماء الأئمة.. معالجة جذرية لمشكلة متجددة" – صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة
ذكرنا في مقال سابق أن من أسباب معرفة الإمام هو جريان قانون الإعجاز على يديه، فإذا تحقق هذا الأمر فإن صاحبه محق ويجب إتباعه، وهناك قانون آخر يكون طريقة للتعرف على الإمام المفترض لطاعة من دون إمكانية لخرقه، وهذا القانون هو النص، ففي الأصول أن النص ما لا يقبل الخلاف، أي له معنى واحد ومحدد، ويقابله المجمل، الذي يحتمل كلا الوجهين، ومعرفة الإمام هو بنص الإمام الذي قبله عليه، والنص هنا ليس بذكر صفة معينة أو لقب معين بل هو نص على الذات، بعبارة أخرى إستخدام إشارة حسية في تعيين المراد كمسكه من يده أو الضرب على فخذه أو وضع اليد على رقبته وهكذا ...
ومن يطالع روايات المعصومين (عليهم السلام) يجد أنها متطابقة تماماً مع هذا المضمون، وإليك الشواهد:
1- نص النبي الاكرم على أمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)
نص النبي الاكرم على إمامة امير المؤمنين في أكثر من موضع أبرزها وأهمها ما جاء في حادثة غدير خم حيث أخذ بيده ثم وقال من كنت مولاه فعلي مولاه[1]، فلو قال علي وليي ولم يره للناس لأمكن للمتربصين أن يقولوا ليس المقصود به علي بن أبي طالب بل هو علي غيره لذلك كان من حكمته أن يشخصه بمرأى ومسمع من جميع الحاضرين.
2- نص الامام علي على ولديه الامامين الحسن والحسين (عليهم السلام )[2]
عن سليم بن قيس قال: شهدت وصية أمير المؤمنين عليه السلام حين أوصى إلى ابنه الحسن عليه السلام وأشهد على وصيته الحسين عليه السلام ومحمدا وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتاب والسلاح وقال لابنه الحسن عليه السلام: يا بني أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن اوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلي رسول الله صلى الله عليه وآله ودفع إلى كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين عليه السلام.
3- نص الامام الحسين على ولده الامام السجاد [3]
عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الحسين بن علي عليهما السلام لما حضره الذي حضره، دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين عليه السلام فدفع إليها كتابا ملفوفا ووصية ظاهرة وكان علي بن الحسين عليهما السلام مبطونا معهم لا يرون إلا أنه لما به، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين عليه السلام ثم صار والله ذلك الكتاب.
4- نص الامام السجاد على ولده الامام الباقر[4]
عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما حضر علي بن الحسين عليهما السلام الوفاة، قبل ذلك أخرج سفطا أو صندوقا عنده، فقال: يا محمد احمل هذا الصندوق، قال: فحمل بين أربعة، فلما توفي جاء إخوته يدعون [ما] في الصندوق فقالوا: أعطنا نصيبنا في الصندوق فقال: والله ما لكم فيه شيء ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه إلي وكان في الصندوق سلاح رسول الله صلى الله عليه آله
5- نص الامام الباقر على ولده الصادق [5]
عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إن أبي عليه السلام استودعني ما هناك، فلما حضرته الوفاة قال: ادع لي شهودا فدعوت له أربعة من قريش، فيهم نافع مولى عبدالله بن عمر فقال: اكتب، هذا ما أوصى به يعقوب بنيه " يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وأوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد وأمره أن يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه الجمعة، وأن يعممه بعمامته، وأن يربع قبره، ويرفعه أربع أصابع وأن يحل عنه أطماره عند دفنه، ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت له: يا أبت - بعد ما انصرفوا - ما كان في هذا بأن تشهد عليه فقال: يا بني كرهت أن تغلب وأن يقال: إنه لم يوص إليه، فأردت أن تكون لك الحجة.
--------------
[1] ) الغدير - الشيخ عبد الحسين الأميني ج1 ص19
[2] ) الكافي للكليني ج1 ص 298
[3] ) نفس المصدر ج1 ص304
[4] ) نفس المصدر ج1 ص306
[5] ) نفس المصدر ج1 ص310
في سياق سرد الإجابات عن خلو القرآن الكريم من أسماء الأئمة عليهم السلام، يمكن لنا وعلى غرار جواب الصحابي ابن مسعود لأم يعقوب الأسدية القول: إن خلافة علي باسمه جاءت في القرآن.
فعلى طريقة ابن مسعود هذه وبعد أنْ ثبت لدى المسلمين جميعاً أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) نص على أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما سيأتيك شطراً منها، يمكننا أن نجيب وبضرس قاطع عن الإيراد: نعم لقد نص القرآن الكريم على إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) باسمه وصفته.
الإمامة العامة والخاصة في القرآن
كما أن عقيدتنا بالإمامة على وزان عقيدتنا بالنبوة من جهة الوساطة بين الخلق وبين الخالق وعليه، فكما إن الحديث عن النبوة كأصل ديني ومقام إلهي ورد في القرآن دون ذكر أسماء الانبياء ولو بنسبة واحد بالمائة منهم ذلك إن عددهم (عليهم السلام) مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، فكذا الحال لنظيرتها (أعني الإمامة)، فقد وردت كأصل ومنصب ألهي ومقام رباني، كما مرت علينا دون ذكر أسماء جميع الأئمة.
إذن، فلو خلينا نحن والقرآن وسبرنا آياته لوجدناه يذكر النبوة والإمامة كمقامين ومنصبين وشأنين إلهيين دون ذكر أسماء اشخاص المنصبين، وهذا العرض القرآني للإمامة اتخذ شكلين في حقيقته:
أ- فتارة نجد القرآن يعرض للإمامة أو الخلافة العامة أو لائمة وخلفاء لله في ارضه قد سبقوا النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) وامثلة ذلك كثيرة، وشواهده القرآنية وفيرة هاك سطراً منها:
ب - والشكل الاخر لعرض القرآن للإمامة يتمثل بالإمامة الخاصة لأهل البيت، وبسط القول فيها يحتاج منا عقد بحوث موسعة لا يسعها هذا الموجز، لذا سنقتصر هنا على موضع الحاجة للتذكير ليس غير، ولعلنا نوفق لبحثها لاحقا إن شاء الله تعالى.
وفيما يرتبط بوجه الاستدلال بهذه الآية على إمامة أهل البيت (صلوات الله عليه) سئل أبو محمد الفضل بن شاذان النيشابوري (رحمه الله) فقيل له: ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ فقال: الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل، ومن سنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، ومن إجماع المسلمين. فأما كتاب الله تبارك وتعالى فقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنكُمْ) فدعانا سبحانه إلى طاعة أولي الأمر كما دعانا إلى طاعة نفسه وطاعة رسوله، فاحتجنا إلى معرفة أولي الأمر كما وجبت علينا معرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول (عليه وآله السلام)، فنظرنا في أقاويل الأمة فوجدناهم قد اختلفوا في أولي الامر، وأجمعوا في الآية على ما يوجب كونها في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال بعضهم: اولي الأمر هم أمراء السرايا، وقال بعضهم: هم العلماء. وقال بعضهم: هم القوام على الناس، والآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، وقال بعضهم: هم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته (عليهم السلام)، فسألنا الفرقة الأولى فقلنا لهم: أليس علي بن أبي طالب (عليه السلام) من امراء السرايا؟ فقالوا: بلى، فقلنا للثانية: ألم يكن (عليه السلام) من العلماء؟ قالوا: بلى، فقلنا للثالثة: أليس علي (عليه السلام) قد كان من القوام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فقالوا: بلى، فصار أمير المؤمنين (عليه السلام) معيّناً بالآية باتفاق الأمة واجتماعها، وتيقنا ذلك بإقرار المخالف لنا في الإمامة والموافق عليها، فوجب أن يكون إماما بهذه الآية لوجود الاتفاق على أنه معني بها، ولم يجب العدول إلى غيره والاعتراف بإمامته لوجود الاختلاف في ذلك وعدم الاتفاق وما يقوم مقامه من البرهان..."([9]).
2ـ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}([10])، والآية صريحة في حصر الولاية في ثلاثة: الله تعالى، ورسوله، والذين آمنوا، بأقوى ادوات الحصر (إنما) وبالرغم من تواتر النقل بنزولها في أمير المؤمنين، وأنه المعني بـقوله تعالى " الذين آمنوا " لكنا ننقل شهادتين لعالمين كبيرين من المخالفين:
الأول: قال الألوسي عنها "..وغالب الإخباريين على أنها نزلت في علي (كرم الله تعالى وجهه) .."([11]).
الثاني: وقال الاسيوطي بعد سرد سبب نزول آية الولاية في أمير المؤمنين: فهذه خمس طرق لنزول هذه الآية الكريمة في التصدق على السائل في المسجد يشد بعضها بعضا "([12]).
الإمامة كالنبوة فكما ان الله لم ينص على أسماء الأنبياء لا جميعا ولا نصفهم ولا ربعهم ولا حتى واحد بالألف منهم كذلك الحال بالنسبة للإمامة نعم ذكر النبوة كأصل لكنه في المقابل ذكر الإمامة كأصل أيضاً، العامة منها والخاصة، فهما من هذه الجهة متكافئتان فما يقوله المعترض عن النبوة وأسماء الانبياء نقوله في الامامة وأسماء الأئمة.
يتبع...
من كتاب: "خلو القرآن الكريم من أسماء الأئمة.. معالجة جذرية لمشكلة متجددة" – صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة
بعد الانتهاء من المقدمة الموجزة التي قدمنا من خلالها العلاقة بين القرآن والسنة القطعية، في المقالة السابقة، هل يصح التفريق بين القرآن والسُنة؟ نصرف عنان الكلام إلى أجوبة ذاك الاعتراض الموجه لشيعة أهل البيت، عليه السلام، المعتقدين بولايتهم وامامتهم، وقد تنوّعت الإجابات التي قدمها علماء الإمامية قديماً وحديثاً على الاعتراض السالف في خلو القرآن الكريم من أسماء الأئمة عليهم السلام، ويمكننا حصرها في نوعين رئيسين:
الأول: يعتبر الاعتراض غير وارد من أصله لورود اسم بعض الأئمة في القرآن وبالتحديد اسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ويقدّم المتبنون لهذه الإجابة شواهد عديدة تثبت صحة إجابتهم كما يرون، نكتفي بعرض اثنين من تلكم الشواهد:
أ- {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}([1])، جاء هذا استجابة لدعاء إبراهيم (عليه السلام) الذي حكاه القرآن بقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}([2]).
ورد في مقدمة [كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر] بعد أن قرر الاستدلال بهذه الآية ما نصه:
... فيكون حاصل معنى الآية: أي ووهبنا لهم أي أعطينا لأجلهم وكرامتهم من فضلنا علياً لساناً صادقاً، وجعلنا أي صيرنا لأجلهم علياً صادقاً، وإذا ثبت أنّ الآية نص على علي بن أبي طالب بهذا التأويل فنقول: علي بن أبي طالب يدعي الإمامة بعد رسول الله بلا فصل، وهو صادق في كل ما يقول...([3]).
ب- الحروف المقطعة الواقعة في مفتتح سور القرآن الكريم، فإنّها لو جمعت وحذف منها المكرر صارت (صراط علي حق نمسكه).
قال الفيض الكاشاني: من الأسرار الغريبة في هذه المقطعات أنها تصير بعد التركيب وحذف المكررات (علي صراط حق نمسكه أو صراط علي حق نمسكه) ([4]).
النوع الثاني من الإجابات: مبني على الإقرار بعدم ورود أسماء الأئمة (عليهم السلام) في القرآن إلا إنها تسجل تحفظاتها على منطلقات الاعتراض وتعتبره متضمناً لفهم مغلوط لموقع السنة النبوية وتفكيك غير مبرر بين القرآن الكريم والسنة القطعية، وقد مر علينا أنهما صنوان، هذا هو النوع الثاني الذي تشترك فيه جميع الإجابات التالية:
الإجابة الأولى: جواب الأئمة (عليهم السلام) وهو إمام الأجوبة.
ليس مستغرباً على أهل البيت أن يكونوا أولَ من يتصدى للإجابة على هذا الإيراد وهم َمَوْضِعَ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفَ المَلائِكَةِ، وَمَهْبِطَ الوَحْيِ، وَخُزَّانَ العِلْمِ.
فقد تعرّض أصحاب الأئمة لهذا التساؤل من قبِل المخالفين لهم في العقيدة وقاموا بنقله لأهل البيت (عليهم السلام)، والأئمة بدورهم أجابوهم بإجابة كافية ووافية وصحيحة أبي بصير في الكافي أنموذج لذلك: فعن أبي بصير قال سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فقال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام): فقلت له: إن الناس يقولون: فما له لم يسمِّ علياً وأهل بيته (عليهم السلام) في كتاب الله عز وجل؟ قال: فقال: قولوا لهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزلت عليه الصلاة ولم يسمِّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسمِّ لهم من كل أربعين درهماً درهم، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر ذلك لهم، ونزل الحج فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعاً حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسّر ذلك لهم، ونزلت: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم - ونزلت في علي والحسن والحسين - فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): في علي: من كنت مولاه، فعلي مولاه، وقال (صلى الله عليه وآله) أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإني سألت الله عز وجل أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض، فأعطاني ذلك وقال: لا تعلموهم فهم أعلم منكم، وقال: إنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة، فلو سكت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يبين من أهل بيته، لادعاها آل فلان وآل فلان، لكن الله عز وجل أنزله في كتابة تصديقاً لنبيه (صلى الله عليه وآله) إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً فكان علي والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام)، فأدخلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت الكساء في بيت أم سلمة، ثم قال: اللهم إن لكل نبي أهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي، فقالت أم سلمة: ألست من أهلك؟ فقال: إنك إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي، فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كان علي أولى الناس بالناس لكثرة ما بلغ فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإقامته للناس وأخذه بيده، فلما مضى علي لم يكن يستطيع علي ولم يكن ليفعل أن يدخل محمد بن علي ولا العباس بن علي ولا واحداً من ولده إذاً لقال الحسن والحسين: إن الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك فأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلغ فينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما بلغ فيك وأذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك، فلما مضى علي (عليه السلام) كان الحسن (عليه السلام) أولى بها لكبره...([5]).
يتبع...
من كتاب: خلو القرآن الكريم من أسماء الأئمة.. معالجة جذرية لمشكلة متجددة – صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة
---------------------------
([1]) سورة مريم: 50.
([2]) سورة الشعراء: 84.
([3]) مقدمة كفاية الأثر: ص 37. تنبيه: لم يرجح محقق الكتاب نسبة المقدمة التي ورد فيها هذا النص إلى الخزّاز القمي.
([4]) تفسير الصافي: ج1، ص 69.
([5]) الكافي: 1 / 424 / باب ما نص الله عز وجل ورسوله على الائمة (عليهم السلام) واحداً فواحداً/ الحديث رقم 1 من الباب.
إنّ الاعتراض على عقيدة الشيعة في إمامة أهل البيت (عليهم السلام) وعدم ورود أسمائهم الصريحة في القرآن الكريم، لو تمّ فإنه يطّرد ويجرى في سائر العقائد فيقال: لماذا لم تُذكر سائر العقائد في القرآن الكريم، كقدم كلام الله وأسماء الأنبياء وعددهم وخلافة أبي بكر وصحبته للنبي (صلى الله عليه وآله) في الغار وخلافة عمر عند المخالفين للشيعة في العقيدة، سيما مع ذهاب طائفة كبيرة عمن علماء العامة إلى تكفير منكر خلافة الشيخين.
وقد نص الألباني على إن جملة كبيرة من عقائد المسلمين لم يصرح بها في القرآن الكريم حيث يقول:
"فأن قيل: فلماذا لم يجعل الله عز وجل جميع حجج الحق مكشوفة قاهرة لا تشتبه على أحد، فلا يبقى إلا مطيع يعلم هو وغيره أنه مطيع، وإلا عاص يعلم هو وغيره أنه عاص، ولا يتأتى له إنكار ولا اعتذار؟
قلت: لو كان كذلك لكان الناس مجبورين على اعتقاد الحق، فلا يستحقون عليه حمداً ولا كمالاً ولا ثواباً، و لكانوا مكرهين على الاعتراف كمن كان في مكان مظلم فزعم إن ذاك ليل وراهن على ذلك ففتحت الأبواب، فاذا الشمس في كبد السماء، و لكانوا قريباً من المكرهين على الطاعة من عمل وكف، لفوات كثير من الشبهات التي يتعلل بها من يضعف حبه للحق فيغالط بها الناس ونفسه أيضاً".
وقد علق الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة على هذا الموضوع بما لفظه:
"يريد الشيخ بالسؤال والجواب أن بين حكمة الله تعالى في ابتلاء الناس بالهوى والشبهات والشهوات ليحصل الجهاد والابتلاء ويحمد المجاهد ويؤجر، وإلا فوضوح الحق والباطل أمر لا خفاء به، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة".
وعلّق أيضاً على كلام آخر ما لفظه: "الحق ان حجج الله تعالى التي سماها بينات هي مكشوفة واضحة لا خفاء بها وإنما تخفى على من في قلبه كن وفي أذنيه وقر وعلى بصره غشاوة من هواه وأخلاقه وما اعتاد".
وقال الألباني: لا أراه يخفى أن مرادي بالقضية المكشوفة القاهرة هو أن تكون بحيث لا تخفى هي ولا إفادتها اليقين على عاقل، حتى لو زعم زاعم إنه يجهلها، أو إنه يعتقد عدم دلالتها أو يرتاب فيها لقطع العقلاء بأنه إما مجنون الجنون المنافي للتكليف أو كاذب. ولا يخفى أنه ليس جميع الحجج الحق هكذا، ولكنها بينات البيان الذي تحصل به الهداية وتقوم به الحجة، ثم هي على ضربين، الضرب الأول الحجج التي توصل الإنسان إلى أن يتبين له أنه يجب عليه أن يكون مسلماً، الثاني ما بعد ذلك، فالأول حجج واضحة لكن من اتبع هوى قد يصد عن الحق، أو قصر في القيام بما قد بان أن عليه أن يقوم فقد يرتاب أو يجهل، والضرب الثاني على درجات، منه ما في معنى الأول فيكفر المخطئ فيه، ومنه ما لا يكفر ولكنه يؤاخذ، ومنه ما يعذر، ومنه ما يؤجر أيضاً على اجتهاده([1]).
وهنا نقول: كلام الشيخين (الألباني ومحمد عبد الرزاق) واضح في مجيء جملة من العقائد بأدلة تحتاج إلى بحث ونظر وحياد وأن يجعل الإنسان هدفه من البحث فيها تحصيل الحق وإن خالف قومه وهواه.
وإليك شواهد ما أوجزناه في صدر الإجابة الثانية:
أـ (شواهد من كلام الألباني على عقائد لم تذكر في القرآن).
فقد ذكر الألباني في كتاب منتهى الأماني وهو يرد على القرآنيين طائفة كبيرة من العقائد المأخوذة من السنة ودون القرآن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1ـ نبوة آدم وغيره من الأنبياء.
2ـ أفضلية النبي (صلى الله عليه وآله) على غيره.
3ـ شفاعته (صلى الله عليه وآله) العظمى في المحشر.
4ـ شفاعته (صلى الله عليه وآله) لأهل الكبائر من أمته.
5ـ معجزاته (صلى الله عليه وآله) كلها ما عدا القرآن.
5ـ صفاته (صلى الله عليه وآله)... الخ "، وهكذا راح الألباني يعدد العقائد الإسلامية المستسقاة من الأحاديث فحسب([2]).
ب ـ أما عن كفر منكر خلافة الشيخين:
1- ابن حجر الهيتمي المكي حيث قال: (فمذهب أبي حنيفة إن من أنكر خلافة الصديق أو عمر فهو كافر..)([3]).
2ـ الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح قال: (وإن أنكر خلافة الصديق كفر كمن أنكر الإسراء لا المعراج والحق في الفتح عمر بالصديق في هذا الحكم والحق في البرهان عثمان بهما أيضاً..)([4]).
3- وفي الفتاوى الهندية: (من أنكر امامة أبي بكر الصديق فهو كافر)([5]).
بعد هذا النزر اليسير مما تناثر في صحفهم لنا سؤال نضعه برسم كل منصف:
اين امامة أبي بكر باسمه في القرآن ليكفر المسلمون غير المعتقدين بها؟!
فإن قيل: انها ليست من أصول الدين لتذكر في القرآن.
قلنا: فلِمَ التكفير على إنكارها اذن؟
في الوقت الذي يحكم الشيعة بإسلام مخالفيهم مع قيام ما لا يحصى من الأدلة على إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، وعدم امتلاك خصومهم إثارة من علم على خلافة الثلاثة! {تِلْكَ إذا قِسْمَةٌ ضِيزَى}([6]).
يتلخص من جميع ما مر في هذا الجواب عن الاعتراض بما يلي:
ثمة عقائد - أصولاً وفروعاً - معلومة من الدين بالضرورة دليلها من خارج القرآن، وقد مر عليك أمثلة منها.
يتبع...
من كتاب: "خلو القرآن الكريم من أسماء الأئمة.. معالجة جذرية لمشكلة متجددة" – صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة
-----------------------------
[1] القائد في تصحيح العقائد: ص 14 – 16.
([2]) منتهى الأماني بفوائد مصطلح الحديث، للمحدث الألباني: ص 106.
([3]) الصواعق المحرقة: 138.
([4]) الحاشية على مراقي الفلاح: 204.
([5]) الفتاوى الهندية: 2 / 264.
([6]) سورة النجم : 22.
الإشكال الأساس في هذا البحث يجيب عن السؤال التالي: (لماذا لم يذكر الأئمة في القرآن بأسمائهم؟)، لكن إننا نرى من اللازم قبل سرد أجوبته ومعالجاته في هذا البحث أن نعرض لمقدمة تؤسس لأصل ومنهج من شأنه الكشف عن أهم ركيزة مغلوطة بُني الإشكال عليها، حيث يفترض الاعتراض وجود فرق من جهة الحجية بين النصوص الوحيانية -القرآن والسنة القطعية- فهل يصح التفريق بين القرآن والسنة القطعية؟!
هذا ما تعنى بالإجابة عنه هذه المقدمة المختصرة، على أنا سنقتصر في المقدمة على ما يرتضيه المعترض المخالف للشيعي في العقيدة والمنهج.
فبعد إلقاء نظرة سريعة على آيات القرآن الكريم، والسنة الصحيحة وما نقله مخالفو الشيعة عن صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) وهكذا ما سطره العلماء في مدوناتهم، سنصل إلى نتيجة حتمية مفادها: لا وجود لأيّ فرق من جهة المعنى والحجية بينهما فالكل وحي من الله تعالى.
أما القرآن الكريم فينادي بأعلى صوته باعتبار آياته متناً والسنة مفسرة ومبينة له، جاء ذلك في آيات عديدة منها قوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يؤْمِنُونَ}([1])، وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يتفَكَّرُونَ}([2]).
ذلك إن ما فسره النبي (صلى الله عليه وآله) وبينه يجب الأخذ به على قاعدة: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نهَاكُمْ عَنْهُ فَانتهُوا}([3])، وقد أوضح القرآن أيضاً السر في ذلك قائلاً: {مَا ينْطِقُ عَنِ الْهَوَى}([4])، ومن هنا صارت طاعته (صلى الله عليه وآله) عين طاعة الله ومعصيته عين معصية الله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ توَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}([5])، و{وَمَنْ يعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}([6]).
وهذا ما تطابقت معه السنة حذو القذة بالقذة ففي الحديث الصحيح عنه (صلى الله عليه وآله): "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه.."([9]).
والحديث صحيح وصريح في اعتبار السنة مثل القرآن، وقد تعامل بعض الصحابة مع السنة على هذا الأساس أيضاً يهديك لذلك حديث ابن مسعود في البخاري مع أم يعقوب من بني أسد ففيه دلالة بل نص على أن السنة وحي بل قرآن، وسيأتي كاملاً في الأجوبة فلاحظ ثمة، وهكذا كانت كلمات علماء كبار علماء المخالفين قديماً وحديثاً:
فمن القدماء البربهاري المتوفى سنة (329ه) ه، إذ يعتبر الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام قائلاً: "اعلموا أن الإسلام هو السنة، والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر"([10]).
ويقول أيضاً: وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده، ويريد القرآن، فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم من عنده.([11])
ومن المعاصرين ناصر الدين الألباني في كتابه "منتهى الاماني" فقد أطلق عدة تصاريح في هذا الشأن نضعها كعناوين كما يلي:
- "قال بعض السلف: السنة تقضي على الكتاب" ([12]).
- وفي السياق ذاته وضع عنوانا أيضاً (ضلال المستغنين بالقرآن عن السنة) ([13]).
- وقال أيضاً: "فحذار أيها المسلم! أن تحاول فهم القرآن مستقلاً عن السنة؛ فإنك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك". ([14]).
إلى هنا نكون قد انتهينا من المقدمة التأسيسية لنشرع بعرض الإجابات، وللحديث بقية...
يتبع...
من كتاب: "خلو القرآن الكريم من أسماء الأئمة.. معالجة جذرية لمشكلة متجددة" – صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة
----------------
([1]) سورة النحل: 64.
([2]) سورة النحل: 44.
([3]) سورة الحشر: 7.
([4]) سورة النجم: 3.
([5]) سورة النساء: 80.
([6]) سورة الأحزاب: 36.
([7]) سورة الأحزاب: 36.
([8]) سورة النساء: 65.
([9]) مسند أحمد: ح 17213، وعلق عليه الأرناؤوط 4 \ 130 : إسناده صحيح.
([10]) كتاب شرح السنة، للبربهاري: 35.
([11]) شرح السنة: 119، برقم: برقم: 135.
([12]) منزلة السنة في الإسلام: ص 12.
([13]) نفس المصدر السابق.
([14]) صفة صلاة النبي: ج3، ص 938.
في هذه الأسطر اليسيرة جال في خاطري محاولة عقد مقارنة بين الامام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين السيد المسيح عيسى ابن مريم (عليه الصلاة والسلام) فخلصت الى مجموعة من الصفات والأخلاق المشتركة التي تقاسمتها تلك الشخصيتان المقدستان، ومن أبرز النقاط المشتركة بينها هو موضوع العناية الالهية الخاصة بولادتهما.
لقد دلت النصوص الصريحة الصحيحة أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) خصه الله تعالى دون سائر الخلق بمنقبة جليلة، حيث شاءت العناية الآلهية أن يبزغ نوره بين جدران أعظم المقدسات وهي \الكعبة المشرفة\ حيث انشقت جدران هذا الصرح كرامة لمولده إيذاناً ببدء مسيرته الرسالية جنب الى جنب مع سيد الكائنات محمد المصطفى (صلى الله عليه واله).
فيروى في قصة ولادته (عليه السلام) أن أمه السيدة فاطمة بنت أسد قد أحست بوجع الولادة وهي في الشهر التاسع من الحمل، وأقبلت إلى المسجد الحرام وطافت حول الكعبة، ثم وقفت للدعاء والتضرع إلى الله تعالى ليسهل عليها أمر الولادة، قائلة: يا رب إني مؤمنة بك وبكل كتاب أنزلته، وبكل رسول أرسلته...
ومصدقة بكلامك وكلام جدي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وقد بنى بيتك العتيق، وأسألك بحق أنبياءك المرسلين، وملائكتك المقربين وبحق هذا الجنين الذي في أحشائي.. إلا يسرت عليّ ولادتي.
انتهى دعاء السيدة، وانشق جدار الكعبة من الجانب المسمى (بالمستجار) ودخلت السيدة فاطمة بنت أسد إلى جوف الكعبة، وارتأب الصدع، وعادت الفتحة والتزقت وولدت السيدة ابنها علياً هناك
من المعلوم: أن للكعبة باباً يمكن منه الدخول والخروج، ولكن الباب لم ينفتح، بل انشق الجدار ليكون أبلغ وأوضح وأدل على خرق العادة، وحتى لا يمكن إسناد الأمر إلى الصدفة.
والغريب: أن الأثر لا يزال موجوداً على جدار الكعبة حتى اليوم بالرغم من تجدد بناء الكعبة في خلال هذه القرون، وقد ملأوا أثر الانشقاق بالفضة والأثر يرى بكل وضوح على الجدار المسمى بالمستجار، والعدد الكثير من الحجاج يلتصقون بهذا الجدار ويتضرعون إلى الله تعالى في حوائجهم.
وقد نقل قال الحاكم في \ المستدرك \ 3: 483: كلاما حول هذه القصة قال: \وقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة\.
وأما المسيح فالعناية الالهية بولادته قد تكفل القران الكريم ببيانها قال تعالى في سورة مريم :
{واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقياً (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا(17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً (18) قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكياً (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً}.. الى ان يقول:
{ثم انتبذت مريم به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا و هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي و اشربي و قري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله} سورة مريم آية 20 - 27، و كان حمله و وضعه و كلامه و سائر شئون وجوده من سنخ ما عند سائر الأفراد من الإنسان.
فلما رآها قومها - و الحال هذه - ثاروا عليها بالطعنة و اللوم بما يشهد به حال امرأة حملت و وضعت من غير بعل، و قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء و ما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟ قال: إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أينما كنت و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا، و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا
أمير المؤمنين والسيد المسيح .. الحب والبغض
ومن المشتركات التي نجدها أيضاً في شخصية أمير المؤمنين (عليه السلام) وشخصية السيد المسيح، أن بعض مريديهما قد أخرجوهما عن حد الإنسانية فأدعوا أنهما إلهان فيروى أن بعض الضعاف لما شاهد من أمير المؤمنين (عليه السلام) بعض المعاجز لم يتحملوا ما شاهدوه فقالوا انت انت : اي انت الله نعوذ بالله ، فقد ورد عنه (عليه السلام) أنه أتاه قوم فقالوا: أنت إلهنا وخالقنا ورازقنا وإليك معادنا، فتغير وجهه وارفض عرقه وارتعد كالسعفة تعظيماً لجلال الله عزّ وجلّ وخوفاً منه، وقام مغضباً ونادى بمن حوله وأمرهم بحفير فحفروا، وقال: لأشبعنّك اليوم شحماً ولحماً، فلما علموا أنه قاتلهم، قالوا: إن قتلتنا فأنت تحيينا فاستتابهم فاصروا على ما هم عليه، فأمر بضرب أعناقهم، وأضرم لهم ناراً في ذلك الحفر، وقال: أضرمت ناري ودعوت قنبرا لما رأيت اليوم أمراً منكراً. (دعائم الاسلام 1:48، مستدرك الوسائل 18:170 ح22413).
وقد ابغضه اخرون حتى قالوا انه كافر وكاذب وصاحب خرافة (حاشاه) فقد كان (عليه السلام) قد بذل محاولات وجهوداً كبيرة، من أجل تعريف الناس وإفهامهم: أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسلم قد اختصه دون كل أحد بالعلوم والمعارف، وأنه هو الذي يملك علم الإمامة حقاً دون سواه؛ فكان يكثر من قول: «سلوني قبل أن تفقدوني».
كما أنه كان يكثر من الاخبارات الغيبية، حتى بلغت حداً جعل بعض الناس يتهمونه بالكذب [والعياذ بالله]. وقد سمع غلام [وهو أعشى همدان] حديثه فاعتبره حديث خرافة
كما أن قوماً كانوا تحت منبره قالوا عنه، بعد أن ذكر لهم الملاحم: «قاتله الله، ما أفصحه كاذباً» وجرى له مرة أخرى ما يشبه ذلك أيضاً، كما أنه (عليه السلام) قد خطب الناس وأخبرهم: أنه لو كسرت له الوسادة لحكم بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم «وما من آية في كتاب الله، أنزلت في سهل وجبل، إلا وأنا عالم متى أنزلت، وفيمن أنزلت».فقال رجل من القعود تحت منبره: «يا لله، وللدعوى الكاذبة».
واما المسيح فقد غلا فيه قوم حتى قالوا انه اله قال تعالى: \و إذ قال الله يا عيسى بن مريم أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي و ربكم و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم\: المائدة - 116 119.
وقد ابغضه اخرون وهم اليهود حتى رموه بعدة افتراءات منها انهم اتهموا والدته عليها السلام وانهم اردوا قتله بعد ان وشى به احد المرتبطين به فخيل اليهم انهم صلبوه فقد قال تعالى في رد دعوى اليهود: \و قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم و إن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن و ما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيماً.
إن إحدى أهم الآيات التي تناولت الإمامة كمنصب إلهي ومقام رباني وبلفظ الإمامة ومعناها هي قوله تعالى: {وَإِذِ ابتلَى إِبرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا ينَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}([1])، وبالرغم من وضوح دلالة هذا النص القرآني على المطلوب إلا إننا نلفت النظر إلى ما يلي مما له دور مهم في توضيح الاستدلال:
أولاً: إن "جاعلك" في الآية اسم فاعل عامل في "إماماً"، ومعلوم أن اسم الفاعل لا يعمل، إلا إذا كان للحال أو الاستقبال، وهذا الجعل قد حصل بعد الابتلاء وإتمام الكلمات لا قبله، وإلا فيكون الابتلاء زائداً لا معنى له.
إذاً، فثمة منصب آخر أُعطي لإبراهيم (عليه السلام) بعد منصب النبوة والرسالة مغاير لهما وهو منصب (الإمامة)، كما سمّته الآية صريحاً.
ثانياً: إن هذا الخطاب من الله عز وجل لإبراهيم (عليه السلام) بنفسه يدل على أن إبراهيم كان نبياً، وإلا كيف خاطبه وكلّمه وأوحى إليه، خصوصاً إذا التفتنا إلى أن أسلوب الخطاب لا يشعر لا من قريب ولا من بعيد أنه خطاب ابتدائي.
أو حينما خاطب نبينا (صلى الله عليه وآله): {اقرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}([3]).
فدل ذلك على أن إبراهيم (عليه السلام) كان نبياً قبل الخطاب بالآية مورد البحث.
ثالثاً: إبراهيم (عليه السلام) أعطي النبوة وهو فتى، ولهذا قال تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فتًى يَذْكُرُهُمْ يقَالُ لَهُ إِبرَاهِيمُ}([4]).
والآية التي نصت على إمامته جاءت بعد الابتلاءات التي ابتلي بها وأتمها ونجح فيها. والتي أيضاً كان منها ذبح ابنه إسماعيل (عليهما السلام) الذي عبر عنه تعالى بقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}([5]).
وكوضعه في النار وغيرها.
رابعاً: إن إبراهيم (صلوات الله عليه) طلب هذا المنصب لذريته "قال ومن ذريتي"، الأمر الذي يدل على أنه كانت له ذرية، وإلا كيف يطلب لهم الإمامة وهم غير موجودين؟!! فإن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، أو كما يقال: ثبت العرش ثم انقش. وهو قد أعطي الذرية بعد أن كبر وأصبح شيخاً، ولهذا قالت زوجته: {قَالَتْ يَا وَيلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}([6]).
فجعله نبياً وهو نبي تحصيل للحاصل، وهو محال.
فإذاً، منصب الإمامة يغاير منصب النبوة تماماً، وليس المراد من الإمامة في الآية النبوة كما هو واضح لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد، وإلا كان من تحصيل الحاصل، فإن مدلول الآية حينئذٍ جعل إبراهيم النبي قبل الخطاب نبياً!
قال العلامة الطباطبائي:
قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال: إني جاعلك للناس إماماً}، يدل على أن هذه الإمامة الموهوبة إنما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات، وليست هذه إلا أنواع البلاء التي ابتلي (عليه السلام) بها في حياته، وقد نص القرآن على أن من أوضحها بلاء قضية ذبح إسماعيل، قال تعالى: {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك" إلى أن قال: إن هذا لهو البلاء المبين} ([7]).([8])
والقضية إنما وقعت في كبر إبراهيم، كما حكى الله تعالى عنه من قوله: "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل، وإسحاق، إن ربي لسميع الدعاء"([9]).
فإن قيل: إن إمامة ابراهيم (عليه السلام) مسبوقة بالنبوة والرسالة وهما غير متوفرين في أئمة أهل البيت (عليهم السلام)!
قلنا: لا يقدح هذا في الاستدلال بعد أن أثبتت الآية منصباً مغايراً للنبوة والرسالة ولم تشر لا من قريب ولا من بعيد إلى اشتراط سبق النبوة على الإمامة في شخص الإمام، على إنّ في قصة طالوت يكفي للجواب، فإنه إمام بعثه الله تعالى واصطفاه وزاده بسطة في العلم والجسم ولم يكن نبياً، يقول تعالى في هذا الشأن:
السؤال: كيف تطهَّر اليد والملابس والأواني المتنجسة بالخمر؟
الجواب: تطهر اليد والملابس المتنجسة بالخمر، بغسلها بالماء مرة واحدة، والملابس تحتاج بعد الغسل الى عصر إذا طُهّرت بالماء القليل.
تطهر الأواني والكؤوس المتنجسة بالخمر وغيره، وذلك بغسلها بالماء القليل ثلاث مرات، وإذا غسل بماء الحنفية المتصل بالكر فالأحوط وجوباً غسلها ثلاث مرات أيضاً.
المصدر: كتاب (سبيل المؤمنين) – صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية في العتبة الحسينية المقدسة