ما حقيقة تلبّس ’الجن’ بالإنسان؟ وهل يؤثر على جنين الحامل؟

هل يوجد دليل على تلبس الجن بالإنس؟

وهل يؤثر خروج الحامل في الخسوف على الجنين ويسبب التشوهات؟

[اشترك]

لقد أشار القرآن إلى مس الجن للإنس، يقول تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ).

وجاء في كتاب "اختيار معرفة الرجال" المسمّى برجال الكشي للشيخ الطوسي (رحمه الله): "عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعه يقول: خدم أبو خالد الكابلي علي بن الحسين عليهما السلام دهرا من عمره.

ثم إنه أراد أن ينصرف إلى أهله فأتى علي بن الحسين عليه السلام فشكى إليه شده شوقه إلى والديه، فقال: يا أبا خالد يقدم غدا رجلا من أهل الشام له قدر ومال كثير وقد أصاب بنتا له عارض من أهل الأرض، ويريدون أن يطلبوا معالجا يعالجها، فإذا أنت سمعت قدومه: فأته وقل له أنا أعالجها لك علي انني أشترط عليك أني أعالجها على ديتها عشرة آلاف درهم فلا تطمئن إليهم وسيعطونك ما تطلب منهم.

فلما أصبحوا قدم الرجل ومن معه وكان رجلا من عظماء أهل الشام في المال والمقدرة، فقال: أما من معالج يعالج بنت هذا الرجل؟ فقال هل أبو خالد: أنا أعالجها على عشرة آلاف درهم، فان أنتم وفيتم وفيت لكم على ألا يعود إليها أبدا، فشرطوا ان يعطوه عشرة آلاف درهم .

ثم أقبل إلى علي بن الحسين عليه السلام فأخبره الخبر، فقال: أني لأعلم: أنهم سيغدرون بك ولا يفون لك انطلق يا أبا خالد فخذ بإذن الجارية اليسرى ثم قل يا خبيث يقول لك علي بن الحسين أخرج من هذه الجارية ولا تقعد .

ففعل أبو خالد ما أمره وخرج منها فأفاقت الجارية، فطلب أبو خالد الذي شرطوا له فلم يعطوه، فرجع مغتما كئيبا، قال له علي بن الحسين عليه السلام مالي أراك كئيبا يا أبا خالد؟ انهم يغدرون بك دعهم فإنهم سيعودون اليك، فإذا لقوك فقل لهم لست أعالجها حتى تضعوا المال على يدي علي بن الحسين عليه السلام فعادوا إلى أبي خالد يلتمسون مداواتها، فقال لهم اني لا أعالجها حتى تضعوا ألما ل على يدي علي بن الحسين فرجع أبو خالد إلى الجارية وأخذ بأذنها اليسرى ثم قال: يا خبيث يقول لك علي بن الحسين عليهما السلام أخرج من هذه الجارية ولا تعرض لها الا بسبيل خير، فإنك ان عدت أحرقتك بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فخرج منها ولم يعد إليها، ودفع المال إلى أبي خالد فخرج إلى بلاده ". [ اختيار معرفة الرجال 1: 338]

ويمكن الاستعانة بقراءة القرآن للتخلص من مس الجن، كآية الكرسي والقلاقل الأربعة.

أمّا بخصوص خروج المرأة الحامل في الخسوف، فيجوز للمرأة النظر إلى خسوف القمر أو الخروج عنده ولا ضرر في ذلك، لا شرعا ولا عقلا ولا صحة، بل هذه الدعوى من الأساطير والبدع التي لا أساس لها.

2022/01/20

هل يوجد في زماننا من يتصل بـ ’الملائكة’؟!

كان أصحاب الكهف (عليهم السلام) في زمن لا يوجد فيه أنبياء، يعني لا يوجد معصوم ولا أحد متصل مع السماء.. فلو كانوا في وقتنا هذا كيف كنت أعرف بأنهم نزل عليهم الملائكة؟ كيف أميز بين الكذب بلباس الدين وبين الصادق؟ وهل هناك في هذا الزمان أشخاص مثلهم ينزل عليهم الملائكة دون الإمام الزمان (عجل الله فرجه)؟

[اشترك]

أولاً: قامت البراهين على أنّ الأرض لا تخلو من الحجّة الإلهيّة ـ سواء ظاهرة أو مستورة ـ؛ إذ لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها، وهي تشمل الأنبياء والرسل والأوصياء والأئمّة (عليهم السلام)، فلا يوجد زمان ينقطع فيه الاتّصال مع السماء. وأمّا زمان الفترة بين النبي عيسى (عليه السلام) ونبيّنا الأعظم (صلى الله عليه وآله) فقد أفاد الشيخ الصدوق في [كمال الدين ص659]: أنّه لم يكن بينهما رسول ولا نبيّ ولا وصيّ ظاهر مشهور كمَن كان قبله، ولكن كان بينهما أنبياء وأئمّة مستورون خائفون، منهم خالد بن سنان العبسيّ، وقد تواطئت الأخبار واشتهرت عند العام والخاص أنّه نبيّ، وأنّ ابنته محياة أدركت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: هذه ابنة نبيّ ضيّعه قومه.

وثانياً: هناك كلام في تحديد زمان أصحاب الكهف فيما لو كانوا قبل زمن النبي عيسى (عليه السلام) أم بعده، ويستفاد من بعض الأخبار أنّهم كانوا قبله، فقد نقل قطب الدين الروانديّ في [قصص الأنبياء ص255] بالإسناد عن ابن عباس، قال: «لما كان في عهد خلافة عمر أتاه قوم من أحبار اليهود، فسألوه.. فنكس عمر رأسه فقال: يا أبا الحسن، ما أرى جوابهم إلّا عندك، فقال لهم عليّ (عليه السلام): إنّ لي عليكم شريطة إذا أنا أخبرتكم بما في التوراة دخلتم في ديننا، قالوا: نعم..» إلى أن قال (عليه السلام) في جواب السؤال عن أصحاب الكهف: «.. فأقبل تلميخا حتّى دخل الكهف، فلمّا نظروا إليه اعتنقوه وقالوا: الحمد لله الذي نجّاك من دقيوس، قال تلميخا: دعوني عنكم وعن دقيوسكم، كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، قال تلميخا: بل لبثتم ثلاثمائة وتسع سنين، وقد مات دقيوس وانقرض قرن بعد قرن، وبعث الله نبيّاً يقال له: المسيح عيسى بن مريم، ورفعه الله إليه، وقد أقبل إلينا الملك والناس معه...»، ثمّ قال (عليه السلام): «يا يهودي، أيوافق هذا ما في توراتكم؟ قال: ما زدت حرفاً ولا نقصت حرفاً، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)».

وهذا الخبر ظاهر في أنّ زمان أصحاب الكهف قبل زمان بعثة النبي عيسى (عليه السلام)، سيّما مع ذكر أمرهم بكتب اليهود واهتمام أحبارهم بحكايتهم، فلو كان أصحاب الكهف بعده ومعتنقين للشريعة العيسوية لما اهتمّ اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم؛ لمباينتهم لهم.

وثالثاً: نزول الملائكة على أصحاب الكهف ـ بمعنى اتّصالهم بهم والتواصل معهم وتلقي المعارف منهم ـ ليس واضحاً؛ إذ ما جاء في القرآن الكريم إشارة إلى ذلك، كما لم يُعثر على حديث يدلّ على ذلك، فالأمر رهن الإثبات. ونفس السؤال يفترض في صدره عدم اتّصال أحد في زمانهم بالسماء فكيف يفترض بعدها نزولها عليهم؛ إذ جاء في السؤال: (كان أصحاب الكهف (عليهم السلام) في زمن لا يوجد فيه أنبياء، يعني لا يوجد معصوم ولا أحد متصل مع السماء.. فلو كانوا في وقتنا هذا كيف كنت أعرف بأنهم نزل عليهم الملائكة؟). نعم، الثابت صيانة الملائكة لهم وحفظهم وتقلبيهم، يقول تعالى: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) ولكن هذا المعنى لا يفيد في المقام.

ورابعاً: الاتصال مع السماء كقناة رسمية معتبرة لتلقي المعارف والتكاليف منحصرة بالحجة الإلهية المعصومة، وبقية الله الأعظم الإمام المهدي (عجل الله فرجه) هو المتّصل مع السماء في زماننا، ولم يثبت أنّ أحداً غيره من الأمة متّصل بالسماء.

وخامساً: إن تمييز الصادقين من الكاذبين بلسان الدين يكون بمعرفة الدين وحدوده ومعارفه ومحكماته؛ إذ بدون معرفة الدين لا يمكن تمييز الصادق من الكاذب في الدين، وقد أوضح ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) للحارث عند فتنة الجمل وخروج عائشة مع طلحة والزبير: «إنّ الحقّ والباطل لا يُعرفان بالناس، ولكن اعرف الحقَّ تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف مَن أتاه»، وقال (عليه السلام): «إنّ الحقَّ لا يُعرف بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله».

2022/01/19

’حمام’ و ’دجاج’ في البيوت.. ما علاقتهما بـ ’الشياطين’؟!
هل يستحب تربية الطيور في المنزل؟ وهل صحيح أنها تدفع البلاء عن أهل المنزل، من باب أنَّ البلاء يقع عليها بدلاً عن ساكني المنزل؟

[اشترك]

ورد في العديد من الروايات ما يظهرُ منها الترغيب في اتِّخاذ بعض الطيور -كالحمام- في المنزل لغرض الأنس بها، وكذلك ليدفع بها الهوام وهي الدواب كالديدان الضارَّة والحشرات المؤذية، ويظهرُ من بعض الروايات أنَّ وجودها في المنزل نافعٌ لدفع بعض أنواع البلاء.

فمِن الروايات الواردة في ذلك: صحيحة حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: إِنَّ أَصْلَ حَمَامِ الْحَرَمِ بَقِيَّةُ حَمَامٍ كَانَ لإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (ع) اتَّخَذَهَا كَانَ يَأْنَسُ بِهَا فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): يُسْتَحَبُّ أَنْ تَتَّخِذَ طَيْراً مَقْصُوصاً تَأْنَسُ بِه مَخَافَةَ الْهَوَامِّ"(1).

أقول: الظاهر أنَّ المراد من الاستحباب هو الإرشاد إلى حُسن اتِّخاذها ومحبوبيته، وذلك بقرينة بيان أنَّ الترغيب في اتِّخاذ الطير نشأ عن كونه مؤنساً وصالحاً لدفع الهوام لأنَّه يأكلها أو يقتلها. ويظهر من الرواية أنَّ الترغيب لا يختصُّ بنوعٍ خاصٍّ من الطيور وإنْ كان القدر المتيقن من الرواية هي الحمام.

ومنه: صحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: "الْحَمَامُ مِنْ طُيُورِ الأَنْبِيَاءِ(ع)"(2).

أقول: والظاهر أنَّ المراد من الرواية هو أنَّ الأنبياء (ع) كانوا يتَّخذون الحمام في بيوتهم، ويُؤيد ذلك ما ورد في رواية أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "الْحَمَامُ طَيْرٌ مِنْ طُيُورِ الأَنْبِيَاءِ (ع) الَّتِي كَانُوا يُمْسِكُونَ فِي بُيُوتِهِمْ ولَيْسَ مِنْ بَيْتٍ فِيه حَمَامٌ إِلَّا لَمْ تُصِبْ أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ آفَةٌ مِنَ الْجِنِّ .. قَالَ فَرَأَيْتُ فِي بُيُوتِ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع حَمَاماً لِابْنِه إِسْمَاعِيلَ (3).

أقول: ويظهر من الرواية أنَّ الحمام ليست هي النوع الوحيد من الطيور التي كانت تتَّخذها الأنبياء (ع) في بيوتهم.

ولعلَّ المراد من الآفة التي تكون من الجنِّ هي مثل ما ينشأ عن وساوس الشياطين وهواجسهم فقد ينشأ عنها الاستيحاش أو الخوف والفزع والذي قد يُفضي لدى الضعفاء إلى الجنون أو الابتلاء ببعض الأمراض أو العاهات، ولعلَّ ممَّا يُؤيد ذلك ما ورد في رواية يَحْيَى الأَزْرَقِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: إِنَّ حَفِيفَ أَجْنِحَةِ الْحَمَامِ لَتَطْرُدُ الشَّيَاطِينَ"(4). وأورد ذات الرواية الشيخ الصدوق في الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنَّ حفيف أجنحة الحمام ليطرد الشياطين"(5).

ومنه: رواية عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه (ص) الْوَحْشَةَ فَأَمَرَه أَنْ يَتَّخِذَ فِي بَيْتِه زَوْجَ حَمَامٍ"(6).

ومنه: رواية زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: ذُكِرَتِ الْحَمَامُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَقَالَ: اتَّخِذُوهَا فِي مَنَازِلِكُمْ فَإِنَّهَا مَحْبُوبَةٌ لَحِقَتْهَا دَعْوَةُ نُوحٍ (ع) وهِيَ آنَسُ شَيْءٍ فِي الْبُيُوتِ"(7).

ومنه: رواية سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ رَفَعَه قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَدْفَعُ بِالْحَمَامِ عَنْ هَدَّةِ الدَّارِ"(8).

أقول: لعلَّ المراد من هدَّة الدار هو الكناية عن النازلة المهلكة، لأنَّ الهدَّة لغةً تعني الهدم الشديد، هذا وقد ذكر صاحب البحار (رحمه الله) أنَّ الرواية وردت في بعض النُسَخ بهذا اللفظ: "إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَدْفَعُ بِالْحَمَامِ عَنْ هَذه الدَّارِ" وأفاد أنَّ ذلك هو الأظهر(9). وكذلك هي في الوسائل للحرِّ العاملي(10).

ومنه: رواية محمد بن كرامة، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) أنَّه رأى في منزله زوجَ حمام، أمَّا الذكر فإنَّه كان أخضر به شيءٌ من السمر، وأمَّا الاثني فسوداء، ورأيتُه يفتُّ لهما الخبز وهو على الخِوان، ويقول: إنَّهما ليتحرَّكان من الليل فيؤنساني، وما مِن انتفاضةٍ ينتفضانها من الليل إلا دفع اللهُ بها مَن دخل البيت من الأرواح"(11).

أقول: الظاهر أنَّ المراد من الأرواح هي الشياطين، ولا غرابة في أنْ يدفع اللهُ تعالى بأضعف خلقِه شرورَ الشياطين، وأمَّا كيف يدفعُ الله تعالى بها الشياطين فلا علم لنا بذلك، فالكون مليء بالأسرار التي لا يدَّعي الإحاطةَ بها إلا أحمق معتدٌّ بنفسه، فإنَّ لله تعالى في خلقِه شؤون.

ومنه: رواية عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَرَأَيْتُ عَلَى فِرَاشِه ثَلَاثَ حَمَامَاتٍ خُضْرٍ قَدْ ذَرَقْنَ عَلَى الْفِرَاشِ فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَؤُلَاءِ الْحَمَامُ تَقْذَرُ الْفِرَاشَ فَقَالَ: لَا، إِنَّه يُسْتَحَبُّ أَنْ تُسْكَنَ فِي الْبَيْتِ"(12).

أقول: معنى نفي تقذيرها للفراش هو أنَّ ذرقها أي فضلاتها ليست نجسة، والظاهر أنَّ المراد من الاستحباب هو الرجحان والإرشاد إلى محبوبيّة اتِّخاذها في البيت، فليس المراد -ظاهراً- من الاستحباب هو الاستحباب المصطلح.

ومنه: رواية الحسين بن علوان عن الإمام جعفر (ع) عن أبيه (ع) قال: "كانوا يُحبُّون أنْ يكون في البيت الشيء الداجن، مثل الحمام أو الدجاج أو العَناق .."(13).

أقول: الداجن مفرد دواجن وهي الحيوانات الأليفة التي تألفُ البيوت وتأنس بها وبأهلها، من دجن بالمكان وأدجن إذا أقام به وألِفَه، ويُقال المداجنة حسن المخالطة (14) فالدواجن هي مطلق الحيوانات الأليفة كالشياه والحمام وشبهها والدجاج.

والعَناق على وزن سَحاب بفتح العين هي الأُنثى من أَولاد الماعز والغنم من حين الولادة إِلى أن تبلغ سنة، وجمعها عُنوق وأعنُق (15)، والرواية تدلُّ على الترغيب في اتِّخاذ مطلق الداجن من الطيور والحيوان، ولا يبعد أنَّ المراد من الداجن في المقام خاصٌّ بمأكول اللحم.

ثم إنَّ الترغيب في اتِّخاذ الحمام وكذلك غيرها من الحيوانات الداجنة لا يعني الترغيب في اللَّعب واللهو بها فإنَّ ذلك مكروه أو لا أقلَّ من أنَّه مرجوح، وقد نصَّت على ذلك بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) فالترغيبُ إنَّما هو في اتِّخاذها في المنزل للأنس بها أو ليأنس بها الأطفال، وكذلك للغايات الأخرى التي أشارت إليها الروايات.

الهوامش: [1]- الكافي -الكليني- ج6 / ص546. [2]- الكافي -الكليني- ج6 / ص546. [3]- الكافي -الكليني- ج6 / ص547. [4]- الكافي -الكليني- ج6 / ص547 [5]- من لا يحضره الفقيه ج3 / ص350. [6]- الكافي -الكليني- ج6 / ص546. [7]- الكافي -الكليني- ج6 / ص547. [8]- الكافي -الكليني- ج6 / ص547. [9]- بحار الأنوار- المجلسي- ج62 / ص19. [10]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج11 / ص517. [11]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج11 / ص520. [12]- الكافي -الكليني- ج6 / ص547 [13]- قرب الاسناد -الحميري القمي- ص93، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج11 / ص524. [14]- لاحظ الصحاح -الجوهري- ج5 / ص2111، أساس البلاغة -الزمخشري- ص264، النهاية في غريب الحديث -ابن الأثير- ج2 / ص102. [15]- لاحظ لسان العرب -ابن منظور- ج10 / ص275، تاج العروس -الزبيدي- ج13 / ص361.
2022/01/19

هل تحدّث الأئمة (ع) عن ’الجن والملائكة’؟

هل هناك تفسير لآل البيت عليهم السلام، وهل سألهم أحد عن الجنّ والملائكة؟

[اشترك]

الجواب:

أمّا الشقّ الأوّل من السؤال، فالمعروف بين أهل العلم أن هناك تفاسير لمدرسة أهل البيت، نقلت أقوال أئمّة أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآيات القرآنيّة، فمنها:

1- تفسير القميّ للمحدّث الثقة الشهير، وهو عليّ بن إبراهيم بن هاشم القميّ، وكتابه مطبوع متداول.

2- تفسير العياشيّ، للمحدّث الشهير الثقة محمّد بن مسعود العياشيّ، وكتابه مطبوع متداولٌ.

3- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ (ع) وهو مطبوعٌ متداول، وقد رواه الشيخ الصدوق (ره) عن شيخه أبي الحسن محمّد بن القاسم الاسترآباديّ.

وأمّا ما يتعلّ بالشقّ الثاني من السؤال، فنشير إلى بعض الروايات التي وقفنا عليها بصدد ذلك، فقد أورد العياشي في تفسيره (1/33): عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن إبليس أكان من الملائكة أو كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال: لم يكن من الملائكة وكانت الملائكة ترى أنه منها، وكان الله يعلم أنه ليس منها ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ولا كرامة فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكر وقال: كيف لا يكون من الملائكة والله يقول للملائكة: "اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس" فدخل عليه الطيار فسأله وأنا عنده فقال له: جعلت فداك قول الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا " في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذه المنافقون؟ قال: نعم يدخل في هذه المنافقون والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة.

وهناك روايات يستدل منها على أنّ بعض الجن كان من أتباع الأنبياء السابقين وأن توبته جرت على يدي نوح وانه كان مع إبراهيم وموسى وهود وصالح وانه قرأ الكتب كلها ويطلب تعلم شيئاً من القرآن وقوله انه لا يطيع إلا نبياً او وصي نبي (بحار الأنوار 60/ 83ـ 84). وفي رواية اخرى (ان موسى علمني التوراة وان عيسى علمني الأنجيل فعلمني القرآن، فعلمه) (بحار الانوار 60/ 302). وفي خبر آخر: (ان احد الجنيين يقول اني لم أزل مؤمناً بالله ورسوله ومصدقاً وكنت اعرف التوراة والأنجيل وكنت أرجو أن أرى محمداً...) (بحار الأنوار 60/ 128ـ 130).

2022/01/15

مطّلع على نوايا الإنسان.. هل يعلم ’الشيطان’ الغيب؟!

لا يخفى أنّ إطلاق عالم الغيب بمعنى العلم من غير تعليم واستفادة منحصرٌ بالله تعالى، روى الشيخ الصفّار في [بصائر الدرجات ص335]، والشيخ الكلينيّ في [الكافي ج1 ص257] عن عمّار الساباطيّ، قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإمام يعلم الغيب؟ فقال: لا، ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك»، وورد في [نهج البلاغة ج2 ص11]: «فقال له بعض أصحابه: لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك (عليه السلام) وقال للرجل ـ وكان كلبياً ـ: يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب، وإنّما هو تعلّم من ذي علم».

[اشترك]

ولا يخفى أنّ (علم الغيب) بهذا المعنى لا يصحّ إسناده لغير الله تبارك وتعالى؛ لأنّ المخلوق فقير محتاج إلى الله سبحانه وتعالى في كلّ شيء، وإنّما يعلم بما يبلغ سمعه وبصره وعقله بما أودعه الله فيه من القوى التي توهّله لتلقي ما يصل لسمعه وبصره، ولو سلب الله منه هذه القوى فلن يكون مؤهلاً للتعلّم.

وأمّا الغيب بمعنى ما استتر وتوارى، وهي ضدّ الشهادة والحضور والظهور، فما لا تناله الحواس الظاهرة والباطنة هي غيب، وما تناله وتدركه هي شهادة، مثلاً: الأحداث التي حصلت في الزمان الماضي تُعدّ غيباً بالنسبة لنا مع أنّها كانت شهادة بالنسبة لمَن شهدها وحضرها وعايشها، يقول الله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران: 44]، فحادثة اجتماع بني إسرائيل لتكفّل السيّدة مريم (عليها السلام) هي غيبٌ بالنسبة لنا، مع أنّها شهادة بالنسبة لهم.

إذن: كون الشيء غيباً يدور مدار عدم حضوره عند مَن يُسند إليه العلم به، فما غاب عنّي فهو غيب بالنسبة لي وإن كان شهادة بالنسبة لك، وما غاب عنك فهو غيب بالنسبة إليك وإن كان شهادة لي، فرُبّ غيبٍ لشخص شهادةٌ لغيره. ومن الواضح أنّ علم الغيب بهذا المعنى يجوز إسناده للمخلوق.

وحينئذ يظهر: أنّ إطلاع الشيطان على خواطر الإنسان ونياته يعد اطلاعاً على ما يدركه بقوته وسلطنته ويشاهده ويحضره، فهذه تعدّ شهادة بالنسبة له وإن كانت غيباً بالنسبة لغيره، كما أنّ الملائكة تتطلع على النيات والخواطر ويكتبوها، واطلاعهم ليس على شيء غائب عنهم بل على شيء حاضر عندهم وإن كانت تعدّ غيباً بالنسبة لغيرهم.

2022/01/13

صلوا عليه وسلموا تسليماً.. هل يتوقف كمال ’النبي’ على دعاء الناس؟!

أمر الله بالصلاة على النبي في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًاً).

[اشترك]

وقد جاء أمر المؤمنين بالصلاة بعد أن سبقهم الله وملائكته لتلك الصلاة، مما يدلل على عظمة تلك الصلاة وما لها من شأن عند الله، فصلاة الله على النبي تكشف ما للنبي من مقام عند الله تعالى، فمحور الأمر الإلهي بالصلاة في هذه الآية هو مكانة النبي وعظيم منزلته، وقد يبعث ذلك على الحيرة إذ كيف يمكن للمؤمن أن يصلى على النبي صلاة تكشف عن حقيقة النبي ومكانته؟ وقد دلت الآية على أن الأمر بالصلاة جاء مترتباً وتبعاً لصلاة الله على نبيه، أي كما صلى الله عليه صلوا عليه، وهذا ما يستحيل على المؤمن القيام به، فمهما بلغ من المعرفة بالنبي لا يدرك مقدار مكانته وكنه عظمته، وبعابرة أخرى، إذا كانت الصلاة هي بيان مكانة النبي وعظمته، كيف يمكن للمؤمن أن يدرك هذه العظمة وبأي عبارة يمكنه أن يصف تلك المنزلة؟ فما عساه أن يقول؟ فمهما اجتهد لا يمكنه ذلك طالما كان الله هو الذي بدأ تلك الصلاة، فصلاة الله عليه إشادة وتزكية منه تعالى لنبيه، كما أنها سكينة ورحمة على قلبه الطاهر، وهذا الأمر لا يمكن أن يقوم به إلا الله تعالى، ومن هنا كان الحل الوحيد حتى يحقق المؤمن الصلاة على النبي؛ هو أن يطلب من الله أن يصلي على النبي نيابة عنه، وهكذا جاءت صيغة الصلاة كما علمنا رسوله الكريم (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ)، وكأَنَّ لسان حالهم يقول: أنت العالم يا الله بمكانة نبيك ونحن عاجزون عن بلوغ قدره ومكانته، فصل عليه نيابة عنا، فنحن نقول في حقه ما تقول، ونشهد له بما تشهد أنت له، وبذلك تعيدنا الصلاة على النبي إلى الله سبحانه من جديد في حلقة من التواصل الدائم بين المؤمن وربه ورسوله.

وعليه؛ فإن صلاة المؤمن على الرسول هي إقرار لما له من كمال وليست هي التي تمنحه الكمال، ولا يمكن للمؤمن أن يحقق رضا الله إلا بعد أن يشهد بمكانة الرسول كما شهد بها ربه، وبذلك يكون المؤمن في اشد الحاجة إلى هذه الصلاة، فبها يتحقق الربط والتواصل بينه وبين رسوله، ومن هنا كانت الصلاة على النبي شعار المؤمن الذي يحدد هويته ومصدر انتمائه، فلا يكون المؤمن موحداً ومسلماً لأمره ووحيه مالم يكن تابعاً لرسوله،  قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وقد ربط الله بين محبة النبي وتوقيره وبين تسبيح الله، حيث قال: (لِّتُؤْمِنُوا بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) فبما أن المؤمن لا يُمكِنه أَن يكون بعيداً عنِ الله لا يُمكنه أَيضاً أَن يكون بعيداً عنِ النبي (صلى الله عليه وآله).

2021/12/08

هل يمتلك الجن ’العقل’ مثل الإنسان؟!

هل للجن عقل؟ وهل هناك ما يثبت ذلك؟

وإذا كان لهم عقل فما ميزة البشر عليهم طالما لديهم العقل والشهوة؟

[اشترك]

في (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) لحبيب الله الهاشمي الخوئي ج 17ص 291، قال: "وبالجملة أنّ الآيات القرآنيّة تدلّ على أنّ الجنّ مكلَّفون كالإنس، ولا ريب أنّ من شرائط التكليف أن يكون المكلَّف عاقلا، فلهم عقل وتمييز، ولذا هدى هؤلاء النفر من الجنّ عقولهم إلى الهداية والرشد، حيث قالوا: (إِنَّا سَمِعنا قُرآناً عَجَباً * يَهدِي إِلَى الرُّشدِ فَآمَنَّا بِه ِ وَلَن نُشرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) (الجن:1-2)".

وفي تفسير الأمثل ج 10 ص 223، قال:

"فقد ذكرنا أن الجنّ نوع من المخلوقات التي لها عقل وشعور واستعداد، وعليها تكليف، وهي محجوبة عن أنظارنا نحن البشر، ولذلك سمّيت بالجنّ، وهم - كما يستفاد من آيات سورة الجنّ - كالبشر منهم المؤمنون الصالحون، ومنهم الكافرون العصاة".

أما فيما يخص ميزة البشر عنهم نذكر ما يلي:

أولاً: نؤمن بما قاله القرآن الكريم الذي حدث عن تخليق الانسان بانه في أحسن تقويم وهناك روايات عديدة تنص على هذا المطلب.

ثانياً: اما الخوارق التي يتميز بها الجن على الإنس والبشر لا يستطيعون فعلها فهذا يتعلق بأصل خلقة الجن لأن الجن قد خلق من النار والنار سريعة الاشتعال دون الإنسان الذي خلق من الطين، ولكن ليست هذه فضيلة في الجن.

ومن هنا نشاهد أن الإنسان لو أراد ان يستغل روحانيته ونورانيته استغلالا صحيحا لتمكن من الوصول الى مستويات من الرقي والعلو والنورانية ما لا يخطر ذلك لدى الملائكة المخلوقين من النور ناهيك عن الجن.

ولهذا نشاهد وصول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عروجه الى مرحلة بحيث قال جبرائيل تقدم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت.

مضافا إلى ذلك نقول: قد وردت الأحاديث الكثيرة التي تفضل الإنسان على الملائكة وان الملائكة خدام المؤمنين وان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم وإذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وغيرها من الروايات التي تفضل المؤمنين على الملائكة فكيف بالجن وهو دون الملائكة في الفضل والكرامة.

ومضافاً الى ذلك اجمع العلماء على افضلية واشرفية الانسان على كل من الحيوانات والجان والملائكة كما ورد في الروايات وهكذا الآية التي تفضل الانسان على كثير من الخلائق حيث قال الله تعالى ((لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيمٍ)) (التين:4) وهكذا يقول في مكان آخر ((وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ ... وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلاً)) (الإسراء:70).

لو قيل: ان في هذه الآية اشارة الى التبعيض وهو التفضيل على كثير من المخلوقات وليس على كل المخلوقات؟ قلنا: لم يرد التبعيض في هذه الآية بل تجري مجرى قوله تعالى ((وَلَا تَشتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً)) (البقرة:42) والمعنى لا تشتروا بها ثمنا وكل ثمن تأخذونه عنها قليل ولم يرد المنع من الثمن القليل خاصة. ونظائر هذا في الشعر والكلام الفصيح لا تحصى.

فعلى ما ذكرنا يظهر بان المراد في الآية هو: انا فضلناهم على جميع من خلقنا وهم كثير فجرى ذكر الكثرة على سبيل الوصف المعلق لا على وجه التخصيص. ما عقلية الجن وكونهم من اهل العقل الذي هو موجود في الانسان فيظهر من بعض الآيات والروايات ايضا انهم كالإنسان ولا ميزة بينهما حيث يقول الله تعالى ((وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لَا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُنٌ لَا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لَا يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ)) (الأعراف:179)

والخلاصة: ان من بعض الروايات والآيات يظهر تساويهما في الفضل ومن بعضها وأقوال العلماء يظهر أن الإنسان أفضل من كل ما خلق الله كما ذكرناه.

2021/11/08

ما الدليل على صحة عقيدة ’الشيعة’؟!

إن الإمامة تمثّل الفارق  الجوهريّ  بين  الشيعة  وبين  بقيّة  المذاهب، وعليه  إذا قام  البرهان  القاطع  على ضرورة  الإمامة  بوصف ها أصلاً إسلاميّاً لا يستقيم  الإسلام  إلّا بها ثبت  حين ها صحّة  عقيدة  الشيعة  الإماميّة.

[اشترك]

لقد صنّفَ علماءُ الشيعةِ الكثيرَ منَ التصانيفِ ودوّنوا الكثيرَ منَ الكتبِ التي تثبتُ بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ إمامةَ أهلِ البيتِ وضرورةَ إتّباعِهم، ولا يمكنُ في هذا المقامِ سردُ تلكَ الأدلّةِ وبيانُ وجهةِ الدلالةِ في كلِّ دليلٍ، لذا منَ المفيدِ للسائلِ الوقوفُ بنفسِه على تلكَ الكتبِ ومراجعةُ ما فيها مِن أدلّةٍ وبراهين، وما يمكنُنا في هذا المقامِ هوَ بيانُ ملاحظاتٍ عامّة تشكّلُ له بدايةَ طريقٍ لبحثِ أدلّةِ الإمامة.

الملاحظةُ الأولى: الأدلّةُ على إمامةِ أهلِ البيتِ بعضُها نصٌّ في الدلالةِ وبعضُها ظاهرٌ فيها بحُكمِ الظهورِ العُقلائي، ويضافُ إلى ذلكَ كلُّ القرائنِ المُعتمدةِ عقلاً سواءٌ كانَت قرائنَ خاصّةً بالنصوصِ أو قرائنَ مستمدّةً مِن واقعِ الحالِ تاريخيّاً واجتماعيّاً، أو القرائنُ المستمدّةُ منَ التصوّرِ الكلّيّ للإسلامِ في معانيهِ العامّةِ وغاياتِه النهائيّة، فالكثيرُ منَ الأدلّةِ تكتسبُ قيمتَها الدلاليّةَ منَ النسقِ العامِّ لمجموعِ الأدلّةِ وما تؤسّسُ له مِن رؤيةٍ كلّيّةٍ، وعليهِ فإنَّ الدراسةَ العلميّةَ لموضوعِ الإمامةِ في الإسلامِ تستوجبُ توسيعَ النظرةِ التي تشملُ جميعَ الأدلّةِ ومِن ثمَّ ترتيبَها في نسقٍ واحدٍ مِن أجلِ تركيزِها في بؤرةٍ واحدةٍ وهيَ الإمامةُ، أمّا تشتيتُ الأدلّةِ وعزلُها عَن بعضِها البعضِ قد يؤدّي إلى تشويهِ الرؤيةِ وتشويشِ ما تدلُّ عليه، وفوقَ كلِّ ذلكَ يجبُ الالتفاتُ إلى أنَّ الحَكمَ في دلالةِ كلِّ الأدلّةِ ليسَ الذوقَ الشخصيّ والميلَ النفسي، وإنّما مدى قربِ الدليلِ منَ المناهجِ العلميّةِ والطريقةِ المُتّبعةِ عندَ العقلاءِ في استظهارِ الأدلّةِ، وما نعيبُه على البعضِ في بحثِ موضوعِ الإمامةِ هوَ انطلاقُهم من رؤيةٍ مُسبقةٍ تعملُ على تحريفِ دلالةِ كلِّ دليلٍ لا يخدمُ تلكَ الرؤية، وعليه ننصحُ في المرحلة الأولى بحث الإمامة في معناها العام عقلاً وشرعاً، وهُنا لابدَّ منَ الإجابةِ على بعضِ الأسئلةِ مثل: هل الإمامةُ والقيادةُ ضرورةٌ يفرضُها الاجتماعُ الإنساني؟ وهل تباينُ المجتمعاتِ يعودُ إلى تباينِ القيادات؟ وهل الإمامةُ والقيادةُ المعصومةُ بحكمِ العقلِ أفضل أم القيادةُ غيرُ المعصومةِ؟ وهل للإمامةِ أيُّ وجودٍ أو أثرٍ فيما يتعلّقُ بسنّةِ الماضين؟ وهل ما يضمنُ استمرارَ الرسالةِ في كلِّ مراحلِها التاريخيّةِ بشكلٍ واحدٍ وموحّدٍ هوَ وجودُ إمامٍ معصومٍ يتولّى رعايتَها أم أنَّ ذلكَ يمكنُ تحقيقُه من دونِ وجوده؟ وبعدَ الوصولِ إلى إجاباتٍ واضحةٍ ومُحدّدة يمكنُ الانتقالُ إلى بحثِ الإمامةِ والقيادةِ في التصوّرِ العامِّ للإسلام، وهل أولى الإسلامُ أهميّةً خاصّةً لدورِ الإمام؟ وما هيَ الشروط التي وضعَها الإسلامُ للإمام؟ وهل كانَ رسولُ اللهِ يمثّلُ دورَ الإمامِ للأمّةِ مُضافاً إلى دورِ الرّسالة؟ وهل منَ الطبيعي أن تبقى الرسالةُ وينتفيَ دورُ الإمامةِ بعدَ وفاةِ رسولِ الله؟ وما هوَ الدورُ الذي يلعبُه الإمامُ المعصوم بعدَ الرسولِ في حالِ فرضنا وجوده؟ وهل ما وقعَ من حروبٍ واختلافٍ يمكنُ حدوثُه إذا سلّمَت الأمّةُ زمامَها لإمامٍ معصوم؟ وهل الاختلافُ في تفسيرِ الدينِ والتباينِ بينَ مدارسِه ومذاهبِه يمكنُ أن يحدثَ إذا توافقَت كلُّ الأمّةِ على الاستماعِ لإمامٍ معصوم؟ وغير ذلكَ منَ الأسئلةِ التي تضعُ لنا فكرةَ الإمامةِ في السّياقِ الذي يجبُ أن نبحثَه، وبعدَ هذهِ المرحلةِ يمكنُ للباحثِ أن ينتقلَ إلى مرحلةِ البحثِ عن الأشخاصِ الذينَ يمكنُ أن يمثّلوا الأئمّة، وهل كلُّ الصّحابةِ يصلحونَ لهذا الدورِ أم لابدَّ مِن وجودِ نُخبةٍ خاصّةٍ هيَ التي يمكنُها القيامُ بدورِ الإمامة؟ وهل بينَ الصّحابةِ مَن تفوّقَ على غيرِه في العلمِ والمعرفةِ وكانَ أكثرَهم إحاطةً بحقائقِ الإسلامِ وأكثرَ مساهمةً في تثبيتِ دعائمِه وأقربَهم مكانةً منَ الرسولِ وأكثرَهم حظوةً باهتمامِ الرّسول؟ كلُّ ذلكَ يفتحُ الطريقَ لمعرفةِ دلالاتِ النصوصِ التي ميّزَت أهلَ البيتِ (عليهم السّلام) عامّةً والإمامَ عليّاً (عليهِ السّلام) خاصّةً، فالذي يصلُ إلى كونِ الإمامةِ ضرورةً عقليّةً واجتماعيّةً ودينيّة، ويحصلُ له اليقينُ بأنَّ أهلَ البيتِ عامّةً والإمامَ عليّاً خاصّةً أكثرُ الناسِ علماً ومعرفةً بالإسلام، لا يمكنُه التردّدُ في دلالةِ الحديثِ الذي يقولُ مثلاً (يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) أو الحديثِ الذي يقول (مَن كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاه) أو الحديثِ الذي يقول (أنَّ الأئمّةَ اثنا عشرَ إماماً) وكذلكَ الحالُ في آياتِ القرآنِ التي أمرَتنا بأن نكونَ معَ الصادقينَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أو آيةِ وجوبِ الطاعةِ لأولي الأمر، قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم) أو آيةِ الولايةِ قالَ تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ) وغيرِ ذلكَ منَ النصوص، فسوفَ يجدُها واضحةً وصريحة ومنسجمةً معَ المبدأ العام ومحقّقةً لأهدافِ الرّسالةِ وغاياتِها. 

الملاحظةُ الثانية: فيما لهُ علاقةٌ بالمنهجِ الإسلاميّ في التعاملِ معَ القرآنِ وكيفيّةِ الاستفادةِ مِن آياتِه، فبعضُ المُجادلينَ مِن أهلِ السنّةِ يتعنّتُ في حوارِه مع الشيعةِ فيطالبُ بالدّليلِ القرآنيّ بعيداً عن الأحاديثِ النبويّة، وهذا ما لا يمكنُ التسليمُ به لأنَّ الحجّةَ الشرعيّةَ المُلزمةَ للمؤمنِ هيَ ما جاءَ في القرآنِ والسنّة، ومَن يكفُر بالسنّةِ النبويّةِ لا نناقشُه في الإمامةِ وإنّما نناقشُه في النبوّةِ، فمَن لا يُسلّمُ بحُجّيّةِ قولِ النبيّ وفعلِه وتقريرِه لا يمكنُ أن يُسلّمَ بحُجّيّةٍ للإمام. وعليه لابدَّ منَ الاستدلالِ بالآياتِ القرآنيّةِ بضميمةِ الرواياتِ النبويّة المُفسّرةِ لها سواءٌ كانَ تفسيراً مُباشراً أو غيرَ مباشر، ومنَ الواضحِ أنَّ تعنّتَ البعضِ في قبولِ هذا المنهجِ في حوارِه معَ الشيعةِ لأنّهُ لا يريدُ التسليمَ للأدلّةِ القطعيّةِ فيهربُ للجدال.

ومثالٌ على علاقةِ القرآنِ بالأحاديثِ في ما يخصُّ إمامةَ الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) قولهُ تعالى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ) فهذه الآيةُ تتحدّثُ عن الولايةِ، والولايةُ تعني مَن لهُ حقُّ التصرّفِ، ولم تكتفِ الآيةُ في جعلِ هذا الحقِّ خاصّاً باللهِ والرّسولِ وإنّما جعلَته أيضاً حقّاً لمَن أقامَ الصلاةَ وآتى الزكاةَ وهوَ راكعٌ، ولمعرفةِ الشخصِ المقصودِ لابدَّ منَ الرّجوعِ إلى الرّواياتِ التي فسّرَت ذلك، وحينَها سوفَ نكتشفُ أنَّ الذي أقامَ الصّلاةَ وآتى الزكاةَ وهوَ راكعٌ هوَ الإمامُ عليّ (عليهِ الّسلام) وبذلكَ نثبتُ الولايةَ له بعدَ ولايةِ اللهِ ورسوله. وكذلكَ الحالُ في قولِه تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم) حيثُ نجدُ الآيةَ جعلَت حقَّ الطاعةِ للهِ وللرّسولِ وأولي الأمر، ممّا يعني أنَّ الطاعةَ لا يمكنُ حصرُها في اللهِ والرّسولِ فقط كما يزعمُ أهلُ السنّةِ وإنّما هناكَ محورٌ ثالثٌ يجبُ على الأمّةِ طاعتُه وهُم ولاةُ الأمرِ، وبالتدبّرِ في الآيةِ نكتشفُ أنَّ الآيةَ جعلَت معياراً خاصّاً لمعرفةِ المقصودِ بأولي الأمرِ وهو (العصمةُ) لكونِ الآيةِ عطفَت طاعةَ أولي الأمرِ على طاعةِ الرّسول، وبما أنَّ طاعةَ الرّسولِ مُطلقةٌ فلابدَّ أن تكونَ طاعةُ أولي الأمرِ أيضاً مطلقةً، فيثبتُ بذلكَ عصمتُهم لأنَّ مَن يوجبُ اللهُ طاعتَه على سبيلِ الجزمِ والحتمِ لابدَّ أن يكونَ معصوماً وإلّا يكونُ اللهُ قد أمرَنا بطاعة مَن تصدرُ منه الأخطاءُ والمعاصي وهذا محالٌ، وإذا اتّضحَ هذا الأمرُ يمكنُ الرجوعُ للآياتِ والرّواياتِ لمعرفةِ ما يمكنُ أن يكونَ معصوماً بعدَ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليه وآله) وحينَها لا نجدُ غيرَ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) سواءٌ كانَ بدلالةِ آيةِ التطهيرِ في قولِه تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرًا) التي فسّرتها الرواياتُ في أهلِ الكساء، أو بدلالةِ حديثِ الثقلين (إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتُم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً كتابَ اللهِ وعترتي أهلَ بيتي) فعدمُ افتراقِ أهلِ البيتِ عن القرآنِ يؤكّدُ عصمتَهم. وهكذا الحالُ في بقيّةِ الآياتِ الدالّةِ على إمامةِ الإمامِ عليّ (عليهِ السّلام) مثلَ آيةِ البلاغِ وغيرَها منَ الآياتِ لابدَّ منَ الرّجوعِ للرّواياتِ والأحاديثِ النبويّةِ لمعرفةِ تفسيرِها. 

والملاحظةُ الثالثة: أنَّ التسلسلَ المنطقيَّ في بحثِ الإمامةِ يجبُ أن يطرحَ السؤالَ التالي: هل الإمامةُ مِن شأنِ الأمّةِ أم مِن شأنِ الرّسالةِ بمعنى أنّها لا تكونُ إلّا بالتعيينِ والتنصيب؟ فإذا ثبتَ أنَّ الإمامةَ مِن شأنِ الأمّةِ فلا داعي للبحثِ عن إمامةِ شخصٍ بعينِه، أمّا إذا ثبتَ أنّها ليسَت مِن شأنِ الأمّةِ وإنّما اللهُ ورسولهُ هُما مَن يتكفّلانِ بهذا الأمرِ حينَها لا يكونُ البحثُ مُجهِداً لأنّنا لا نجدُ مُنافِساً لأهلِ البيتِ (عليهم السّلام) بشكلٍ عامّ والإمامُ عليّ (عليهِ السلّام) بشكلٍ خاص، وإنّما كلُّ الأدلّةِ محصورةٌ فيهم دونَ سواهم، ولمناقشةِ هذا الأمرِ لابدَّ منَ الوقوفِ على الأدلّةِ العقليّةِ التي تحتّمُ على صاحبِ الرّسالةِ التعيينَ والتنصيبَ بوصفِه الطريقَ الحصريَّ لحفظِ الرّسالةِ وسلامةِ استمرارِها، ومِن ثمَّ ثانياً الوقوفُ على سُنّةِ اللهِ فيما يتعلّقُ بموضوعِ الإمامةِ هل هوَ مَن يتكفّلُ بتعيينِهم أم يجعلُ أمرَهم للأمّة؟ ومعرفةُ ذلكَ مِن خلالِ الآياتِ القرآنيّةِ التي تطرّقَت لموضوعِ الإمامة، وسوفَ يقفُ الباحثُ على الكثيرِ منَ الآياتِ التي تؤكّدُ أنَّ اللهَ هوَ الذي يختارُ ويجعلُ، مثالٌ لذلكَ قولهُ تعالى: (وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا وَأَوحَينَا إِلَيهِم فِعلَ الخَيرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) وغيرُ ذلكَ منَ الآيات. والأمرُ الثالثُ الذي نستعينُ به في هذا البحثِ هوَ الوقوفُ على سنّةِ الرّسولِ وكيفَ كانَ لا يقيمُ جماعةً إلّا ويعيّنُ عليهم أميراً، ولا يتركُ المدينةَ بعدَه إلّا بعدَ أن يجعلَ عليها خليفةً، ولا يرسلُ جيشاً إلّا بعدَ يجعلَ على رأسِه قائداً وهكذا، والأمرُ الرّابعُ هو الوقوفُ على أحاديثِ الرسولِ وهل فيها ما يصرّحُ أو يشيرُ إلى أنّهُ عيّنَ الخليفةَ مِن بعدِه أم لا؟ وسوفَ يقفُ الباحثُ على الكثيرِ منَ الأحاديثِ التي يعيّنُ فيها الرّسولُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) الإمامَ عليّاً ويجعلهُ وصيّاً مِن بعدِه مثلَ الحديثِ المتواترِ بينَ الفريقين (مَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ بنُ أبي طالبٍ مولاه) وغيرُ ذلكَ منَ الأحاديث. وعلى هذا النحوِ يمكنُ إثباتُ كونِ الإمامةِ شأناً للرّسالةِ وليسَت مِن شؤونِ عامّةِ النّاس. وفي المقابلِ يمكنُ أيضاً مناقشةُ ما يحتجُّ بهِ الطرفُ الآخر مِن كونِ أمرِ الإمامِ شورى بينَ المؤمنينَ، وهناكَ بحوثٌ متعدّدةٌ أبطلَت ذلكَ وبوجوهٍ مُتعدّدةٍ يمكنُ مراجعتُها.

2021/11/06

هل لمحمد (ص) معجزة غير القرآن؟!
يرى البعض أنه لا معجزة لمحمد صلى الله عليه وآله إلا القرآن، أما نحن فنؤمن بأن معجزاته لا يبلغها الإحصاء.

[اشترك]

ذلك بأن على الحكيم أن يخاطب كل قوم بلغتهم، وبما تستسيغه عقولهم كي تتم الحجة عليهم، وإلا كانت الحجة لهم عليه، ولا تتم الحجة بحال، ويستحيل أن تتم إلا إذا كانت صحيحة في نفسها، وواضحة في بيانها وأسلوبها كنور الشمس بحيث لا تدع منفذاً لأية شبهة في ذهن المخاطب، وإلا فإن «الحدود تُدرأ بالشبهات».

وبحيث يعد المنكر مكابراً ومتعنتاً في نظر العقلاء جميعاً، وأشرنا إلى ذلك في بعض ما تقدم وعلى هذا ينبغي أن تتنوع المعجزة وتختلف باختلاف الموارد والأشخاص، كما استدعت حكمته سبحانه أن يباهل نبيّه الكريم نصارى نجران كما قال تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ).

هذا إذا كان طالب المعجزة يبتغيها بصدق وإخلاص، أما الكاذب المتعنت الذي لا يجدي معه شيء فيقتصر معه على القرآن، لأن إعجازه عام لا يختص بعصر دون عصر، ولا بفئة دون فئة، أو بفرد دون فرد.

والذي يدلنا على أن معجزات الرسول الأعظم متعددة ومتنوعة أن رجل الدين فيما مضى كان يستدل على نبوة محمد بما جاءت به الأخبار من تكلّم الحصى، وسعي الشجرة إليه، ونبع الماء من بين أصابعه... إلى غير ذلك من المعجزات التي أنهاها بعضهم إلى أربعة آلاف وأربعمئة وأربعين معجزة، كما في البحار وكان الناس يتقبلون هذا آنذاك، أما اليوم حيث يتطلع العالم إلى حياة أفضل فإنها تدل على نبوة محمد (ص) فيما تدل: بأنه خاطب العقل وحارب الجهل، وساوى بين الناس، ووقف مع المستضعفين، وقاوم الطغاة المترفين، وأخرج بشريعته وتعاليمه العالم من ظلمات التوحش والهمجية إلى دور الحضارة والمدنية، وفضله نزع رعاة الإبل التيجان عن رؤوس الجبابرة، وألقوا بها تحت أقدامهم .

وقد تستدعي الحكمة أن لا تعرض المعجزة على الشخص إطلاقا، كما لو اكتفى بمجرد شعوره وإحساسه، فقد روى الرواة ، وفيهم ابن حنبل ، والبخاري ومسلم:

بيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ في المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ علَى جَمَلٍ، فأناخَهُ في المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قالَ لهمْ: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَّكِئٌ بيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ، فَقُلْنا: هذا الرَّجُلُ الأبْيَضُ المُتَّكِئُ. فقالَ له الرَّجُلُ: يا ابْنَ عبدِ المُطَّلِبِ فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ: قدْ أجَبْتُكَ.

فقالَ الرَّجُلُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنِّي سائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ في المَسْأَلَةِ، فلا تَجِدْ عَلَيَّ في نَفْسِكَ. فقالَ: سَلْ عَمَّا بَدا لكَ فقالَ: أسْأَلُكَ برَبِّكَ ورَبِّ مَن قَبْلَكَ، آللَّهُ أرْسَلَكَ إلى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فقالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ نُصَلِّيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ في اليَومِ واللَّيْلَةِ؟ قالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ نَصُومَ هذا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ تَأْخُذَ هذِه الصَّدَقَةَ مِن أغْنِيائِنا فَتَقْسِمَها علَى فُقَرائِنا؟ فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فقالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بما جِئْتَ به، وأنا رَسولُ مَن ورائِي مِن قَوْمِي، وأنا ضِمامُ بنُ ثَعْلَبَةَ أخُو بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ.

والخلاصة: أن معجزات الأنبياء على نوعين: خاصة كإبراء الأكمه، وعامة كالقرآن ، ومعجزات الأنبياء السابقين كلها خاصة لا تتعدى زمانها، وما لواحد منهم معجزة تشمل وتعم، أما محمد فله معجزات خاصة، كثيرة ومتنوعة، وله وحده المعجزة العامة الخالدة، وهي القرآن.

المصدر: كتاب نفحات محمدية

2021/10/25

محمد (ص) بأقلام مسيحية: صنع من الصحراء قوة هائلة!

محمد هو الوحيد

ظهر أخيراً في الولايات المتحدة الأمريكية كتاب جديد للدكتور (هارث) الذي يحمل أربع شهادات دكتوراه:

[اشترك]

الأولى في الرياضيات، والثانية في القانون، والثالثة في الفيزياء، والرابعة في الفلك، وهو الآن مسؤول علمي عن التطبيقات العلمية لعلوم الفضاء، في الولايات المتحدة وبين أخص صفاته أنه يبذل جهدا جباراً خارقاً في القراءة والمطالعة بخاصّة تأريخ العالم وحضارته بكل وجوهها، واسم كتابه الجديد «المئة»! وموضوعه أهم مئة رجل في التأريخ الإنساني كله.

وقد أخد المؤلف على نفسه أن يرتب المئة في الذكر تبعاً لأهمية كل واحد منهم، فالأول عظمة هو الأول ذكراً، وقد اختار الأول من المئة محمّداً، ويدلنا هذا -كما قال بهاء الدين- أن المؤلف على درجة عالية من التجرد وعدم الانحياز لأنه مسيحي، علماً بأنه جعل المسيح في الرقم الثالث، وموسى في الرقم السادس، وبرر المؤلف المسيحي اختياره محمدا للأولية بقوله:

"إن اختياري محمد ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ قد يدهش القراء، لكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي، فهناك رسل وحكماء بدأوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، المسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم أو سبقهم فيها غيرهم أو سبقهم إليها سواهم موسى في اليهودية، ولكن محمداً هو الوحيد الذي رسالته الدينية كاملة، وتحددت كل أحكامها وآمنت بها الشعوب بأسرها، في حياته؛ لأنه أقام إلى جانب الدين دولة جديدة، ووحد القبائل المختلفة في شعب متقدم، والشعوب في أمة متحضرة ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم أيضا في حياته.

ثم يضيف المؤلف المسيحي إلى ذلك: «إن معظم اللذين غيروا التاريخ ظهروا في قلب أحد المراكز الحضارية في العالم، ولكن محمد هو الوحيد الذي نشأ في بقعة من صحراء جرداء مجرّدة تماماً من كل مقومات الحضارة والتقدم، ولكنه جعل من البدو البسطاء المتحاربين قوة معنوية هائلة قهرت بعد ذلك إمبراطوريات (فارس، وبيزنطية، وروما المتقدمة بما لا يقاس).

وفي تأريخ الغزو في كل زمان للبلاد التي فتحها حلفاؤه عَرباً تماماً تغيرت لغةً وديناً وقومية.

وثبت ذلك واستقر بما ليس له مثيل في تأريخ الفتح في العالم.

كذلك لا يوجد نص في تأريخ الرسالات نقل عن رجل واحد وبقي بحروفه كاملاً دون تحريف سوى القرآن الذي نقله محمد، الأمر الذي لا ينطبق على التوراة مثلا أو الإنجيل، ومن أجل ذلك وجدت أن محمد هو صاحب الحق الوحيد في أن أعتبره صاحب أعظم تأثير على الإطلاق في التاريخ الإنسان.

أبدا، لا ذنب للإسلام عند خصومه إلا ذنب الطاهرة عند العاهرة، والمخلص عند الخائن، والضاري الشقي عند البر القي، وهل يطلب من الصهاينة والمستعمرين القدامى والجدد أن يهادوا الإسلام والقرآن الذي يثير الشعوب والأجيال ضد كل جائر وكافر بقوله تعالى: ( فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين).

إن الإسلام دين قد أصبح محركا للشعوب، وليس أفيونا لها كما قال مارکس: "الدين أفيون الشعوب".

المصدر: كتاب نفحات محمدية

2021/10/23

عليكم بـ «دين العجائز».. هل ينهانا الإسلام عن التعمّق في الدين؟!

ما صحّة الحديث المنسوب للنبيّ (ص): "عليكم بدين العجائز" وهل يدلّ على كفاية الفهم السّطحي والظاهريّ للدّين والنهي عن التعمّق في مسائله؟

[اشترك] 

ليس لهذه المقولة مصدر روائيّ في جميع تصانيف الشيعة، وما هو موجود في كتب أهل السنّة محكوم بالوضع وعدم الصحّة كما في تذكرة الموضوعات وكشف الخفاء. وقد نقل العلامة المجلسيّ في بحاره هذه العبارة في معرض مناقشته لموضوع وجوب النظر في الدّين، حيث تعرّض لهذا الحديث بقوله: (فإنّ بعضهم ذكر أنّه من مصنوعات سفيان الثوري فإنّه روي أنّ عمر بن عبد الله المعتزليّ قال: إنّ بين الكفر والإيمان منزلة بين المنزلتين. فقالت عجوز: قال الله تعالى (هو الّذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) فلم يجعل من عباده إلّا الكافر والمؤمن، فسمع سفيان كلامها فقال: عليكم بدين العجائز) (بحار الأنوار ج 66 ص 136) وعليه يكون سفيان الثوري هو أوّل من تنسب له هذه العبارة.  

وقد أورده الغزالي في كتابه أحياء علوم الدّين ج 3 ص 67 وعلّق عليه العراقي بقوله: قال ابن طاهرٍ في كتاب التذكرة: هذا اللفظ تداوله العامّة ولم أقف له على أصلٍ يرجع إليه من روايةٍ صحيحةٍ ولا سقيمة).

كما يروى عن أبي المعالي الجويني قوله: قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفاً، ثمّ خلّيت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضمّ، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كلّ ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحقّ بلطيف برّه، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرّحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلّا الله، فالويل لابن الجويني) (سير أعلام النبلاء 18 ص 470)  

وقيل في شرح هذه العبارة أنّ المقصود هو سلامة الفطرة من التسليم وعدم التشكيك كما هو حال العجائز، إلّا أنّ ذلك لا يقبل على إطلاقه فالعادة أنّ الناس على دين آبائهم من دون وعيٍ وتبصّرٍ قال تعالى: (بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمّةٍ وإنّا على آثارهم مّهتدون [22] وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قريةٍ مّن نّذيرٍ إلّا قال مترفوها إنّا وجدنا آباءنا على أمّةٍ وإنّا على آثارهم مّقتدون [23])، وعليه؛ إن كان التسليم أمراً مطلوباً إلّا أنّ التعصّب للباطل أمر مرفوض، ولا يمكن التمييز بينهما إلّا من خلال النظر والتفكّر والوقوف على الدّليل، ويبدو أنّ هذه العبارة شاعت بين بعض المتكلّمين الذين خاضوا في مسائل زادتهم حيرةً ممّا جعلهم في حالة اضطرابٍ وتردّدٍ فكانوا يحنّون إلى السكينة بقولهم يا ليتنا بدين العجائز.  

ومن المؤكّد أنّ التعمّق في الدين من خلال التدبّر في نصوصه والتتلمذ عليها أمر لابدّ منه، إلّا أنّ ذلك يحتاج إلى تزكية النّفس وترويضها على الإخلاص والابتعاد بها عن الأهواء المتمثّلة في التفاخر وحبّ الظهور، ففي الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السّلام): (ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيّئة، وسكر سكر الضّلالة، ومن شاق وعرت عليه طرقه وأعضل عليه أمره وضاق مخرجه. والشكّ على أربع شعب: على التماري، والهول، والتردّد، والاستسلام، فمن جعل المراء ديدنًا لم يصبح ليله) (بحار الأنوار 65 ص 348).

2021/10/21

يأس الاستعمار من القضاء على عقيدة المسلمين

محاولة الاستعمار في العصر الحديث للقضاء على الإسلام

في العصر الحديث حين دخل الاستعمار بلاد الإسلام بما لهم من قوة عسكرية هائلة، وثقافة مادية عالية، استطاعوا بها أن يجمّدوا ثقافتهم الدينية التي سادت في بلادهم قرونا كثيرة.

[اشترك]

وكانت هي القوة الفاعلة لهم في حروبهم الصليبية في القرون الوسطى، ومع ذلك كانت الغلبة أخيراً للثقافة المادية عندهم، وبقي الحال عندهم على ذلك حتى اليوم.

وكان مخططهم في اكتساح بلاد الإسلام هو العمل على نسيان المنطقة تاريخها مقدمة لتجريدها من عقيدتها ودينها، وتوجيهها الوجهة المادية الصرفة، كما كان هو الحال في بلادهم، التي هي المتحضرة بمنظورهم المادي الذي نجح في بلادهم.

وقد نشطوا في ذلك، وأعانهم واقع المسلمين المزري في وقته.

وقد سمعنا من شيوخنا، ورأينا في مذكرات بعضهم، ما يشهد بالإحباط واليأس الذي خيم عليهم، نتيجة جهود الاستعمار الحثيثة بعد الحرب العالمية الأولى في صرف الناس عن دينهم.

فشل الاستعمار في محاولته المذكورة لكن ذلك لم يدم طويلاً حتى استعاد الإسلام حيويته وفاعليته، وبدأت مظاهر نشاطه تظهر، واتسعت حتى وصلت إلى بلاد الغرب، نتيجة الهجرة المستمرة وتيسر المواصلات ووسائل الاتصال الثقافي، حتى صار العالم كالقرية الواحدة.

من دون فرق في ذلك بين الخط الإسلامي الأصيل المعتدل، والخط الإسلامي المشوّه المتطرف الذي قد ينتهي بالإرهاب بمراتبه المختلفة.

فإن الثاني وإن خرج عن الإسلام بتعاليمه القويمة، والإسلام يبرأ منه، إلا أن ذلك يكشف عن بقاء فاعلية الإسلام - بإطاره العام - وحيويته، وإن ساء استغلالها من قبل بعض من يتبناه ويتخذه شعارا له، ليظهر في الساحة، ويستقطب به الجماهير، نظير ما حصل في عصور الإسلام الأولى من الخوارج والقرامطة وغيرهم.

المصدر: كتاب خاتم النبيين

2021/10/19

المهوسون بالتنقيب يسألون: لماذا لا نجد للأنبياء آثاراً؟!
علم الآثار هو العلم الذي يهتم بكشف البقايا المادية التي تركها الإنسان، والهدف من ذلك هو محاولة التعرف على الشعوب الغابرة والوقوف على المعالم العامة لطريقة حياتهم، وتشمل تلك الآثار المباني والمنحوتات وأدوات الطبخ والصيد وغير ذلك، ومن خلالها يمكن رسم تصور عن نمط الحياة والثقافة الاجتماعية التي كانت حاكمة في تلك الأزمنة.

وتتعاظم أهمية البحوث الأثرية بالنسبة للحضارات الموغلة في القدم لانعدام التاريخ المكتوب الذي يوثق بشكل مفصل تلك الحياة، ومن هنا لا يكون لعلم الآثار الدور المحوري فيما يتعلق بالأحداث التي نقلت عبر وثائق مكتوبة وبخاصة إذا كانت تلك الأحداث ذات دلالات معنوية وليست مادية، ولذا نجد أن من أهم الدلائل التي تؤكد وجود حدث ما في التاريخ هو تناقله عبر التواتر الاجتماعي، بحيث يظل تأثيره حاضراً جيلاً بعد جيل، ووجود الأنبياء والرسل من هذا القبيل، حيث مازال لوجودهم التاريخي حضوراً واضحاً عبر الأجيال إلى يومنا هذا، فوجود اليهود والنصارى والمسلمين واتصالهم التاريخي عبر الأجيال يؤكد بشكل قطعي وجود الأنبياء الذين يمثلون اساساً لأديانهم، وعليه فإن تأثير الأنبياء الملحوظ في مسار التاريخ البشري يؤكد على وجودهم الفعلي في التاريخ، وحينها لا يكون وجود الأثر المادي إلا مجرد حالة حسية لا تشكل إضافة فعلية بالنسبة لما نعلمه من تاريخ الأنبياء؛ فتاريخ الأنبياء يمثل موروثاً متكاملاً عقائدياً واخلاقياً وتشريعياً وحضارياً، وبالتالي لا يمكن أثبات كل ذلك من خلال العثور على آثار مادية هنا أو هناك.

أما لماذا لم تصلنا آثار مادية من الأنبياء؟ فان التبرير المنطقي لهذا السؤال هو أن يكون وجود الأنبياء في التاريخ له علاقة بأدوار ذات آثار مادية، في حين أن مهمة الأنبياء لم تكن بناء المدن وتشييد الحصون كما هو حال ملوك الحضارات القديمة مثل الحضارة اليونانية والفرعونية وغيرها من حضارات، وإنما كانت مهمتهم الإنسان والعمل على إصلاحه فكرياً واخلاقياً وسلوكياً وآثار ذلك مازالت حاضرة إلى اليوم، وبالتالي من الخطأ البحث عن الأثر المادي لأن الأنبياء لم يعزلوا أنفسهم عن بقية الناس وإنما عاشوا الحياة بشكلها الطبيعي الذي عليه البقية ومن هنا لا نتوقع أن يكون لهم آثار خاصة مثل الحصون والقلاع.

2021/10/09

إثبات النبوّة بـ ’المعجزة’ و ’حسن الخلق’!

من أهم الأبحاث التي تَطَرّقوا لها في علم العقائد قضية إثبات نبوة النبي (ص) لكون هذا الأمر من أصول الدين وهو الحد الفاصل بين المسلم وغيره لاسيما بقية الأديان السماوية التوحيدية، لذلك لا يخلو كتاب من كتب العقائد من بحث الأدلة التي يمكن من خلالها إثبات نبوته (ص).

[اشترك] 

 عندما ننظر إلى ما قرره علماء الكلام نجد أنهم نَصّوا على أنّ الدليل الأساسي على نبوّته هي المعجزة، وإجراء المُعجِزة على يد كاذب قبيح وليس من الممكن أن يكرمه الله بها، إذن الدليل على نبوة النبي وجود المعجزة، من جهة عقلية تاريخية هو دليل تام، لكن هل جميع من أسلموا منذ السنة الأولى من دعوته كانت المعجزة سبب إسلامهم؟

تاريخياً من أظهر لهم النبي المعجزة لم يؤمنوا وبقوا على كفرهم وتكفيك قضية شق القمر التي رواها كل المسلمين، والذين لم يروا المعجزة آمنوا، إذن الإيمان لم يكن بسبب المعجزة والشيء الوحيد الذي دفعهم للإيمان هو خُلُق النبي (ص) فحُسنُ معاشرته هو سبب إسلامهم خصوصاً في العهد المكي والتي كانت الظروف فيها أصعب من العهد المدني، من هنا نفهم سبب تركيز القرآن على الجانب الأخلاقي عندما مَدَح النبي (ص) (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) - (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

فحتى من غير المسلمين توقّفوا عند خُلُق النبي وتكلموا عنه، لنأخذ أمثلة على ذلك: جيفرسون، وهو أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية الأوائل، عند كتابة الدستور صار نزاع بينهم حول الكاثوليكي المسيحي وهل يمكن أن يكون مواطن؟ وجُرَّ النقاش الى المسلم وهل يمكن أن يكون مواطن وهل الإسلام دينٌ أصلاً وهذا نبي أم لا؟ جيفرسون قال هذا نبي لسبب واحد وهو أنه مثل العظماء ودعا الى ما دعا إليه العظماء.

وفعلاً من ينظر الى الجانب الأخلاقي لدى النبي يتعجّب ونستعرض هذه الرواية التي تُبَيِّن ذلك، الرواية عن الإمام المجتبى (ع) يقول: كان دائم البِشْرْ، سهل الخُلُق، ليِّن الجانب، ليس بِفَظٍ ولا غليظٍ ولا صَخَّاب، ولا فحّاشٍ ولا عيّابٍ ولا مَدّاح، يتغافل عن ما لا يشتهي فلا يُؤَيَّسُ منه ولا يُخَيَّبُ فيه مؤمِّلِيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المِراء والإكثار وما لا يعنيه وترك من الناس ثلاث: لا يذُمُّ أحداً ولا يُعَيِّرُه ولا يطلب عثراته وعورته، وقضية من جاءه من أهل الطائف ورماه بالحجارة حتى أسقطه وسالت دِماؤه ثم دعا لهم النبي بالهداية هو خير دليل على حُسن خُلُقِه، فإذا كان تعامله مع من آذاه هكذا فكيف يتعامل مع من أحبّه.

قيمة هذا الكلام: نحن المسلمين إذا أردنا عرض الإسلام على الآخر عادةً يتم التركيز على الجانب الكلامي الفلسفي ونبدأ بعرض الأدلة الفلسفية إن كان على إثبات وجود الله أو على النُبُوّة أويتم التركيز على الأدلة التاريخية، لكن لماذا لا ننظر لزاوية حُسن الخُلُق؟ ففي ذلك الزمن كان دليلاً عملياً للناس ودليلاً على نُبُوّتِه فلماذا لا يكون تبليغنا للإسلام من هذا الجانب؟ في أن نحمل هذه الأخلاق عملياً فلا تُحمَل الرسالة باللسان فقط، فيقول أحد الأئمة (كونوا دُعاةً لنا ولكن بغير ألسِنَتِكُم)، فمشكلة الإعلام الغربي ليست مع الإسلام بل مع المسلمين، ولذلك لا يفتقد مجتمعنا للجانب الأخلاقي فقط بل أتى بمنظومة أخلاقية جديدة تُخالِف منظومة أخلاق النبي (ص) فلماذا لا نستفيد من أخلاق النبي ونوظفها لخدمة الإسلام (إنما بُعِثتُ لأُتَمِّم مكارِم الأخلاق).

2021/10/03

رحل النبي وانقطع الوحي: هل يتّصل جبرائيل بالأئمة (ع)؟!

لكي يتضح الأمر لابد من التفريق بين أمرين، الأول: الوحي بمعنى نزول جبرائيل إلى الأرض بغرض إبلاغ رسالة الله للعباد. والثاني: الوحي بمعنى مطلق الاتصال بالغيب سواء كان عبر الإلهام أو عبر حديث الملائكة.

[اشترك]

ومن المؤكد أن الأول منتفي بإجماع المسلمين لكون رسالات الله ختمت بالنبي محمد (ص) وبموته انقطع هذا الوحي عن الأرض، وعليه لا يمكن القول أن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) يوحى لهم بهذا المعنى، والأخبار المروية عنهم (سلام الله عليهم) تؤكد ذلك، ففي الخبر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: من زار النبي (صلى الله عليه وآله) فليسترجع ثلاثا، ثم ليقل: أصبنا بك يا حبيب قلوبنا، فما أعظم المصيبة بك، حيث انقطع عنا الوحي وحيث فقدناك ما شاء الله، وإنا إليه راجعون) (مستدرك الوسائل ج10ص 190) وفي بحار الأنوار أن أمير المؤمنين قال لفاطمة الزهراء (سلام الله عليهم): (من أين لك يا بنت رسول الله هذا الخبر، والوحي قد انقطع عنا؟ فقالت: يا أبا الحسن رقدت الساعة فرأيت حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قصر من الدر....) مما يدلل بشكل واضح أن الوحي الذي كان ينزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد انقطع بانتقاله إلى الرفيق الأعلى. 

أما مطلق الاتصال بالغيب فليس موقوفا على نزول جبرائيل برسالة من الله، كما أنه غير خاص بالأنبياء وإنما يمكن حدوثه لغيرهم مثل ما كان لمريم بنت عمران (عليها السلام) قال تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك علىٰ نساء العالمين) وقال تعالى: (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمٰن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا)، وكذلك أم موسى (عليه السلام) قال تعالى: (وأوحينا إلىٰ أم موسىٰ أن أرضعيه ۖ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني ۖ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) وهذا النوع من الوحي متحقق للأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ففي رواية الإمام الصادق (عليه السلام) عن الحارث بن المغيرة النضري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما علم عالمكم؟ جملة يقذف في قلبه أو ينكت في أذنه؟ قال: فقال: وحي كوحي أم موسى) (بحار الأنوار، ج26، ص58)، وعن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الأرض لا تترك بغير عالم، قلت: الذي يعلم عالمكم ما هو؟ قال: وراثة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن علي بن أبي طالب علم يستغنى به عن الناس ولا يستغني الناس عنه، قلت: وحكمة يقذف في صدره أو ينكت في أذنه؟ قال: ذاك وذاك) (بحار الأنوار، ج26، ص62). 

ولا مانع أيضا أن يكون الملك الذي يأتيهم بأخبار السماء هو جبرائيل طالما لم يكن من سنخ أخبار النبي (صلى الله عليه وآله)، وهناك بعض الروايات التي تؤكد أن جبرائيل أخبر السيدة الزهراء (سلام الله عليها) ببعض الأمور الغيبية، ففي صحيحة أبي عبيدة، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن فاطمة مكثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة وسبعين يوما وكان دخلها حزن شديد على أبيها وكان جبرئيل (عليه السلام) يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة عليها السلام). (الكافي ج1، ص 241)

 

2021/09/30

خارق للعادة.. هل تختص ’المعجزة’ بالأنبياء؟

رسول الله وآله ومعجزاتهم المشهودة 

لماذا توقّفَ حصولُ المُعجزاتِ بعدَ بعثةِ الرّسولِ (ص) وآله والتي كانَت تحدثُ مراراً على الأقوامِ السّابقة منَ الأوّلينَ؟ وهل من آيةٍ قرآنيّةٍ تدلُّ على ذلك؟

[اشترك]

1ـ لم تتوقّفِ المعجزاتُ بعدَ البعثةِ، بل أغلبُ مُعجزاتِ نبيّنا (ص) حصلَت بعدَ البعثةِ، مِن قبيلِ مُعجزةِ القرآن، وانشقاق القمر، وردِّ الشّمسِ، ونبوعِ الماء مِن أصابعِه، وحنينِ الجذعِ، وتسبيحِ الحصى، وإحياءِ الشاةِ المأكولةِ، وإشباعِ الخلقِ الكثيرِ منَ الطعامِ القليل، وكلامِ الذّئب، وشكوى البعير، ومجيءِ الشّجرةِ لمّا قالَ لها: أقبِلي، ورجوعِها لمّا قالَ لها: ارجعي، وكلامُ الذّراعِ المسمومةِ، وقوله لأميرِ المؤمنينَ (ع): تقاتلُ النّاكثينَ والقاسطينَ والمارقينَ، وقوله (ص) لعمّار: تقتلُكَ الفئة الباغيةُ، وإخبارُه عَن مقتلِ الحُسينِ (ع) وموضعِ شهادتِه، وجميعُها قد تحقّقَ، إلى غيرِ ذلكَ منَ المعجزاتِ الكثيرة.  

ومعجزاتُه منقولةٌ إلينا بالتّواتر.  

عدمُ اختصاص المُعجزاتِ بالأنبياءِ عليهم السّلام:  

2ـ والمعجزاتُ غيرُ مُختصّةٍ بالأنبياءِ، كما عليهِ جمهورُ المسلمينَ، وخالفَ المعتزلةُ، ولم يجوّزوا ظهورَ المُعجزِ على يدِ غيرِ الأنبياءِ، وهوَ قولٌ أبطلَه العلماءُ في كتبِ الكلام، أنظر: كشفُ المُراد ص159.

كلماتُ بعضِ علمائِنا في ثبوتِ المُعجزاتِ لأئمّتنا عليهم السّلام  

3ـ واستمرّت ظهورُ المعجزاتِ على يدِ أئمّتِنا (عليهم السّلام)، قالَ المُحقّقُ الطوسي في الأدلّةِ الدّالّةِ على إمامةِ أميرِ المؤمنينَ (ع): ولظهورِ المُعجزِ على يدِه، كقلعِ بابِ خيبر، ومخاطبةِ الثّعبانِ، ورفعِ الصّخرةِ العظيمةِ عنِ القليب، ومحاربةِ الجنِّ، وردِّ الشّمس، وغيرِ ذلكَ، وإدّعى الإمامةَ، فيكونُ صادقاً. وشرح العلّامةِ الحلّي لهذا البرهان، أنظُر: (كشفُ المُرادِ ص194، بتعليقِ السّبحاني)

وذكرَ الشّيخُ الصّدوقُ في اعتقاداتنا في الأئمّةِ (عليهم السّلام): وأنّهم الذينَ أذهبَ اللهُ عنهُم الرّجسَ وطهّرَهم تطهيراً، وأنَّ لهم المُعجزاتِ والدلائلَ، وأنّهم أمانٌ لأهلِ الأرضِ، كما أنَّ النّجومَ أمانٌ لأهلِ السّماء. (الإعتقاداتُ ص294)

قالَ الشّيخُ المُفيد: القولُ في الإيحاءِ إلى الأئمّةِ وظهورِ الإعلامِ عليهم والمعجزات : ... فأمّا ظهورُ المُعجزاتِ عليهم والإعلامِ فإنّه منَ الممكنِ الذي ليسَ بواجبٍ عقلاً ولا ممتنعٍ قياساً، وقد جاءَت بكونِه منهم - عليهم السّلام - الأخبارُ على التّظاهرِ والانتشار فقطعَت عليهِ مِن جهةِ السّمعِ وصحيحِ الآثارِ، ومعي في هذا البابِ جمهورُ أهلِ الإمامة. (أوائلُ المقالات ص69)

وقالَ الطوسي: ظهرَ منَ المعجزاتِ على يدِ الرّضا عليهِ السّلام الدّالّةِ على صحّةِ إمامتِه، وهيَ مذكورةٌ في الكتبِ، ولأجلِها رجعَ جماعةٌ منَ القولِ بالوقفِ مثلَ: عبدِ الرّحمنِ بنِ الحجّاج، ورفاعةَ بنِ موسى، ويونسَ بنِ يعقوب، وجميلٍ بنِ درّاج وحمّادٍ بنِ عيسى وغيرِهم، وهؤلاءِ مِن أصحابِ أبيهِ الذينَ شكّوا فيهِ ثمَّ رجعوا. 

وكذلكَ مَن كانَ في عصرِه، مثلَ: أحمدَ بنِ محمّدٍ بنِ أبي نصر، والحسنِ بنِ عليٍّ الوشّاء وغيرِهم ممَّن (كانَ) قالَ بالوقفِ، فالتزموا الحجّةَ وقالوا بإمامتِه وإمامةِ مَن بعدَه مِن ولده. (الغيبةُ للطوسي ص71)

وقالَ أبو الصّلاحِ الحلبي: ويدلُّ على إمامتِهم عليهم السّلام ظهورُ المعجزاتِ على أيديهم كظهورِها على أيدي الأنبياءِ عليهم السّلام ، وطريقُ العلمِ بها تواترُ الشيعةِ الإماميّةِ بظهورِها على يدِ أميرِ المؤمنينَ عليٍّ بنِ أبي طالب وأعيانِ الأئمّةِ مِن ذرّيّتِه صلواتُ اللهِ عليهم، كتواترِ الناقلينَ لمُعجزاتِ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله، يعلمُ ذلكَ مِن حالِهم كلّ متأمّلٍ لنقلِهم، فإذا ظهرَت المعجزاتُ على أيديهم مقترنةً بدعواهُم للإمامةِ، وثبتَ النصُّ منَ اللهِ تعالى بها عليهم زالَ الرّيبُ في ثبوتِها لهم. (الكافي في الفقهِ ص100)

وذكرَ المُحقّقُ الحلّيُّ في الأدلّةِ الدّالّةِ على حُجّيّةِ فتوى الأئمّةِ (عليهم السّلام)، الوجهُ الثاني: ما ظهرَ عنهم منَ المُعجزاتِ التي ملأ بها المحدّثونَ الكتبَ منَ الإخبارِ بالمُغيّباتِ، والطبعِ في الحصى وغيرِه، وذكرُ ذلكَ مُفصّلاً يفتقرُ إلى كتابٍ مُفردٍ، فمَن أرادَه فليراجِع الكتبَ المُختصّةَ به. (المُعتبر: 1 / 26)

بعضُ الرّواياتِ الدالّةِ على ثبوتِ المعجزاتِ لأئمّتِنا عليهم السّلام  

وروى الصّدوقُ بسندِه عَن سليمانَ بنِ مهران، عن أبي عبدِ اللهِ جعفرٍ بنِ محمّدٍ عليهما السّلام قالَ: عشرُ خصالٍ مِن صفاتِ الإمامِ: العصمةُ، والنّصوصُ، وأن يكونَ أعلمَ النّاسِ وأتقاهُم للهِ وأعلمَهم بكتابِ اللهِ، وأن يكونَ صاحبَ الوصيّةِ الظاهرةِ، و يكونُ له المُعجزُ والدّليلُ، وتنامُ عينُه ولا ينامُ قلبُه، ولا يكونُ لهُ فيئٌ، ويرى مِن خلفِه كما يرى مِن بينِ يديه. (الخصالُ للصّدوقِ ص438)  

وروى أيضاً بسندِه عن أبي بصيرٍ قالَ: قلتُ لأبي عبدِ اللهِ (ع) لأيّ علّةٍ أعطى اللهُ عزَّ وجلَّ أنبياءه ورسله وأعطاكُم المُعجزةَ؟ فقالَ: ليكونَ دليلاً على صدقِ مَن أتى بهِ والمعجزةُ علامةٌ للهِ لا يعطيها إلّا أنبياءه ورسلَه وحُججَه ليعرفَ بهِ صدقَ الصّادقِ مِن كذبِ الكاذب. (عللُ الشّرائع: 1 / 122)

وروى إبنُ جريرٍ عَن كتابِ الأنوارِ: قالَ الصّادقُ عليهِ السّلام : أعطى اللهُ أميرَ المؤمنينَ عليهِ السّلام حياةً طيّبةً بكراماتٍ وأدلّةٍ وبراهينَ ومعجزاتٍ ، وقوّةَ إيمانِه ، ويقينَ علمِه وعملِه ، وفضّلَهُ اللهُ على جميعِ خلقِه بعدَ النبيّ صلّى اللهُ عليهما وآلهما. (نوادرُ المُعجزاتِ لإبنِ جريرٍ ص20)  

وعن محمّدٍ بنِ مُسلم عنِ الصّادقِ (ع) في زيارةِ أميرِ المؤمنينَ (ع) في السّابعِ عشرَ مِن ربيعٍ الأوّلِ: السّلامُ عليكَ يا صاحبَ المُعجزاتِ... (المزارُ لإبنِ المشهدي ص208)

وعن صفوانَ عنِ الصّادقِ (ع) في زيارةِ أميرِ المؤمنينَ (ع): السّلامُ على صاحبِ الدّلالاتِ والآياتِ الباهراتِ والمُعجزاتِ القاهرات... (المزارُ لإبنِ المشهدي ص218 )

وغيرُها منَ الرّواياتِ الكثيرة.  

بعضُ المؤلّفاتِ في معاجزِ الأئمّةِ عليهم السّلام:  

وقد ألّفَ علماؤنا كثيراً منَ الكتبِ  ـ المُفردةِ والمُتضمّنةِ ـ التي حوَت المُعجزاتِ والدّلالاتِ الدّالّةِ على إمامةِ أئمّتِنا (عليهم السّلام)

1ـ نوادرُ المُعجزاتِ: لإبنِ جريرٍ الطبري الشيعي الصّغير.  

2ـ عيونُ المُعجزاتِ: للحسين بنِ عبدِ الوهاب.  

3ـ الثاقبُ في المناقبِ لابنِ حمزةَ الطوسي.  

4ـ الخرائجُ والجرائح: للشيخِ قطبِ الدّينِ الراوندي.  

5ـ إثباتُ الهُداةِ بالنّصوصِ والمُعجزات: للشيخِ الحرِّ العاملي.  

6ـ مدينةُ المعاجزِ: للسيّدِ هاشمٍ البحراني.  

وهذهِ المؤلّفاتُ كلّها مطبوعةٌ، ناهيكَ عنِ المفقودة.  

2021/09/18

ملحد يسأل: كيف تثبتون بـ ’العقل’ ضرورة وجود الأنبياء؟!

الإجابة الأولية والتي لا تحتاج إلى بذل المزيد من الجهد العقلي، هي أن العقل لا يتساءل عن ضرورة الأنبياء والرسول إلا بعد تسليمه بوجود الله تعالى، فالملحد لا يمكن أن يشغل عقله بهذا السؤال طالما لا يؤمن بالمرسِل فكيف يبحث عن رسوله؟

[اشترك]

وعليه من يؤمن بأنه جاء إلى الوجود بفعل إرادة غير إرادته، لابد أن يؤمن أيضاً بوجود رسالة وهدف من هذه الخلقة بحسب ما تمليه ابجديات التفكير المنطقي، وهذا لا يمكن إلا ضمن ثلاث خيارات بحسب الحصر العقلي.

الأول: أن يخاطب الله خلقه بشكل مباشر.

والثاني: أن يتمكن الخلق جميعاً من التواصل المباشر معه.

والثالث: أن يكون هناك وسيط بين الله وخلقه هو الذي يبلغ رسالته للجميع.

وبعيداً عن الموانع العقلية التي تمنع الخيار الأول والثاني، فإن الخيار الأقرب للعقل هو الخيار الثالث، وبذلك تثبت أهمية الرسول والرسالة.

وللتفصيل في الأدلة العقلية يمكننا تناولها من عدة وجوه تشمل الجانب الوجودي أي البداية، والجانب التشريعي أي المسؤولية الحياتية، والغاية النهائية أي المصير الأبدي للإنسان ففي الجانب الوجودي الإنسان لم يكن ثم كان، وبالتالي جاء إلى الوجود بشكل طارئ وعرضي، وعندما يكون وجوده غير أصيل لابد من حِكمة تستوجب وجوده، والحِكمة لا يمكن أن يوجدها الإنسان لنفسه لكونها بالضرورة سابقة لوجوده، فتحديد الغاية والهدف سابق بالطبع لتحقق العمل في الخارج، مما يدفع الإنسان بشكل دائم للتعرف على تلك الحِكمة والوقوف على تلك الغاية التي أخرجته من العدم إلى الوجود، واحساس الإنسان بالحاجة واضطراره للخالق يجعله في حالة من الارتباط الدائم بمن أوجده، فالمخلوق معلق دوماً بخالقه، والموجود محتاج إلى موجده، وهذه العلاقة لا تفهم إلا في إطار المالك والمملوك وبعبارة اكثر وضوح في إطار العبد والمعبود، وبالتالي فلسفة الإيجاد والخلق تقود الإنسان إلى الاعتراف بكونه عبداً في حالة من البحث الدائم عن معبوده، والاهتداء لذلك المعبود معلق فقط بتدخل المعبود وبيان الطريق الموصل إليه، ولا يمكن للإنسان افتراض ما يمكن أن يكون طريقاً لأنه لا يكون إلا تخرصاً وجهلاً، ومن هنا أوجب الله على نفسه أن يهدي خلقه إليه عبر إرسال الأنبياء والرسل وإلا كان الإنسان في حالة من التيه والحيرة لا يعرف من أين أتي ولماذا أتى.

وهذا الجانب الوجودي يقودنا إلى المسؤولية الحياتية المعلقة بالإنسان، فاذا كان لوجوده غاية ولحياته هدف لابد حينها من وجود وسائل وتشريعات وقوانين تحكم مسيرته نحو تلك الغايات، وبخاصة أن الإنسان لم يجبر على سلوك طريق محدد وإنما جعل مخيراً في اختيار السبل التي يرى فيها غاياته، ومن هنا ليس كافياً أن يهتدي الإنسان إلى وجود خالق، وإنما لابد أن يهدي إلى الطرق الموصلة إليه وإلا ضل الطريق وتاه بعيداً عنه، والعبودية على مستوى التكوين التي تحققت من طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق لابد أن ترافقها عبودية على مستوى الإرادة الإنسانية، صحيح إن الإنسان حر في أن يعبد الله بإرادته أو لا يعبده، ولكنه مسؤول بحكم كونه مخلوق، فالعبادة على مستوى التشريع ليست إلا إقرار بكونه مخلوق، وهذه الحقيقة هي بداية الطريق لسعي الإنسان إرادياً نحو الله الخالق، ومن هنا كان واجباً على الله بلطفه أن يبين للإنسان طريق عبادته ويهديه إلى تشريعاته، فكان الأنبياء والرسول هم الذين يحملون للخلق تعاليم الله وتشريعاته.

ولا تكتمل الصورة بالنسبة للإنسان ما لم يقف على الغايات النهائية وما يكون عليه مصيره الابدي، ومن الواضح إن الإنسان وبحسب مقدراته العقلية لا يمكن كشف الغيب والوقوف على المصير الذي ينتظره، وبخاصة أنه يعلم يقيناً أنه ليس دائماً في هذه الحياة، فالسؤال الضروري الذي يؤرق الإنسان هو ما بعد الموت، ماذا يكون مصيره؟ ولبيان ذلك لابد من وجود الأنبياء والرسل حتى يشرحوا تفصيلاً للإنسان ما يكون عليه مصيره، والخطوات التي يتبعها والتي يجب أن يتجنبها حتى يحظى بحياة هنية بعد الموت. قال تعالى: (رُسُلاً مُبشِّرينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يكونَ للناسِ على الله حُجّةٌ بعدَ الرُّسُلِ) وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)

وفي المحصلة أن ضرورة الأنبياء للكشف عن الأسئلة الكبرى التي رافقت الإنسان منذ وجوده وإلى اليوم ولم تتمكن كل الفلسفات البشرية من تقديم إجابات لها، ولو لا الأنبياء لما عرف الإنسان من أين أتي ولماذا أتى وما هو المصير الذي ينتظره، بإجابات واضحة ومفصلة ترسم للإنسان رؤية كونية ورؤية تشريعية ورؤية تفصل مصيره الأبدي، وبالشكل الذي ينسجم مع العقل ويتطابق مع الفطرة والوجدان.

2021/06/23

هل الملائكة تتناسل كما البشر؟!

قد ورد (ان خلق الملائكة كان قبل خلق البشر بألفي عام) (تصحيح اعتقادات الإمامية: 81).

[اشترك]

وورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في خبر المعراج (... قلت: يا ملائكة ربي هل تعرفونا حق معرفتنا؟ فقالوا: يا نبي الله وكيف لا نعرفكم وانتم اول ما خلق الله؟ خلقكم اشباح نور من انواره ثم خلق الملائكة من بدء ما أراد من  أنوار شتى, وكنا نمر بكم وانتم تسبحون وتحمدون ونهلل بتسبيحكم وتحميدكم وتهلليلكم  وتكبيركم وتقديسكم وتمجيدكم .. (البحار 15/ 8, والمسائل العكبرية : 21).

وعليه فيتضح من خلال هذا الحديث أن أنوار الملائكة التي خلقت منها متعددة بخلاف الأشباح التي خلقها الله من نور أنواره وهم المعصومون الخمسة.

كذلك ورد ان خلق الملائكة على صور شتى, كما عن علي (عليه السلام): ( ويحك يابن الكوا  ان الله خلق الملائكة على صور شتى, ألا وإن لله ملكاً في صورة ديك, أبح, أشهب براثنه في الأرضين السفلى....) (الاحتجاج 1: 338).

ورد أيضاً (ان الله تعالى خلق الملائكة صمداً ليس لهم أجواف) (رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين: 46).

وقال سعيد بن المسيب (ت 94) وغيره: ((الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث, ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون, والشياطين يتوالدون وفيهم ذكور وإناث ويموتون, والشياطين ذكور وإناث ويتوالدون, ولا يموتون حتى يموت إبليس)) (شرح النهج لابن أبي الحديد: ج1: 77).

ويتبين من هذا العرض أن الملائكة خلقوا بلا تناسل من أنوار شتى وليس هم ذكور وإناث, ويمكن القول ان خلقهم كان بأدوار مختلفة تبعاً لمنازلهم وأدوارهم.

المصدر: مركز الأبحاث العقائدية

2021/05/23

ما قصة تجارته مع ’خديجة’: هل عمل النبي في رعاية الأغنام؟

لم يصح في شيءٍ ممَّا ورد عن أهل البيت (ع) أنَّ النبيَّ الكريم (ص) قد اشتغل أجيرًا لأحدٍ في رعي الأغنام، نعم ورد ذلك في طرق العامَّة كما في صحيح البخاري بسنده عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "ما بعث اللهُ نبيًّا إلا رَعى الغنم، فقال أصحابُه: وأنت؟ فقال: نعم، كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكة"([1]).

[اشترك]

هذا وقد اختلفوا فيما هو المراد من قوله: "على قراريط" هل قصد من ذلك بيان مقدار الأجرة أو أنَّه قصَدَ الإشارة إلى المكان الذي كان يرعى فيه الغنم وأنَّ اسمه قراريط، وعلى أيِّ تقدير فإنَّ قوله: "لأهل مكة" ظاهرٌ في أنَّه كان يُؤجِّر نفسه لرعي أغنام أهل مكَّة.

وهذا الذي ننفيه ونقول إنَّه لم يصح عن أهل البيت (ع)، ويؤكِّده ما رُوي عن عمَّار بن ياسر والذي كان تِرْبًا لرسول (ص)([2]) وكان معه في مكَّة قال –كما في تاريخ اليعقوبي-: "ولا كان – أي النبي (ص)- أجيرًا لأحدٍ قط"([3]).

هذا مضافًا إلى أنَّ الاعتبار الاجتماعي وكون النبيَّ (ص) من أشراف قريش بل هو من أعلاهم نسبًا وحسبًا وأنَّه ابنُ عبد المطَّلب سيِّد قريش وابن أخي أبي طالب شيخ البطحاء يُعزِّز ما أُثِرَ عن عمَّار بن ياسر من النفي المؤكَّد لصيرورة النبيِّ (ص) أجيرًا لأحدٍ يومًا ما.

كان يرعى ما يملكه من أغنام:

نعم ورد في بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) أنَّ النبيَّ الكريم (ص) قد اشتغل برعي الأغنام، وهي رواية عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "ما بَعثَ اللهُ نبيًا قط حتى يسترعيه الغنم، يُعلِّمه بذلك رعية الناس"([4]).

وكذلك أورد الشيخ الصدوق بسنده عن محمد بن عطية قال: سمعتُ أبا عبد الله (ع) يقول: إنَّ الله عزَّ وجل أحبَّ لأنبيائه (عليهم السلام) من الأعمال الحرث والرعي، لئلا يكرهوا شيئًا من قطر السماء"([5]).

وأورد الراوندي عن الشيخ الصدوق عن أبي سلمه أنَّ جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنَّا عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) بمُرِّ الظهران نرعى الكباش وأنَّ رسول الله قال: عليكم بالأسود منه فإنَّه أطيبه، قالوا: نرعى الغنم؟ قال: نعم، وهل نبيٌّ إلا رعاها"([6]).

فهذه الروايات وإنْ كانت ظاهرة في أنَّ النبيَّ الكريم (ص) قد اشتغل برعي الأغنام ولكنَّها لا تدلُّ على أنَّه كان يرعاها لغيره، فالنبيُّ (ص) كأبناء عصره كان يملكُ أغنامًا، فكان يذهبُ بها للمرعى وربما ساقَ معها بعض غُنيمات أهلِه إحسانًا منه إليهم، وهذا هو معنى اشتغاله برعي الأغنام لا أنَّ الرعي كان مهنةً له وأنَّه كان يؤجِّرُ نفسَه لرعي أغنام الناس كما تدَّعيه بعضُ روايات العامَّة.

ولعلَّ ممَّا يؤيدُ ذلك ما أورده الراوندي عن الصدوق بسنده عن سيف بن حاتم عن رجل من ولد عمار عن آبائه قال: قال عمَّار رضي الله عنه: "كنتُ أرعى غُنيمة أهلي، وكان محمَّدٌ صلَّى الله عليه وآله وسلم يرعى أيضًا، فقلتُ: يا محمد هل لك في فخ (فج)؟ فإنِّي تركتُها روضة برق، قال: نعم فجئتُها مِن الغد وقد سبقني محمدٌ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو قائم يذودُ غنمَه عن الروضة، قال: إنِّي كنتُ واعدتُك فكرهتُ أنْ أرعى قبلك"([7]).

فقول عمَّار: "كنتُ أرعى غُنيمة أهلي، وكان محمدٌ (ص) يرعى أيضا" معناه ظاهرًا أنَّ النبيَّ (ص) كان يرعى أيضًا غنيمة أهله فلم يكن أجيرًا عند أحد.

لم يكن أجيراً عند خديجة بل كان مضارباً:

وأمَّا ما يُقال إنَّه (ص) عمل أجيرًا عند السيِّدة خديجة قبل زواجه منها فهذا أيضًا لم يصح، فما ثبت في السيرة هو أنَّه تاجرَ بأموال خديجة (رضوان الله عليها) بمعنى أنَّه كان مضارِبًا ولم يكن أجيرًا ومعنى المضاربة، هي أنْ يُتاجر أحدُ الطرفين بأموال الآخر ويكون الربحُ بينهما بالنسبة المتوافَق عليها بينهما.

ويُؤكِّد ذلك ما أُثر عن عمَّار بن ياسر(رضوان الله عليه) ينفي ما زعمه الناس من أنَّ النبيَّ (ص) كان أجيرًا عند السيِّدة خديجة (رضوان الله عليها) قال: "وإنَّه ما كان ممَّا يقول الناس أنَّها استأجرتْه بشيء، ولا كان أجيرًا لاحدٍ قط"([8]).

وهذا هو المستفاد ممَّا رواه ابنُ إسحاق -كما في تاريخ الطبري وغيره- قال: ".. فلمَّا بلغها -خديجة- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغها من صدقِ حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه بعثتْ إليه فعرضتْ عليه أنْ يخرج في مالها إلى الشام تاجرًا وتُعطيه أفضلَ ما كانت تُعطي غيره من التُّجار مع غلامٍ لها يُقال له ميسرة، فقبله منها رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فخرجَ في مالِها ذلك"([9]).

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّه لم يصح أنَّ النبيَّ (ص) كان يمتهنُ رعي الأغنام في مقتبل عمره الشريف، نعم كانت له أغنام وبعض الإبل ورثها من أبيه فكان يرعاها ويسوسها كما يسوسُ الرجلُ دوابَّه وأملاكه، وكذلك فإنَّه لم يعمل أجيرًا عند أحد، وما رُوي من خروجه إلى الشام بأموال خديجة (رضوان الله عليها) فإنَّ ذلك وإنْ صحَّ إلا أنَّه لم يصح أنَّه كان أجيرًا عندها بل كان مضاربًا ومتاجرًا بأموالها، فكان له نسبةٌ من الربح ولها نسبةٌ منه، ولو اتَّفق عدم الربح فمقتضى عقد المضاربة أنْ لا يكون على صاحب المال شيءٌ للمُضارٍب، وعلى خلاف ذلك تكون الإجارة، فإن الأجير يستحقُّ الأجرة على المؤجِّر مطلقًا سواءً حصل الربحُ أو لم يحصل بل حتى لو خسِرَ المؤجِّر فإنَّ الأجير يكون مستحقًّا للأجرة على المؤجِّر.

الهوامش:

[1]- صحيح البخاري -البخاري- ج3 / ص48.

[2]- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج20 / ص38.

[3]- تاريخ اليعقوبي -اليعقوبي- ج2 / ص21.

[4]- علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص32.

[5]- علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص32.

[6]- قصص الأنبياء -الراوندي- ص284.

[7]- قصص الأنبياء -الراوندي- ص274.

[8]- تاريخ اليعقوبي -اليعقوبي- ج2 / ص21.

[9]- تاريخ الطبري -الطبري- ج2 / ص35، مناقب علي بن أبي طالب -ابن المغازلي- ص350، أسد الغابة -ابن الأثير- ج5 / ص435.

2021/04/26

هل يحتاج النبي والإمام إلى مستشارين؟! (فيديو)

بيّن سماحة العلامة الشيخ فوزي آل سيف، دامت بركاته، إمكانية حاجة النبي والإمام (ع) مع عصمتهما إلى المشورة، فيما استشهد باستشارة الإمام علي (ع) لابن عباس في طلب كل من طلحة والزبير الإمارة على البصرة والكوفة.

وأكد سماحته، بحسب مقطع فيديوي حصل عليه «موقع الأئمة الاثني عشر»: "إن الإمام والنبي لا يحتاجان إلى رأي أحد، فهما أكمل الخلق عقلاً ورأياً ولكن لكي يدربوا المسلمين ويعلمونهم على قضية المشورة؛ استشاروا بعض الصالحين من ذوي الرأي والحجى، فالنبي والإمام لهما حق التصرف دون الاعتناء لرأي أحد، ولكن هذا سيبرر لغيرهم من الحكام والملوك الاستبداد بحجة التأسي بهما.

تفاصيل أكثر في الفيديو أدناه:

2020/11/03

«أُمرت أن أطيعك».. ما حقيقة استئذان «ملك الموت» لقبض روح النبي (ص)؟

هل حقَّاً تُوجد لدينا رواياتٌ عن أهلِ البيت (ع) تدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى قد خيَّر نبيَّه الكريم (ص) بين قَبضِ روحِه الطاهرة وبين البقاءِ إلى أمَد، وأنَّه (ص) استُئذنَ قبل قَبضِ روحِه فلمَّا أذِنَ قَبضَ ملَكُ الموتِ روحَه الطاهرة (ص)؟

الجواب:

نعم ورد ذلك في الروايات الواردة عن أهل البيت (ع):

منها: ما ورد في كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق بسندٍ موثَّق إلى أبي بصير عن أبي جعفر (ع) قال: "لمَّا حضرتْ النبيَّ (ص) الوفاةُ نزلَ جبرئيلُ (ع) فقال: يا رسولَ الله هل لك في الرجوعِ إلى الدنيا؟ فقال: لا، قد بلَّغتُ رسالاتِ ربِّى، فأعادها عليه، فقال: لا، بل الرفيق الاعلى .."(1).

ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في الأمالي بسنده عن عبد الله بن ميمون المكي، قال: حدَّثنا جعفر بن محمَّدٍ، عن أبيه، عن عليِّ بن الحسين (ع)، أنَّه دخل عليه رجلانِ من قريش، فقال: ألا أُحدِّثكما عن رسولِ الله (ص)؟ فقالا: بلى، حدِّثْنا عن أبي القاسم. قال: سمعتُ أبي (ع) يقول: لمَّا كان قبل وفاة رسولِ الله (ص) بثلاثةِ أيام هبط عليه جبرئيلُ، فقال: يا أحمد، إنَّ اللهَ أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً لك وخاصة، يسألُك عمَّا هو أعلمُ به منك، يقولُ: كيف تجدُك يا محمَّد؟ قال النبيُّ (ص): أجدُني -يا جبرئيلُ- مغموماً وأجدُني -يا جبرئيلُ- مكروباً. فلمَّا كان اليومُ الثالث هبط جبرئيلُ وملَكُ الموت، ومعهما ملَكٌ يُقال له: إسماعيلُ في الهواء على سبعينَ ألف ملَك، فسبقهم جبرئيلُ (ع)، فقال: يا أحمدُ، إنَّ الله عزَّ وجلَّ أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصَّة، يسألُك عمَّا هو أعلمُ به منك. فقال: كيف تجدُك يا محمد؟ قال: أجدُني -يا جبرئيلُ- مغموماً، وأجدُني -يا جبرئيلُ- مكروباً. فاستأذنَ ملَكُ الموت، فقال جبرئيلُ: يا أحمدُ، هذا ملَكُ الموتُ يستأذنُ عليك، لم يستأذنْ على أحدٍ قبْلَك، ولا يستأذنُ على أحدٍ بعدك. قال: ائذنْ له. فأذِنَ له جبرئيلُ (ع)، فأقبَلَ حتى وقفَ بين يدَيه، فقال: يا أحمدُ، إنَّ اللهَ أرسلني إليك، وأمرني أنْ أُطيعَك فيما تأمُرُني، إنْ أمرتني بقبضِ نفسِك قبضتُها، وإنْ كرهتَ تركتُها. فقال النبيُّ (ص): أتفعلُ ذلك يا ملَكَ الموتِ؟ قال: نعم، بذلك أُمرتُ أنْ أُطيعكَ فيما تأمُرُني.

فقال له جبرئيلُ (ع): يا أحمدُ، إنَّ الله تبارك وتعالى قد اشتاقَ إلى لقائِك. فقالَ رسولُ الله (ص): يا ملَكَ الموتِ، امضِ لِمَا أُمرتَ به. فقال جبرئيلُ (ع): هذا آخر وطئي الأرضَ، إنَّما كنتَ حاجتي من الدنيا. فلمَّا تُوفِّي رسولُ الله صلَّى الله على روحه الطيِّب، جاءت التعزيةُ، جاءهم آتٍ يسمعونَ حِسَّه، ولا يرونَ شخصَه، فقال: السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) إنَّ في اللهَ عزَّ وجلَّ عزاءً مِن كلِّ مصيبةٍ، وخلَفَاً من كلِّ هالك، ودَرَكاً من كلِّ ما فات، فباللهِ فثِقُوا، وإيَّاه فارْجُوا، فإنَّ المُصابَ مَن حُرمَ الثواب، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه. قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ (ع): هل تدرونَ مَن هذا؟ هذا الخَضرُ (ع)"(2).

أورد هذا الحديثَ الطبراني في كتاب الدعاء (3) وكتاب المعجم الكبير(4) والبيهقي في دلائل النبوة(5) وابن سعد في الطبقات الكبرى(6) وغيرُهم.

وأورد العامَّةُ رواياتٍ عديدة أخرى بعضها في صحيح البخاري ومسند أحمد صريحةً في تخيير الرسول (ص) بين البقاء إلى أمَدٍ وبين الرحيل إلى ربِّه جلَّ وعلا فاختار الرحيلَ إلى الرفيق الأعلى، فتخييرُ الرسولِ (ص) في ذلك ثابتٌ لدى الفريقين.


الهوامش:

1- من لايحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج4 ص163.

2- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص348.

3- الدعاء -الطبراني- ص367.

4- المعجم الكبير -الطبراني- ج3 ص129.

5- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة -أحمد بن الحسين البيهقي- ج7 ص210.

6- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 ص260.

2020/10/15

شهادة من مخالف: وثيقة تعود لعام ٢٠٠ هـ تثبت قدم نظرية (النص على الإمامة)

قول قدماء الشيعة بالنص على أسماء الأئمة.. شهادة من مخالف!

كثيرا ما نسب إلينا المخالفون والشاكون القول باختلاق نظرية الإمامة والنص على أسماء الائمة ع في الغيبة الصغرى (26هـ ـــ 329هـ) وبعدها، هذا بالرغم من تواتر النصوص لدى الإمامية.

واليوم بينما كنت أقرأ كتابا لأحد مخالفي الإمامية، وجدته يشهد لقدماء الامامية بعقيدة النص على الأسماء الطاهرة.

هذا المصنف هو أبو العباس عبدالله بن محمد المعروف بالناشيء الكبير، عاش في القرن الثاني والثالث الهجريين، وهو في كتابه مسائل الامامة ومقتطفات من الكتاب الاوسط فى المقالات، ص 23 يترضى على الخلفاء ومعاوية أيضا، وهذا يدل على عقيدته المخالفة للشيعة.

قال الناشيء الكبير وهو يعدد فرق الشيعة: (فرقة قطعوا على موته ــ أي عليا عليه السلام ــ وزعموا أن الإمام بعده الحسن بن علي، وزعموا أن النبي صلعم قد نص على إمامته كما نص على إمامة أبيه، وهؤلاء هم الذين يدينون بنسق الإمامة وتواتر الوصية، يقولون: لا بد بعد كل إمام من إمام، وبعد كل وصي من وصي إلى أن تفنى الدنيا.

وزعموا أن النبي صلعم قد نص لعلي على كل إمام يكون بعده من ولده إلى يوم القيامة باسمائهم وصفاتهم، فالإمامة تجري اليوم عندهم على ما نص عليه النبي صلعم. وقد حكى هذا القول جماعة من أصحاب علي عليه السلام منهم: الحارث الأعور والأصبغ بن نباته وعبد خير)

راجع قوله في: مسائل الامامة ومقتطفات من الكتاب الاوسط فى المقالات، ص 22

وهنا مسائل يحسن توضيحها:

أولا: ألف الناشي الكبير كتابه المذكور قبل استشهاد الإمام الرضا ع (ت 203هـ)، وقبل انتقال الإمامة لابنه الجواد عليه السلام، وهذا يعني أن المصنف ولد على الأقل قبل سنة 180هـ، فإن صح أن وفاته كانت سنة 293هـ، فهو من المعمرين.

إننا نتعامل مع نص تمت كتابته حدود سنة 200 للهجرة، قبل القول بإمامة الإمام الجواد ع (203هـ ــــ 220هـ) كما في الإقرار التالي للمؤلف نفسه.

قال في كتابه المذكور ص 48 مبينا افتراق الشيعة منتهيا بذكر الواقفة ــ الذين قالوا بإمامة موسى بن جعفر ع (183هـ) دون سائر أبنائه ــ: (وإلى هذا الموضع انتهى اختلاف أصحاب الإمامة القائلين بالنسق في الوقت الذي كتبنا فيه كتابنا هذا)

ثانيا: اعتقاد الإمامية في القرن الثاني الهجري وما قبله بتواتر الوصية على الأئمة كما يفيد قوله :(وهؤلاء هم الذين يدينون بنسق الإمامة وتواتر الوصية).

ثالثا: اعتقاد الإمامية في القرنين الاول والثاني الهجريين بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأئمة عليهم السلام بأسمائهم واخبار النبي عليا عليه السلام بذلك، كما في قوله: (وزعموا أن النبي صلعم قد نص لعلي على كل إمام يكون بعده من ولده إلى يوم القيامة باسمائهم وصفاتهم)

رابعا: ذكر المصنف أن اعتقاد تعيين الأئمة بأسمائهم هو المحكي عن بعض أصحاب الأمير عليه السلام، منهم: (الحارث الأعور والأصبغ بن نباته وعبد خير).

وقوله هذا يدل على اعتقاد بعض أصحاب الإمام علي عليه السلام بالنص على الأئمة بأسمائهم، لكن قد يقال إن قوله: (وقد حكى هذا القول جماعة من اصحاب علي عليه السلام منهم: الحارث الأعور والأصبغ بن نباته وعبد خير)

هو حكاية لقول الإمامية، وهذا مردود ويرده صياغة الكلام، فهو قرر ذاك الاعتقاد أولا، ثم أكده بأنه: حكي عن جماعة من أصحاب علي ع، ثم ذكر ثلاثة منهم.

خامسا: إن عبد خير الذي ذكره هو: عبد خير بن يزيد الهمداني من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا صحابي يؤمن بالنص على الأئمة بأسمائهم، قد أفرده بترجمة مستقبلا، وحاله مشابه إلى حد ما للصحابي أبي الطفيل عامر بن وائلة الذي جعله ابن قتيبة في معارفه من غلاة الرافضة القائلين بالرجعة، وهو ممن حمل راية المختار.

سادسا: هذا النص المتقدم من علم مخالف للشيعة يترضى على الداعية إلى النار، هو وثيقة مهمة صريحة تدل على اعتقاد الإمامية في القرنين الاول و الثاني الهجريين بوجود نص نبوي على أسماء الأئمة عليهم السلام، وتدل على اعتقاد الأصبغ والحارث والصحابي عبد خير تلك العقيدة، وبهذا يبطل ما يقوله الأفاكون الشكاكون ضعاف النفوس من تأخر النص على الأئمة واختلاق الإمامية له .

سابعا: في الوثيقة المتقدمة رد أيضا على من زعم أن مهندس نظرية الإمامة ومخترعها هما هشام بن الحكم أو ابن الراوندي (التائب) لأن هذين متأخرين عن الأصبغ والحارث وعبد خير.

ثامنا: من التابعين الإمامية الذين قالوا بالنص وإمامة السجاد والباقر عليهما السلام الفقيه إبراهيم النخعي (ت 96هـ) كما في نقل القاسم الرسي (ت 246هـ) عنه في كتاب (الكامل المنير في اثبات ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) تحقيق: عبد الولي يحيى الهادي، ص49 ـــ 50 وهذا الكتاب وإن شككوا فيه، لكن أسنده إليه الإمام القاسم بن محمد في كتاب (الاعتصام بحبل الله المتين) وكتبه الأخرى، وقد كان لي كلام حول إمامية النخعي.

2020/10/13

سلطان علم الكتاب والقرآن: لا يزال الباب مفتوحاً أمام الأعاجيب العلمية!

كتب السيد محمد شرف الدين: الملك العظيم في سلطان محمد وآله الطاهرين

إن خضوع الكون لنظام متشابك من العلاقات بين اسباب ومسببات مما لا يدنو منه شك ولا يعروه ارتياب عند اولي البصائر والألباب.

وما طواه الإنسان من رحلة مضنية عبر الأزمان الى عصرنا تكرست في مسيرة استكشافه لتلك العلاقات ولولا ذلك لما وصل الى فتوحاته العلمية التي  تحكم من خلالها بمجريات الطبيعة فدفع عن نفسه كثيرا من أخطارها  وجير لمصلحته المزيد من منافعها  رخاءً زَيّنَ به عيشه حتى قرَّبَ البعيد وابعدَ القريب وطوى المسافات وصنع الأعاجيب ورقى الى الفضاء واستمطر السماء واستصلح البوار وتفنن في الأثمار  الى ما يعسر احصاؤه ويشق عدّه.

وينطوي هذا الكون على اسرار تدهش لها العقول وتطيش الألباب فكم من طاقة هائلة كانت مودعة في ذرات لا يلحظها البصر اهتدى اليها البشر فشطرها واطلق مخزونها المكنون فكانت الطاقة النووية المستثمرة في شتى المجالات من ترسانة الموت والدمار الشامل الى اداة الحياة في حقل العلاجات الطبية المتقدمة.

وما زال الإنسان يرسل طائر خياله الى افق رحب يتطلع الى المزيد يحدوه نَهم المعرفة وشراهة الاستكشاف يمنّي نفسه اختراق الأفلاك واحياء الأموات او دفع الشيخوخة او الموت عن نفسه ومنذ فتح عينيه البرت اينشتاين بنظريته على حلم غريب ما انفكت تختمر في فكره فكرة السفر عبر الزمن الى الماضي والمستقبل.

إن الخيال العلمي هو جزء من واقع كان كذلك امس فاستحال حقيقة ملموسة اليوم وقد يلتحق بها غداً بعض ما نصنفه اليوم خيالاً.

أ ترى لو بلغ اسلافنا الأولين خبرُ ما نستعمله في حياتنا اليومية ويلهو به اطفالنا من آلات وادوات دون اكتراث هل كانوا به مصدّقين ام يحكمون على قائله بالكذب او الجنون؟!

إن كل تلك الأعاجيب العلمية الجبارة حازها الإنسان العادي بإقدار الهي ضمن الاطار الطبيعي العام من خلال سلطان العلم المتراكم.

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) فزها بنفسه واختال وتنكر لصانعه وملهمه فحق عليه قول العزة :كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦)أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى..

سلطان العلم الذي كانت له الصدارة في قاموسنا الديني ونصوصنا المقدسة.

العلم بالكتاب والقرآن

وإذ نقصد من بحثنا هذا استخلاص ما يتحصل من الأدلة في ملكهم صلوات الله عليهم فلن نخوض غمار تحقيق معنى الكتاب ومحتواه والقرآن ومدارجه الوجودية وتحديد حقيقتهما وحدة وتغايراً بل نقتصر على ما يتعلق بالمقام.

فنقول: لا ريب في دلالة هذين المصطلحين على الدستور التشريعي والمرجع المعرفي الوحياني وهو القدر المتيقن لدى كل مسلم وحيث إنَّ ثبوته لا ينفي ما عداه فإن الإقتصار عليه ونفي ما سواه برفع اليد عن دلالة جملة مما جاء في الكتاب الكريم والحديث الشريف وارتكاب التأويل فيها مجانبة للإنصاف وسلوك في متاهة الاعتساف.

فلو وقفنا بين يدي قوله تعالى:

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ

لوجدنا الكتاب موصوفا في عقد السلب بعدم تفويته لشيء.

 ولو امعنا النظر في دلالة شيء المنكّرة في سياق النفي مع كونها اوسع المفاهيم واشملها لظهر كون الكتاب الموصوف هنا هو ما يحمل بين دفتيه ما يتعلق بكل كائن كان ويكون وامكن ان يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون.

ويلتقي ذلك مع قوله جل جلاله:

وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ

وقوله تقدس اسمه:

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ

وقوله جل ثناؤه وجمّت آلاؤه:

وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء

لنعطف بعدها على قوله تعالى:

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا

واضمم إليه ما ورد في احاديث كثيرة رواها الفريقان من خواصٍ  مادية ومعنوية ودنيوية واخروية لسوره وآياته افردت لها المصنفات.

والحاصل أنه مضافا للمعارف والتشريع يكون مشتملاً على خارطة شاملة لإقليم الوجود برمته، كاشف لشبكة العلاقات المعقدة الحاكمة على دائرة الكائنات بحيث تخول من يؤتيه الله تعالى ذلك التصرفَ في مكوناتها بإذنه.

ثم إن هذا الكتاب وهذا القرآن بتلك الخصائص اوتي بأجمعه محمداً ثم ورثه آله صلى الله عليه وآله كما جاء في قوله تعالى:

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ

وقد روى الفريقان بأسانيدهم أنه علي صلوات الله عليه دون معارض مرفوع الى معصوم ومن زعم التعارض أو شكك فيه وأراد التحقيق فليرجع إلى ما أفاده أخونا الكبير سماحة آية الله السيد علي ابو الحسن في كتابه (سبعون آية في آل محمد صلى الله عليه وآله)

وروينا ما يدل على اشتراك ابنائه المعصومين في ذلك منها عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب "؟

قال: إيانا عنى، وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله.

وقوله تعالى:

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا

وقد وردت الاحاديث من طرق كثيرة بما لا يبعد تحصيل تواتر كون المعنيين به هم آل محمد صلى الله عليه وآله وسيأتي طرف منها إن شاء الله تعالى.

 بل هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بل هم الرّاسخونَ فِي الْعِلْمِ وهم الذين يعلمون قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ بل جدهم هو مدينة العلم وعلي بابها وهم ورثة ذلك العلم.

ولنُذكّر بما تقدم من قوله تعالى:

قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ

فيلتئم المعنى ويظهر الربط بين وصفه وفعله.

ونذكّر بما ورد من احاديث العلم بحروف اسم الله الأعظم وكون المعاجز الجارية إنما كانت به.

ولما كانت سلطنة الذي عنده علم من الكتاب هذه فما حال من عنده علم الكتاب كله الذي اشاد به الله تعالى في قوله:

وتلك المقاربة وردت في جملة من الأحاديث الشريفة منها ما اخرجه الكليني في الكافي بإسناده:

وعن سدير: ألم تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال:

فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل: " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " قال: قلت: جعلت فداك قد قرأته، قال: فهل عرفت الرجل؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قال: قلت:

أخبرني به؟ قال: قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب؟! قال: قلت جعلت: فداك ما أقل هذا فقال: يا سدير: ما أكثر هذا، أن ينسبه الله عز وجل إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير، فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل أيضا: " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب قال: قلت: قد قرأته جعلت فداك قال: أفمن عنده علم الكتاب كله أفهم أم من عنده علم الكتاب بعضه؟ قلت: لا، بل من عنده علم الكتاب كله، قال: فأومأ بيده إلى صدره وقال: علم الكتاب والله كله عندنا، علم الكتاب والله كله عندنا.

هذا في الكتاب وعلم الكتاب واما القرآن فأضف الى ما تقدم رواية ابي يعلى ج٢ ص٤١ بإسانده عن الزبير بن العوام:

لَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ : يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ ، إِنِّي نَذِيرٌ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ ، فَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ ، فَقَالُوا : تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْكَ ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ سُخِّرَ لَهُ الرِّيحُ وَالْجِبَالُ ، وَأَنَّ مُوسَى سُخِّرَ لَهُ الْبَحْرُ ، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى ؟ ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُسَيِّرَ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ ، وَيُفَجِّرَ لَنَا الْأَرْضَ أَنْهَارًا ، فَنَتَّخِذَهَا مَحَارِثَ فَنَزْرَعَ وَنَأْكُلَ ، وَإِلَّا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحْيِيَ لَنَا مَوْتَانَا فَنُكَلِمَهُمْ وَيُكُلِّمُونَا ، وَإِلَّا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُصَيِّرَ هَذِهِ الصَّخْرَةَ الَّتِي تَحْتَكَ ذَهَبًا فَنَنْحَتَ مِنْهَا وَيُغْنِينَا عَنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، فَإِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ كَهَيْئَتِهِمْ ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَهُ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ أَعْطَانِي مَا سَأَلْتُمْ ، وَلَوْ شِئْتُ لَكَانَ ، وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ تَدْخُلُوا مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ ، فَيُؤْمِنُ مُؤْمِنُكُمْ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكِلَكُمْ إِلَى مَا اخْتَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَتَضِلُّوا عَنْ بَابِ الرَّحْمَةِ وَلَا يُؤْمِنُ مُؤْمِنُكُمْ ، فَاخْتَرْتُ بَابَ الرَّحْمَةِ فَيُؤْمِنُ مُؤْمِنُكُمْ ، وَأَخْبَرَنِي : إِنْ أَعْطَاكُمْ ذَلِكَ ثُمَّ كَفَرْتُمْ أَنَّهُ مُعَذِّبُكُمْ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فَنَزَلَتْ { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ } حَتَّى قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ ، وَنَزَلَتْ { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } ، الْآيَةُ

اخرجه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3768)

فضم اليه قوله صلى الله عليه وآله علي مع القرآن والقرآن مع علي؛ فما من حضور لأحدهما دون الآخر ولن يفترقا حتى يردا على رسول الله صلى الله عليه وآله الحوض.

وما اخرجه الكليني بإسناده عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك أخبرني عن النبي صلى الله عليه وآله ورث النبيين كلهم؟

قال: نعم

قلت: من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه؟

قال: ما بعث الله نبيا إلا ومحمد صلى الله عليه وآله أعلم منه

قال: قلت: إن عيسى ابن مريم كان يحيى الموتى بإذن الله

قال: صدقت وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقدر على هذه المنازل، قال: فقال: إن سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشك في أمره " فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " حين فقده، فغضب عليه فقال: " لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين " وإنما غضب لأنه كان يدله على الماء، فهذا - وهو طائر - قد أعطي ما لم يعط سليمان وقد كانت الريح والنمل والانس والجن والشياطين [و] المردة له طائعين، ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء، وكان الطير يعرفه وإن الله يقول في كتابه: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى " وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال وتقطع به البلدان، وتحيى به الموتى، ونحن نعرف الماء تحت الهواء، وإن في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر إلا أن يأذن الله به مع ما قد يأذن الله مما كتبه الماضون، جعله الله لنا في أم الكتاب، إن الله يقول: " وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين " ثم قال: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا " فنحن الذين اصطفانا الله عز وجل وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شئ.

الحصاد:

لما كان السلطان الحاكم هو العلم الشامل لكل شيء المتضمن لخصوصيات الكائنات وما بينها من علاقات وكان قد اتيح للإنسان من خلال التراكم التجربي أن يهتدي الى شيء منه وما زال الباب مفتوحاً بحيث ننتظر كل يوم اعجوبة علمية تزف الى البشرية حتى اصبحنا لا ننكر شيئا من تلكم الأخبار التي تتناقلها وكالات الأنباء عن مراكز الدراسات على غرابتها وكنا نعتقد ان الله تعالى محيط بكل تلك الخصوصيات وهو مسبب اسبابها فهل يليق بنا أن نتوقف بعد هذا كله في أن يؤتيها لصفوة اوليائه المنتجبين او نستعظم ذلك فنجنح لإنكاره اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ .

((يتبع إن شاء الله تعالى))

كتبه لائذاً بجوار امير المؤمنين صلوات الله عليه

ليلة السابع عشر من شهر ذي لقعدة الحرام ١٤٤١ للهجرة

عبد آبائه الطاهرين محمد الرضا شرف الدين

2020/07/08

لا يحجبه غربال: النبي الخاتم.. عربي مبعوث للعالم!

لم يخلق الله سبحانه الخلق عبثا، فقال: (أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا)[1]، بل خلقهم لأغراض إلهية وغايات كمالية يتوجهون إليها بحسب جبلتهم ويسيرون نحوها بفطرتهم بما جهزهم به من الأسباب والأدوات وهداهم إليه من السبيل الميسر لهم كما قال: (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)[2]، وقال: (ثم السبيل يسره)[3].

والسبيل الى الكمال هو التقوى والورع، بالالتزام بفعل الخيرات والاجتناب عن الشرور، لقوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)[4].

والمتوقع الوصول الى غاية خلق الانسان من غير هذا الطريق كالطامع في الشبع من غير أكل أو الري من غير شرب أو الانتقال من مكان إلى آخر من غير حركة؛ فإنما الدار دار سعي وحركة لا تنال فيها غاية إلا بسلوك ونقله، قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وإن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى)[5].

والعقل وان كان قادراً على إدراك ما تقدم، وما ذكرنا من آيات انما هي مرشدة لحكم العقل المذكور، إلا انه ـ أي العقل ـ عاجز عن إدراك صغريات التقوى والورع، أي انه وإن ادرك ضرورة سلوك الطريق إلا انه لا يعرف ماهي الأمور التي يجب عليه فعلها، وما هي الأمور التي يجب عليه تركها، وهنا يأتي دور النبوة، فتشكل النبوة حجر الزاوية في سير الإنسان نحو الهدف الذي خلق من أجله، قال تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[6].

وهذه العلة أي توقف وصول كل انسان الى كماله على اتباع طريق الوحي والنبوة ملاك عام يثبت به ضرورة ولزوم النبوة لجميع الأجيال والأمم؛ لذا قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً)[7]، وقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ)[8]، وقوله ايضاً: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)[9]، وقول أمير المؤمنين في بيان ضرورة بعث الانبياء لجميع الأمم: ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، او كتاب منزل، او حجة لازمة، او محجة قائمة، رسل لا تقصر بهم قلة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم[10].

وقوله عليه السلام: فلمّا مهّد أرضه وأنفذ أمره، اختار آدم (عليه السلام).... ولم يخُلهم بعد أن قبضه، ممّا يؤكّد عليهم حجّة رُبوبيّته، ويصل بينهم وبين معرفته، بل تعاهدهم بالحُجج على ألسُن الخِيرة من أنبيائه، ومتحمِّلي ودائع رسالاته، قرناً فقرناً حتى تمّت بنبيّنا محمّد(صلى اللّه عليه وآله وسلم) حجّته، وبلغ المقطعَ عُذرُه ونذرُه[11].

ولا نقصد من عمومية الرسالة بعث النبي في كل مدينة او قرية، بل المقصود وصول دعوى النبي الى الجميع، ولو عن طريق مبعوثين يرسلهم النبي، ليقوموا بإبلاغ رسالته ونشر دعوته بين الناس بالطرق والوسائل المناسبة في كل زمان، نظير الرسل الذين ارسلهم عيسى بن مريم عليه السلام الى انطاكية، يقول تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)[12]، وكما ان النبي الخاتم صلى الله عليه واله كان يبعث رسلاً الى المدن والبلاد ويدعو الناس الى التوحيد والايمان برسالته.

هذا من جانب أي عمومية النبوة، ومن جانب آخر، فالقرآن صريح بختم النبوة بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه واله حيث قال: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)[13]، ومن خلال ملاحظة هذين الأمرين: عمومية النبوة وخاتميتها بالنبي الأكرم صلى الله عليه واله يتضح لزوم ان تكون نبوته عالمية ولكل البشر، وهذا ما صرح به القرآن الكريم عندما اثبت عالمية نبوة النبي صلى الله عليه واله وبعثه لكل البشر، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)[14]، وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)[15]، وقوله ايضا: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[16]. وقد أمر الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه واله بدعوة النصارى للإسلام بقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[17]، وقد ضمن النبي صلى الله عيه واله هذه الآية في رسالته الى قيصر ملك الروم[18].

وكذلك أمر سبحانه في آية أخرى رسوله بدعوة معشر اليهود أو الناس جميعا إلى اتباع ملة إبراهيم قال سبحانه : (فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[19].

من هنا يتضح سقوط ما اثاره البعض مؤخراً من التشكيك بعالمية الإسلام، ومحاولة تحجيمه وقصره على الجزيرة العربية، فالعقل اضافة الى النقل صريحان في عموميته لكل البشر، والشمس لا يحجبها غربال.

 

الهوامش:


[1]المؤمنون: 115.

[2][2] طه: 50.

[3] عبس: 20.

[4] الليل: 10.

[5] النجم: 41.

[6] البقرة: 38 ـ 39.

[7] النحل: 36.

[8] فاطر: 24.

[9] الرعد: 7.

[10] نهج البلاغة: الخطبة: 1.

[11] نهج البلاغة: الخطبة: 91.

[12] يس: 13 ـ 14.

[13] الاحزاب: 40.

[14] سبأ: 28.

[15] الأعراف: 158.

[16] الفرقان: 1.

[17][17] آل عمران: 64.

[18] السيرة الحلبية 2 : 275 ، مسند أحمد 1 : 262 .

[19] آل عمران: 95.

2020/06/14

أنبياء غائبون.. هل تُفسد الغيبة منصب الإمامة؟!

الغيبة من السنن الإلهية التي امتحن الله بها خلقه على مر العصور، والكتب السماوية تحدثنا بذلك كغيبة موسى عليه السلام عن قومه وغيبة يونس وعيسى ويوسف عليهم السلام ، وبما اننا موحدون نؤمن بوجود خالق حكيم مدبر لهذا الكون وكل افعاله حكيمة، فلابد ان تكون للغيبة آثار تكوينية، ورغم انه ليس من الضروري الاطلاع على هذه الآثار، ايماناً بحكمة وعدالة الخالق، ولكن من خلال استقراء قصص الماضين يمكننا الوقوف على جملة من الحكم التي أرادها الله سبحانه وتعالى " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ"[1]. فمن اطلع على اخبار الماضين يجد ان النبي حينما يرسله الله الى قومه يواجه عدة فئات، فهو يواجه تحديا شرسا من المفسدين الذين لا يؤمنون به، كما يواجه المنافقين والمتقلبين وغير الواعين الذين لا يعرفون قيمة ما امنوا به وقيمة من اتبعوه، وهناك مجموعة ثالثة مؤمنة مسلّمة، وفئة أخرى تحتاج الى نضج فكري وعملي من خلال الاختبار والتمحيص؛ لكي تتضح لهم الصورة ويقوموا بالدور الذي رسم لهم لنشر العدل والمفاهيم الإلهية، "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"[2]. ومن اهم الفتن التي مرت بهم هي غيبة قادتهم عنهم كما في قوم موسى عليه السلام "وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ"[3].

ما فائدة غيبة موسى (ع)

لاحظ مدة الغيبة أربعين ليلة وانظر الخطاب الملفت للنظر انه قال لا تتبع سبيل المفسدين اؤلئك الذين لا يملكون رؤية صحيحة متكاملة تجاه القضية التي جاء بها نبيهم موسى عليه السلام فلو تساءلنا لماذا غاب موسى عن قومه، وما هي فائدة تلك الغيبة، اوليس قومه قد كفروا من بعده وعبدوا العجل واتبعوا السامري فما هي فائدة تلك الغيبة بالنسبة لقوم موسى عليه السلام، هل نفعتهم الغيبة مع انتشار الظلم بينهم، وكفرهم بالله الذي هو اسوء نوع من الظلم كما صرح به كتاب الله " فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ"[4]. فلقائل ان يقول ان غيبة موسى عن قومه لا توجد فيها مصلحة بل ترتبت عليها المفسدة وهي ان موسى بغيبته ضيع كل ما صدح به وعمل لأجله وهو التوحيد بحيث أوقع قومه في الضلالة والشرك، ولكن هذا القول لا يصدر من موحد لان الموحد يعلم ان الاختبار سنة الهية لابد منها،  وكذلك الاختبار سنة عقلائية، كل شخص لديه مشروع مهم يريد القيام به ويحتاج الى انصار واعوان لابد من اختبارهم لكي ينضجوا ويكونوا اهلاً لتحمل هذا الامر، فنبي الله موسى عليه السلام غاب عن قومه لمصلحة أراد من خلالها ان يعطي درسا للأمم اللاحقة، فأعباء الرسالة الإلهية تحتاج الى اعداد خاص لابد ان ينجح الانسان بالاختبار لكي يفوز بحمل هذه الرسالة .

وكلما كان الامر أعظم كان الاختبار اكبر والنضوج يحتاج الى فترة طويلة لكي لا تذهب التضحيات ادراج الرياح.

عيسى.. الغائب الذي سوف يعود!

اما غيبة عيسى عليه السلام فكل المسلمين متفقون على انه حي يرزق وانه ينزل في اخر الزمان وان الله رفعه اليه "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا"[5]. فقد جاء في تفسير ابن ابي حاتم: حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُود:"إِنَّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ، وَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ".[6] ، فالمسلمون يعتقدون بحياة عيسى بن مريم عليه السلام[7]. بل هناك امر اخر انه سيرجع في اخر الزمان بعد هذه الغيبة الطويلة التي هي الى الان مر عليها الفا سنة حيث قال سبحانه وتعالى" وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا"[8]. فقد ورد في تفسيرها انه نزوله في اخر الزمان فقد جاء في تفسير ابن ابي حاتم "حَدَّثَنِي أَبِي، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَبُو مُوسَى، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثنا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَيُعْطَى الْمَالُ حَتَّى لا يُقْبَلَ، وَيُجْمَعُ لَهُ الصَّلاةُ، وَيَأْتِي الرَّوْحَاءَ، فَيَحُجَّ مِنْهَا أَوْ يَعْتَمِرَ أَوْ يَجْمَعَهَا اللَّهُ لَهُ"، ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ:  " وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ " ، قال: قبل مَوْتِ عِيسَى"[9]. بل يذكر اهل السنة اكثر من ذلك انه يصلي خلف رجل من المسلمين: "ولهذا عيسى عليه السلام رفع حيا؟  وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ؟[النساء:157]، وينزل في آخر الزمان في دمشق في المسجد الذي بناه بنو أمية عند المنارة البيضاء -كما جاء في الأحاديث الصحيحة-، فينزل حكما عدلا مقسطا، ويكون مأموما في تلك الصلاة، فيأتي فيعرفه الناس فيأتي الإمام يتأخر ليتقدم رسول الله عيسى عليه السلام، فيدفع عيسى عليه السلام بالإمام ويقول: إمامكم منكم تكرمة الله لهذه الأمة. فينزل يحكم بالقرآن ويدع الإنجيل ويأمر باتباع محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فهو عليه السلام بعد نزوله يكون من أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وامامكم منكم"[10].

وقال ابن حجر: " قال ابن حجر: وما ذكره من ان المهدي يصلّي بعيسى هو الذي دلت عليه الأحاديث كما علمت"[11]، وقال: قال السيوطي في الرد على من أنكر أن عيسى يصلي خلف المهدي: «هذا من أعجب العجب فان صلاة عيسى خلف المهدي ثابتة في عدة أحاديث صحيحة بأخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الصادق المصدّق الذي لا يخلف خبره ومن ذلك ما رواه أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك وصححه عن عثمان بن أبي العاص...

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم.."[12].

اذاً، النبي عيسى بعد هذه الغيبة الطويلة يرجع ويؤمن به قبل موته النصارى في اخر الزمان فهو في حياته بشر برسول اسمه احمد " وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ"[13]. الهدف من نزوله تصديق النبي صلى الله عليه واله وان النصارى صاروا مؤهلين لقبول قول عيسى والايمان بالنبي الخاتم وبالإسلام الذي هو دين الله الذي ارتضاه للبشرية وبهذا يتحقق المخطط الإلهي الذي من اجله بعث الرسل.

فمن كان لديه اعتراض علينا نحن الامامية القائلين بغيبة الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه واثاروا جملة من الإشكالات:

منها ان الغيبة تنافي منصب الامامة وان الامام لابد ان يكون ظاهرا بين الناس لتأدية وظيفته الشرعية!

ونجيبهم: اما قولهم ان الغيبة تنافي وظيفة الإمام، فهي منتقضة بما ذكرنا من غيبة الانبياء عليهم السلام، فهل ان غيبتهم عن اممهم تنافي منصب النبوة!

وأما قولهم يجب حضور الإمام لتأدية وظيفته، فنقول: ان الامام عليه السلام هو حجة الله على خلقه حتى الملائكة تأتمر بأمره، وقد نص الكتاب العزيز بحسب بيان اهل بيت العصمة والطهارة على تنزل الملائكة على المعصوم في ليلة القدر في كل سنة، فقد روى الصفار في بصائره: "حدثنا أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سيف بن عميره عن داود بن فرقد قال سألته عن قول الله عز وجل "انا أنزلناه في ليلة القدر وما ادريك ما ليلة القدر"  قال نزل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من موت أو مولود قلت له إلى من فقال إلى من عسى أن يكون ان الناس في تك الليلة في صلاة ودعاء ومسألة وصاحب هذا الامر في شغل تنزل الملائكة إليه بأمور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها من كل امر سلام هي له إلى أن يطلع الفجر.[14].

فحتى لو غاب الامام سلام الله وحجب عن اعين البشر الا ان اثر الامام عليه السلام الكوني موجود وان لم نر ذلك، فارتباط الخلق بالامام عليه السلام هو ارتباط ضرورة فهم واسطة الفيض الإلهي.

وخلاصة القول: اذا جازت الغيبة على نبي الله ايضا تجوز على وصي خاتم النبيين صلى الله عليه واله واذا كانت غيبة نبي كموسى وعيسى عليهم السلام لا تقدح بنبوتهم ولا تضر فكذلك غيبة الامام عليه السلام.


[1] يوسف: 111.

[2] العنكبوت:2.

[3] الأعراف:142.

[4] يونس:17.

[5] النساء:157.

[6] تفسير ابن ابي حانم: 4/430.

[7] انظر: تفسيرابن كثير: 2/448، تفسير الالوسي 3/66، تفسير ابي السعود 2/178، تفسير البيضاوي 2/29 

[8] النساء:159.

[9] تفسير ابن ابي حاتم:4/436.

[10] صحيح البخاري كتاب بدء الخلق ـ باب نزول عيسى بن مريم ج4 ص205، صحيح مسلم كتاب الايمان ـ باب نزول عيسى ج1 ص136

[11] الصواعق المحرقة ص99، الحاوي للفتاوي للسيوطي ج2 ص165.

[12] الحاوي للفتاوي للسيوطي ج2 ص167.                                         

[13] الصف:6.

[14] بصائر الدرجات محمد بن الحسن الصفار ص240 الباب  3باب ما يلقى إلى الأئمة في ليلة القدر مما يكون في تلك السنة ونزول الملائكة عليهم.

2020/06/01

العصمة: هل سلَب الله اختيار الأنبياء والأئمة (ع)؟

ربما يتخيل أنّ المعصوم لا يقدر على ارتكاب المعصية واقتراف المآثم، فالعصمة تسلب القدرة والاختيار عن صاحبها، وعند ذاك لا يعد ترك العصيان مكرمة.

وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى:

ما حقيقة العصمة التي يُعتقد وجوبها للأنبياء والاَئمّة:؟ وهل هي معنىً يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية، أو معنى يضام الاختيار؟ فإن كان معنى يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية، فكيف يجوز الحمد والذم لفاعلها؟ وان كان معنىً يضامّ الاختيار فاذكروه، ودُلّوا على صحة مطابقته له.[1] والجواب: انّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الاِنسان بأي معنى فسرت، سواء أقلنا بأنّها الدرجة العليا من التقوى، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي، أو أنّها أثر الاستشعار بعظمة الرب والمحبة لله سبحانه، وعلى كل تقدير فالاِنسان المعصوم مختار في فعله، قادر على كلا طرفي القضية من الفعل والترك، وتوضيح ذلك بالمثال الآتي:

إنّ الاِنسان العاقل الواقف على وجود الطاقة الكهربائية في الاَسلاك المنزوعة من جلدها، لا يمسّها كذلك، كما انّ الطبيب لا يأكل سؤر المجذومين والمسلولين لعلمهما بعواقب فعلهما، وفي الوقت نفسه يرى كل واحد منهما نفسه قادراً على ذلك الفعل، بحيث لو أغمض العين عن حياته وهيأ نفسه للمخاطرة بها، لفعل ما يتجنبه، غير انّهما لا يقومان به لكونهما يحبان حياتهما وسلامتهما.

فإن شئت قلت: إنّ العمل المزبور ممكن الصدور بالذات من العاقل والطبيب، غير انّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة، وليس صدوره محالاً ذاتياً وعقلياً، وكم فرق بين المحالين، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات، غير انّه يرجح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح بخلاف الثاني فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات، فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتى.

وإن شئت فلاحظ صدور القبيح منه سبحانه فإنّ صدوره منه أمر ممكن بالذات، داخل في إطار قدرته فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار الجحيم والعاصي في نعيم الجنة، غير انّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة ومبايناً لما وعد به وأوعد عليه، وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل عن الاِنسان مع التحفظ على الاَغراض والغايات، لا يكون دليلاً على سلب الاختيار والقدرة.

فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا، حسب ما أُعطي من القدرة والحرية، غير أنّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى واكتساب العلم القطعي بآثار المآثم والمعاصي واستشعاره بعظمة الخالق، يتجنب عن اقترافها واكتسابها ولا يكون مصدراً لها مع قدرته واقتداره عليها.

ومثلهم في ذلك المورد كمثل الوالد العطوف الذي لا يقدم على قتل ولده، ولو أُعطيت له الكنوز المكنوزة والمناصب المرموقة ومع ذلك فهو قادر على قتله، بحمل السكين والهجوم عليه وقطع أوردته، وفي هذا الصدد يقول العلامة الطباطبائي:

إنّ هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الاِنسانية المختارة في أفعالها الاِرادية، ولا يخرجها إلى ساحة الاِجبار والاضطرار كيف؟ والعلم من مبادىَ الاختيار، ومجرد قوة العلم لا يوجب إلاّ قوة الاِرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما، سماً قاتلاً من حينه فإنّه يمنع باختياره من شربه قطعاً، وإنّما يضطر الفاعل ويجبر إذا أخرج المجبر أحد طرفي الفعل والترك من الاِمكان إلى الامتناع.

ويشهد على ذلك قوله: (وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَو أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)[2] تفيد الآية انّهم في إمكانهم أن يشركوا بالله وإن كان الاجتباء أو الهدى الاِلهي مانعاً من ذلك، وقوله: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)[3]، إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه وعن اختياره وإرادته، ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

ولا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى وتصرح به الأخبار من أنّ ذلك من الاَنبياء والاَئمّة بتسديد من روح القدس، فإنّ النسبة إلى روح القدس، كنسبة تسديد الموَمن إلى روح الاِيمان، ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله، فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلاً صادراً عن فاعله مستنداً إلى اختياره وإرادته فافهم ذلك.

نعم هناك قوم زعموا أنّ الله سبحانه إنّما يصرف الاِنسان عن المعصية لا من طريق اختياره وإرادته بل من طريق منازعة الاَسباب ومغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الاِنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها ويحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القوى، الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.

وبعض هؤلاء وإن كانوا من المجبرة لكن الاَصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا وأشباهه: انّهم يرون انّ حاجة الاَشياء إلى البارئ الحق سبحانه إنّما هي في حدوثها، وأمّا في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الاَسباب، إلاّ أنّه لما كان أقدر وأقوى من كل شيء كان له أن يتصرف في الاَشياء حال البقاء أي تصرف شاء، من منع أو إطلاق وإحياء أو إماتة ومعافاة أو تمريض وتوسعة أو تقصير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبداً عن شر مثلاً، أرسل إليه ملكاً ينازعه في مقتضى طبعه ويغير مجرى إرادته مثلاً من الشر إلى الخير، أو أراد أن يضل عبداً لاستحقاقه ذلك، سلّط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر وإن كان ذلك لا بمقدار يوجب الاِجبار والاضطرار.

وهذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير والشر مشاهدة عيان انّه ليس هناك سبب آخر يغايرنا وينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها وإرادة مترتبة عليه قائمين بها، فالذي يثبته السمع والعقل وراء نفوسنا من الاَسباب كالملك والشيطان سبب طولي لا عرضي مضافاً إلى أنّ المعارف القرآنية من التوحيد وما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله.[4]

الهوامش:


[1] أمالى المرتضى: 2/347.

[2] الاَنعام: 87 ـ 88.

[3] المائدة: 67.

[4] الميزان: 11/ 179 ـ 180.

2020/04/19

ثلاث نظريات للإجابة عن: ما هي حقيقة العصمة؟

عرف المتكلمون العصمة على الاِطلاق بأنّها قوة تمنع الاِنسان عن اقتراف المعصية والوقوع في الخطأ.[1] وعرّفها الفاضل المقداد بقوله: العصمة عبارة عن لطف يفعله الله في المكلف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة ولا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور والاِقدام على المعاصي مضافاً إلى العلم بما في الطاعة من الثواب، والعصمة من العقاب، مع خوف الموَاخذة على ترك الا ََولى، وفعل المنسي.[2]

أقول: إذا كانت حقيقة العصمة عبارة عن القوة المانعة عن اقتراف المعصية والوقوع في الخطاء، كما عرّفه المتكلمون فيقع الكلام في موردين:

الاَوّل: العصمة عن المعصية.

الثاني: العصمة عن الخطأ.

ولتوضيح حال المقامين من حيث الاستدلال والبرهنة يجب أن يبحث قبل كل شيء عن حقيقة العصمة.

إنّ حقيقة العصمة عن اقتراف المعاصي ترجع إلى أحد أُمور ثلاثة على وجه منع الخلو، وان كانت غير مانعة عن الجمع:

1. العصمة الدرجة القصوى من التقوى

العصمة ترجع إلى التقوى بل هي درجة عليا منها، فما توصف به التقوى وتعرف به تعرف وتوصف به العصمة.

لا شك أنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الاِنسان عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي، فإذا بلغت تلك الحالة إلى نهايتها تعصم الاِنسان عن اقتراف جميع قبائح الاَعمال، وذميم الفعال على وجه الاِطلاق، بل تعصم الاِنسان حتى عن التفكير في المعصية، فالمعصوم ليس خصوص من لا يرتكب المعاصي ويقترفها بل هو من لا يحوم حولها بفكره.

إنّ العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية من الشجاعة والعفة والسخاء، فإذا كان الاِنسان شجاعاً وجسوراً، سخياً وباذلاً، وعفيفاً ونزيهاً، يطلب في حياته معالى الأمور، ويتجنب عن سفاسفها فيطرد ما يخالفه من الآثار، كالخوف والجبن والبخل والاِمساك، والقبح والسوء، ولا يرى في حياته أثراً منها.

ومثله العصمة، فإذا بلغ الاِنسان درجة قصوى من التقوى، وصارت تلك الحالة راسخة في نفسه يصل الاِنسان إلى حد لا يرى في حياته أثر من العصيان والطغيان، والتمرّد والتجرّي، وتصير ساحته نقية عن المعصية.

وأمّا أنّ الاِنسان كيف يصل إلى هذا المقام؟ وما هو العامل الذي يمكنه من هذه الحالة؟ فهو بحث آخر سنرجع إليه في مستقبل الاَبحاث.

عصمة مطلقة وأخرى نسبية

فإذا كانت العصمة من سنخ التقوى والدرجة العليا منها، يسهل لك تقسيمها إلى العصمة المطلقة والعصمة النسبية.

فإنّ العصمة المطلقة وإن كانت تختص بطبقة خاصة من الناس لكن العصمة النسبية تعم كثيراً من الناس من غير فرق بين أولياء الله وغيرهم، لاَنّ الاِنسان الشريف الذي لا يقل وجوده في أوساطنا، وإن كان يقترف بعض المعاصي لكنه يجتنب عن بعضها اجتناباً تاماً بحيث يتجنب عن التفكير بها فضلاً عن الاِتيان بها.

مثلاً الاِنسان الشريف لا يتجوّل عارياً في الشوارع والطرقات مهما بلغ تحريض الآخرين له على ذلك الفعل، كما أنّ كثيراً من اللصوص لا يقومون بالسرقة في منتصف الليل متسلحين لانتهاب شىء رخيص، كما أنّ كثيراً من الناس لا يقومون بقتل الاَبرياء ولا بقتل أنفسهم وان عرضت عليهم مكافآت مادية كبيرة، فإنّ الحوافز الداعية إلى هذه الأفاعيل المنكرة غير موجودة في نفوسهم، أو أنّها محكومة ومردودة بالتقوى التي تحلّوا بها، ولأجل ذلك صاروا بمعزل عن تلك الأفعال القبيحة حتى أنّهم لا يفكّرون فيها ولا يحدّثون بها أنفسهم أبداً.

والعصمة النسبية التي تعرفت عليها تقرب حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا، فلو بلغت تلك الحالة النفسانية الرادعة في الاِنسان مبلغاً كبيراً ومرحلة شديدة بحيث تمنعه من اقتراف جميع القبائح، يصير معصوماً مطلقاً، كما أنّ الاِنسان في القسم الاَوّل صار معصوماً نسبياً.

وعلى الجملة: إذا كانت حوافز الطغيان والعصيان والبواعث على المخالفة محكومة عند الاِنسان، منفورة لديه لأجل الحالة الراسخة، يصير الاِنسان معصوماً تاماً منزهاً عن كل عيب وشين.

2. العصمة: نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

قد تعرفت على النظريّة الاَولى في حقيقة العصمة وانّها عبارة عن: الدرجة العليا من التقوى، غير انّ هناك نظرية أُخرى في حقيقتها، لا تنافي النظرية الاَولى، بل ربّما تعد من علل تحقق الدرجة العليا من التقوى التي عرفنا العصمة بها وموجب تكونها في النفس، وحقيقة هذه النظرية عبارة عن "وجود العلم القطعي اليقيني بعواقب المعاصي والآثام" علماً قطعياً لا يغلب ولا يدخله شك، ولا يعتريه ريب، وهو أن يبلغ علم الاِنسان درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الاَعمال وآثارها في النشأة الأخرى وتبعاتها فيها، ويصير على حد يدرك بل يرى درجات أهل الجنة ودركات أهل النار، وهذا العلم القطعي هو الذي يزيل الحجب بين الاِنسان وتوابع الاَعمال، ويصير الاِنسان مصداقاً لقوله سبحانه: (كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم)[3] وصاحب هذا العلم هو الذي يصفه الاِمام علي (عليه السلام ) بقوله: "فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون".[4] فإذا بلغ العلم إلى هذه الدرجة من الكشف يصد الاِنسان عن اجتراء المعاصي واقتراف المآثم بل لا يجول حولها فكره.

ولتوضيح تأثير هذا العلم في صيرورة الاِنسان معصوماً من اقتراف الذنب نأتي بمثال:

إنّ الاِنسان إذا وقف على أنّ في الاَسلاك الكهربائية طاقة من شأنها قتل الاِنسان إذا مسها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المس والموت مقترنين، أحجمت نفسه عن مس تلك الاَسلاك والاقتراب منها دون عائق.

هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الاَمراض وآثار الجراثيم، فإنّه إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السل، لم يقدم على شربه والاغتسال منه ومباشرته مهما اشتدت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجر عليه الشرب والاغتسال بذلك الماء الموبوء، فإذا وقف الاِنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الاَعمال وعواقب الفعال ورأى بالعيون البرزخية تبدل الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة إلى النار المحماة التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، امتنع عن حبس الاَموال والاِحجام عن إنفاقها في سبيل الله.

قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبيلِ اللهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لاَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)[5] إنّ ظاهر قوله سبحانه: (هذا ما كنزتم لأنفسكم) هو انّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، ليست إلاّ نفس الذهب والفضة، لكن بوجودهما الاَخرويّين، وأنّ للذهب والفضة وجودين أو ظهورين في النشأتين فهذه الاَجسام الفلزية، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب والفضة، وفي النشأة الاَخروية في صورة النيران المحماة.

فالإنسان العادي اللامس لهذه الفلزات المكنوزة وان كان لا يحس فيها الحرارة ولا يرى فيها النار ولا لهيبها، إلاّ أنّ ذلك لأجل أنّه يفقد حين المس، الحس المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة وحرارتها، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحس إلى جانب بقية حواسه العادية المتعارفة ويدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزات، وهو نيرانها وحرارتها، يجتنبها، كاجتنابه النيران الدنيوية، ولا يقدم على كنزها، وتكديسها.

وهذا البيان يفيد انّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الاِنسان عن الوقوع في المعاصي والآثام ولا يكون مغلوباً للشهوات والغرائز.

قال جمال الدين مقداد بن عبد الله الاَسدي السيوري الحلي في كتابه القيم "اللوامع الاِلهية": "ولبعضهم كلام حسن جامع هنا قالوا: العصمة ملكة نفسانية يمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه، وتتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات، لاَنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء، والطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس فتصير ملكة".[6]

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ القوة المسمّاة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والاِدراك، لتسرب إليها التخلّف، ولتخبط الاِنسان على أثره أحياناً، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والاِدراكات المتعارفة، التي تقبل الاكتساب والتعلم، وقد أشار الله في خطابه الذي خص به نبيه بقوله: (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)[7] وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه، إذ لا تذوق لنا في هذا المجال.[8] وهو قدّس سره يشير إلى كيفية خاصة من العلم والشعور الذي أوضحناه بما ورد حول الكنز وآثاره.

3. الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجماله

إنّ هاهنا نظرية ثالثة في تبيين حقيقة العصمة يرجع لبها إلى أنّ استشعار العبد بعظمة الخالق وحبه وتفانيه في معرفته وعشقه له، يصده عن سلوك ما يخالف رضاه سبحانه.

وتلك النظرية مثل النظرية الثانية لا تخالف النظرية الاولى التي فسرناها من أنّ العصمة هي الدرجة العليا من التقوى، بل يكون الاستشعار والتفاني دون الحق، والعشق لجماله وكماله، أحد العوامل لحصول تلك المرتبة من التقوى، وهذا النحو من الاستشعار لا يحصل إلاّ للكاملين في المعرفة الاِلهية البالغين أعلى قممها.

إذا عرف الاِنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة، وتعرف على معدن الكمال المطلق وجماله وجلاله، وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق، وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرف عليه الاِنسان العارف، يوَجج في نفسه نيران الشوق والمحبة، ويدفعه إلى أن لا يبتغى سواه، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه، ويصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه، مقبوحاً في نظره، أشد القبح. وعندئذ يصبح الاِنسان مصوناً عن المخالفة، بعيداً عن المعصية بحيث لا يوَثر على رضاه شيئاً، وإلى ذلك يشير الاِمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بقوله: "ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة".[9] هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة المختلفة في البيان والتقرير تعرب عن أنّ العصمة قوة في النفس تعصم الاِنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه وتعالى، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان الكامل وهويته الخارجية.

نعم هذه التحاليل الثلاثة لحقيقة العصمة، كلّها راجعة إلى العصمة عن المعصية والمصونية عن التمرد كما هو واضح لمن أعطى التأمل لها، وأمّا العصمة في مقام تلقى الوحي والتحفظ عليه وإبلاغه إلى الناس، أو العصمة عن الخطأ في الحياة والأمور الفردية أو الاجتماعية فلا بد أن توجه بوجوه غير هذه الثلاثة أعنى: العصمة عن الخطأ والاشتباه، والمهم هو البحث عن المقام الاَوّل.

نعم هناك عدة روايات تصرح بأنّ، هناك "روحاً" تعصم الاَنبياء والرسل عن الوقوع في المهالك والخطايا، وإليك بيانها:

الروح التي تسدد الاَولياء

روى أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله تبارك وتعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الاِيمانُ)[10] قال: "خلق من خلق الله عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله يخبره ويسدده وهو مع الاَئمّة من بعده".[11] وهذه الرواية مع أنّ ظاهرها لا ينطبق على الآية، لاَنّ الوحي يتعلّق بالمفاهيم والألفاظ لا بالجواهر والأجسام، فالملك الذي هو أعظم من جبرئيل وميكائيل لا يمكن أن يتعلّق به الوحي، ويكون هو الموحى به، وإنّما يتعلق به الاِرسال والبعث ونحو ذلك، لا صلة لها بباب المعاصي بل هي راجعة إلى التسديد في تلقى الوحى وإبلاغه إلى الناس، وحفظهم عن الخطأ على وجه الاِطلاق.

على أنّ هناك روايات تشعر بأنّ هذه الروح التي توَيد الاَنبياء غير خارجة عن ذواتهم، وهذا جابر الجعفي يروي عن الاِمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله سبحانه: (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)[12]

"فالسابقون هم رسل الله، وخاصة الله من خلقه جعل فيهم خمسة أرواح أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الاَشياء، وأيّدهم بروح الاِيمان فبه خافوا الله عزّ وجلّ، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا على طاعة الله، وأيّدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عزّ وجلّ وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون".[13] ولا يخفى أنّ الاَرواح الاَربعة غير خارجة عن ذواتهم، ولا يبعد أن تكون الخامسة وهي روح القدس غير خارجة عن ذواتهم ويكون المراد كمال نفوسهم إلى حد يعرفون الاَشياء على ما هي عليها.

قال الشيخ صالح المازندراني في تفسير هذه الاَرواح الخمسة: جعل الله تعالى بالحكمة البالغة والمصلحة الكاملة في الرسل والخاصة، خمسة أرواح لحفظهم من الخطاء وتكميلهم بالعلم والعمل ليكون قولهم صدقاً، وبرهاناً، والاقتداء بهم رشداً وإيقاناً كيلا يكون لمن سواهم على الله حجة يوم القيامة، ولعل المراد بالأرواح هنا النفوس.[14] وعلى أي تقدير فهذه الروايات التي تشهد بتسديد الأنبياء بها إمّا راجعة إلى تسديدهم في مقام تلقى الوحى، أو راجعة إلى تسديدهم عن الخطاء في الأحكام والموضوعات والكل خارج عن إطار البحث، وإنّما الكلام في صيانتهم عن المعاصي.

*مقتطف من كتاب عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
موقع الأئمة الاثني عشر

الهوامش:


[1] الميزان: 2/142، طبعة طهران.

[2] إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 301 ـ 302، ومن العجب تفسير الاَشاعرة للعصمة على ما يقتضيه أصلهم من استناد الاَشياء كلّها إلى الخالق المختار ابتداءً: بأن لا يخلق الله فيهم ذنباً (*).

أفبعد هذا هل يصح أن تعد العصمة كرامة وترك الذنب فضيلة؟ وليس معنى التوحيد في الخالقية سلب التأثير عن سائر العلل، وقد أوضحنا الحال في الجزء الاَوّل من هذه السلسلة عند البحث عن هذا القسم من التوحيد، فلاحظ.

[3] التكاثر: 5 ـ 6.

[4] نهج البلاغة:2: الخطبة 188، ص 187، طبعة عبده.

[5] التوبة: 34 ـ 35.

[6] اللوامع الاِلهية: 170.

[7] النساء: 113.

[8] الميزان: 5/81

[9] حديث معروف.

[10] الشورى: 52.

[11] الكافي:1/273، باب "الروح التي يسدّد بها الاَئمّة" الحديث 1 و2.

[12] الواقعة: 6 ـ 11.

[13] الكافي: 1/261 باب فيه "ذكر الاَرواح التي في الاَئمّة" الحديث 1 و 2 و 3.

[14] هامش أُصول الكافي: 136، الطبعة القديمة.

2020/04/11

ما هو يوم المبعث النبوي؟
لقد تعرّض يوم مبعث رسول الإسلام “صلی الله عليه وآله وسلم” للاختلاف من حيث التعيين والتحديد فهو مثل یوم ولادته ويوم وفاته صلى الله عليه وآله غير مقطوع به، من وجهة نظر المؤرخين وكُتّاب السيرة النبوية.

فلقد اتفق علماء الشيعة على القول بان رسول الله صلى الله عليه وآله بُعث بالرسالة في السابع والعشرين من شهر رجب، وأن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسه. بينما اشتهر عند علماء السنة أن رسول الإسلام قد أوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.

ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف “محمد” (صلى الله عليه وآله وسلم) من جانب الله تعالى بهداية الناس، وبُعث بالرسالة.

ولما كانت الشيعة تشایع عترة النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الصادقين، وتعتقد بصحة مايرونه ويقولون به اتباعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم، في حديث الثقلين: «إنهما لن یفترقا » فانهم اتبعوا – في تحديد يوم المبعث النبوي الشريف القول المأثور – بنقل صحيح – عن عترة النبي المطهرين في هذا المجال.

فقد روي عن أبناء الرسول وعترته الطاهرة أن عظيم هذا البيت وسيّده (أي النبيّ) قد بُعثَ في السابع والعشرين من شهر رجب، وهم في ذلك حجة. ولهذا لايمكن الشك والتردد في صحة هذا القول وثبوته(1).

نعم غاية ما يمكن الاستدلال به على القول الآخر هو تصريح القرآن الكريم نفسه بأن آيات القرآن نزلت في شهر رمضان، وحيث إن يوم بعثة النبي صلى الله عليه وآله كان هو بنفسه يوم بدء نزول الوحي ، والقرآن عليه، لهذا يجب القول بان يوم البعثة الشريفة انما كان في نفس الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم: اي شهر رمضان المبارك .

واليك فيما يأتي الآيات التي تدل على أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان

1- «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»(2)

۲- «حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ… »(3) وتلك الليلة هي ليلة القدر التي قال عنها سبحانه: « إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ » (4).

ما أجاب به علماء الشيعة:

و لقد أجاب مُحدِّثو الشيعة ومفسروهم عن هذا الاستدلال بطرق مختلفة نذكر طائفة منها هنا:

الجواب الأول:

إن الآيات المذكورة إنها تدل على أن القرآن نزل في شهر رمضان وبالذات في ليلة مباركة منه هي «ليلة القدر»، ولكنها لا تتعرض لذكر محل نزول هذه الآيات، وأنها أين نزلت؟ وهي بالتالي لاتدل أبدا ومطلقاً على أنها نزلت في تلك الليلة على قلب رسول الله ؟

فيحتمل أن يكون للقرآن نزولات متعددة إحداها نزول القرآن على رسول الله تدريجاً. والآخر نزوله الدفعي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور(5).

وعلى هذا فما المانع من أن تكون بعض آيات القرآن (من سورة العلق) قد نزلت على النبي صلى الله عليه وآله في السابع والعشرين من شهر رجب. ثم نزل القرآن بصورته الجمعية الكاملة في شهر رمضان من مكان معين أسماه القرآن باللوح المحفوظ، إلى موضع آخر عبر عنه في بعض الروايات بالبيت المعمور.

ويؤيد هذا الرأي قول الله تعالى في سورة الدخان: « إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ » فان هذه الآية – بحكم رجوع الضمير فيها إلى الكتاب – تصرح بأن

الكتاب العزيز باجمعه نزل في ليلةٍ مباركةٍ (في شهر رمضان)، ولا بدّ أن يكون هذا النزول غير ذلك النزول الذي تحقق في يوم البعث الشريف، لأن في يوم المبعث لم تنزل سوی آیات معدودة لااكثر.

و خلاصة الكلام هي أن الآيات التي تصرح بنزول القرآن في شهر رمضان في ليلة مباركة (ليلة القدر) لايمكن أن تدل على أن يوم البعث الذي نزلت فيه بضع آيات أيضاً كان في ذلك الشهر نفسه، لأن الآيات المذكورة تدل على أن مجموع القرآن لابعضه قد نزل في ذلك الشهر، في حين لم تنزل في يوم البعث سوی آیات معدودة كما نعلم.

وفي هذه الصورة يحتمل أن يكون المراد من النزول الجمعي للقرآن هو نزول مجموع الكتاب العزيز في ذلك الشهر من «اللوح المحفوظ» إلى «البيت المعمور».

وقد روى علماء الشيعة والسنة روايات وأخبارة بهذا المضمون، وبخاصة الأستاذ الأزهري محمد عبدالعظيم الزرقاني الذي أورد روایات عديدة في هذا الصدد في كتابه (6).

والجواب الثاني:

وهو أمتن الأجوبة والردود على هذا القول.

فقد بذل الاستاد الطباطبائي جهداً كبيراً لتوضيحه وبيانه في كتابه القيم؛ واليك خلاصته:

يقول العلامة الطباطبائي: إن قول الله تعالى إنا أنزلناه في شهر رمضان، المقصود منه هو نزول حقيقة القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وآله، لأن للقرآن مضافاً إلى وجوده التدريجي، واقعية اطلع الله تعالى نبيه العظيم عليها في ليلة معينة من ليالي شهر رمضان المبارك (7). وحيث إن النبي الاكرم صلى الله عليه وآله كان قد عرف من قبل بجميع القرآن الكريم لذلك نزلت الآية تأمره بان لايعجل بقرائته حتى يصدر الأمر بنزول القرآن تدريجاً اذ يقول تعالى: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ(8)

وخلاصة هذا الجواب هي: أن للقرآن الكريم وجوداً جمعياً علمياً واقعياً وهو الذي نزل على الرسول الكريم صلى الله عليه وآله مرة واحدة في شهر رمضان، وآخر وجوداً تدريجياً كان بدء نزوله على النبي صلى الله عليه وآله في يوم المبعث، واستمر تنزله إلى آخر حياته الشريفة على نحو التدريج.

الجواب الثالث: التفكيك بين نزول القرآن والبعثة

إن للوحي – كما أوضحنا ذلك في مبحث أنواع الوحی اجمالاً. مراتب ومراحل، يتمثل أول مراتبه في الرؤيا الصادقة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وآله.

والمرتبة الأخرى تمثلت في سماعة للنداء الغيبيّ الالهيّ من دون وساطة ملك .

و آخر تلك المراتب هو إن يسمع النبي كلام الله من ملك يبصره ويراه، ويتعرف عن طريقه على حقائق العوالم الأخرى.

وحيث أن النفس الإنسانية لا تستطيع في الوهلة الأولى تحمل مراتب (الوحی) جميعها دفعة واحدة بل لابد أن يتحملها تدريجاً، لهذا يجب القول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد سمع يوم المبعث (اليوم السابع والعشرون من شهر رجب) النداء السماوي الذي يخبره بأنه رسول الله، فقط ولم تنزل في مثل هذا اليوم أية آية قط، وقد استمر الأمر على هذا المنوال مدة من الزمان. ثم بعد مدة بدأ نزول القرآن الكريم على نحو التدريج ابتداء من شهر رمضان.

وخلاصة هذا الجواب هي أن ابتعاث الرسول صلى الله عليه وآله بالرسالة في شهر رجب لا يلازم نزول القرآن في ذلك الشهر حتما.

وعلى هذا الأساس ما المانع من أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وآله في شهر رجب، وينزل القرآن الكريم في شهر رمضان من نفس ذلك العام؟

إن هذه الاجابة و إن كانت لا توافق كثيراً من النصوص التاريخية (لأن كثيرة من المؤرخين صرحوا بأن الآيات الخمس من سورة العلق نزلت في يوم المبعث نفسه) إلا أن هناك -مع ذلك- روایات ذكرت قصة البعثة بسماع النبي صلی الله عليه واله وسلم للنداء الغيبي، ولم تذكر شيئاً عن نزول قرآن أو آيات ، بل هي تشرح الواقعة على النحو التالي إذ تقول:

في ذلك اليوم سمع رسول الله صلى الله عليه وآله ملكاً يقول له: يا محمد إنك لرسول الله، وجاء في بعض الأخبار أنه سمع هذا النداء، فقط، ولم تذكر شيئا عن مشاهدة الملك .

وللمزيد من التوضيح، والتوسع يراجع «البحار» في هذا المجال (9).

على هذه الاجابة تختلف عن الإجابة الرابعة التي تقول بأن مبعث النبي صلى الله عليه واله وسلم كان في شهر رجب، وكان نزول القرآن الكريم بعد انقضاء الدعوة السرية التي استغرقت ثلاثة أعوام.


الهوامش (1) راجع بحارالأنوار: ج۱۸ ص۱۸۹. (۲) البقرة: 185. (3) الدخان: ۳-۱. (4) القدر: ۳-۱. (5) للتعرف على معنى اللوح المحفوظ راجع كتب التفسير. (6)مناهل العرفان في علوم القرآن: ج۱ ص۳۷. (7) الميزان: ج۲ ص ۱4 – 16 (8) طه: 114.
2020/03/23

سحر أم معجزة؟… مدّعو الإمامة كيف نكشفهم؟!

اذا عرفنا الطريق الأجلى لمعرفة شخص الامام سيكون من السهل جدا كشف زيف المدعين.

فنقول: بما أننا في عصر الغيبة وبعيدين عن عصر النص فمن أجلى الطرق لمعرفة شخص الامام هو المعجزة، هذا ما قطع به العقل والنقل.

وتعريف المعجزة:

هي (أمر خارق للعادة، مقرونٌ بالدعوى لمنصب الهي، مع المطابقة، وعجز الغير عن الاتيان بمثله)([1]).

توضيح لمفردات التعريف:

١. خارقة للعادة: لا نعني بذلك المستحيل عقلا وانما نعني به المستحيل عادة مثل طلوع الشمس من مغربها.

٢. مقرون بالدعوى: أي مقرون بدعوى النبوة أو الامامة، وبهذا القيد نخرج أصحاب الكرامات وبعض المرتاضين الذين قد تخرق بعض أفعالهم نواميس الطبيعة ولكنهم لم يدعوا أي منصب الهي.

٣. المعجزة يشترط ان تكون مطابقة للدعوى: فإذا قال سأفعل كذا مثلا فلابد أن يقع الحدث الذي أخبر به، لا خلافه كما حدث مع مسيلمة الكذاب.

٤. أن يعجز الناس عن الإتيان بمثله: فلو جاء غيرُه بمثل ما جاء به مدعي النبوة أو الامامة لبطلت حجته.

وهنا نشير الى نكتة: قد يأتينا بعض السحرة أو من تعود على خرق بعض العادات بواسطة الرياضات التي يمارسها ويدعي النبوة او الامامة..

والسؤال: كيف نميز بين السحر وبين المعجزة؟

الجواب:  قد يستطيع الساحر او المرتاض ان يخرق عادة طبيعية او عادتين مثلا ولكنه لا يستطيع خرق جميع نواميس الطبيعة، بخلاف حجج الله - كالنبي او الامام - المنصبين من قبل الله (تعالى)، فالحجة له ان يخرق جميع نواميس الطبيعة بإذن الله تعالى ما تطلبت الحكمة ذلك في القاء الحجة على العباد..

وبما تقدم نستطيع التمييز بين صاحب المعجزة وبين الساحر والمشعوذ وما شابه ذلك، بل وجميع من ادعى منصبا الهيا زورا .

اشكال وجوبه:

قد يقول قائل: إن الكثير من الماضين جاءتهم المعاجز تلو الأخرى ولم يذعنوا بمن جاء بها رغم قوتها كإحياء الموتى للنبي عيسى (ع) وعصى موسى (ع) ومعاجز عديدة.. إذن انتفت الفائدة منها...

الجواب نقضا وحلا:

أما نقضا: فلو لم تكن للمعجزة حجية وفائدة لكان بعث حجج الله بها من الماضين لغوا وعبثا وهو منفي بالقطع.

أما حلا: فدليله عقلي ونقلي:

أ . الدليل العقلي: لانحصار الطريق الى معرفة الامام بالمعجزة في زماننا هذا، وذلك لبعدنا الزمني عن عصر النص التعييني - أي لم نر شخص الامام السابق يعين شخص الامام المهدي ع بأعيننا كما فعل النبي ص مع الامام علي يوم الغدير وكذا بقية الأئمة - وانما قطعنا بذلك عن طريق النصوص، فلا يبقى مجال لغير المعجزة طريق لمعرفة شخص الامام المهدي (ع) لامكان انطباق بعض الصفات في غيره...

ب . الدليل النقلي: مع أن الدليل العقلي يكفي لانحصار الريق لمعرفة شخص الامام بالمعجز ولكن لا بأس أن نعضده بما روي عن الأئمة الهداة في ذلك، ومنه:

أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: قال : حدثنا أحمد ابن منصور الرمادي (الرشادي) قال: حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا مهلب بن قيس قال : قلت للصادق - عليه السلام -: بأي شيء يعرف العبد إمامه؟

قال : إن فعل كذا. ووضع يده على حائط فإذا الحائط ذهب، ثم وضع يده على أسطوانة فأورقت من ساعتها، فقال: بهذا يعرف الامام. (دلائل الامامة للطبري: ص250)

لا يخفى أن في هذه الرواية يؤكد الامام الصادق ع طريق معرفة شخص الامام بصورة عملية تجلي الضبابية عن السائل والسامع بالخبر..

حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم العجلي رضي الله عنه قال : حدثنا أحمد بن - يحيى بن زكريا القطان قال: حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب قال: حدثنا تميم بن - بهلول قال : حدثنا أبو معاوية ، عن سليمان بن مهران، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام قال: (عشر خصال من صفات الامام: العصمة، والنصوص، وأن يكون أعلم الناس وأتقاهم لله وأعلمهم بكتاب الله ، وأن يكون صاحب الوصية الظاهرة، ويكون له المعجز والدليل، وتنام عينه ولا ينام قلبه، ولا يكون له فيء، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه). (الخصال للصدوق: ص428)

يستعرض الامام الصادق ع عدة خصال تميز شخص الامام، ومنها المعجز، فقد يتعذر على بعض الناس أغلبها دون المعجزة، فطريقها سهل عليهم ما ان يراعوا الضوابط في التعريف المار الذكر..

وقد أكدت بعض الروايات أن جميع معاجز الانبياء ستجري على يد القائم من آل محمد عجل الله فرجه الشريف، قال ميرزا محمد تقي الأصفهاني في مكيال المكارم، ج1 ص151 : (ما رواه الشيخ الأجل ، محمد بن الحر العاملي ( ره ) في كتاب إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، عن كتاب إثبات الرجعة، للفضل بن شاذان (ره) أنه روى بإسناد صحيح ، عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (ما من معجزة من معجزات الأنبياء والأوصياء إلا ويظهر الله تبارك وتعالى مثلها في يد قائمنا لإتمام الحجة على الأعداء).


[1] بداية المعرفة لحسن مكي العاملي.

2019/10/15

معصومون عن ارتكاب الذنب: هل يعني أن الأنبياء والأئمة مسلوبوا الإرادة؟!

هل العصمة تعني أنّ المعصوم عاجز عن ارتكاب الذنوب؟ وإذا كان الأمر كذلك وانّه قد سُلِبت منه القدرة على ارتكاب الذنب فممّا لا ريب فيه لا يكون ترك الذنب حينئذ فخراً له. عندها، كيف يمكن أن نجيب عن هذا الإشكال؟

إنّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الإنسان، سواء فسّرناها بأنّها الدرجة القصوى من التقوى، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي، أو أنّها نتيجة الاستشعار بعظمة الرب والمحبة للّه سبحانه، فعلى كلّ تقدير يكون الإنسان المعصوم مختاراً في فعله قادراً على الفعل والترك.

وإذا ما أردنا أن نقرب الفكرة بمثال حسّي نقول: صحيح أنّه لا يوجد إنسان عاقل واقف على وجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك المنزوعة الجلد يقدم على مسكها، كما أنّ الطبيب لا يتناول سؤر المصابين بالأمراض السارية كالجذام والسل وغير ذلك، لعلمهما بعواقب ذلك، ولكنّ في الوقت نفسه يرى كلّ واحد منهما أنّه قادر على ذلك الفعل بحيث لو قرّر في يوم ما التخلّص من حياته يقوم بارتكاب ذلك الفعل ولا يعجز عنه، وهذا يعني أنّهما يرجّحـان التـرك على الفعل، لعلمهما بالعواقب الوخيمة للفعل ولا يقدمان عليه طيلة حياتهم، ولكنّ ترك الفعل شيء وعدم القدرة على ارتكابه شيء آخر كما هو واضح.

وبعبارة أُخرى يمكن القول: إنّ صدور مثل هذه الأفعال من الإنسان العاقل والراغب في سلامته يُعدّ من قبيل المحال العادي لا المحال العقلي، ولا ريب أنّ الفرق بين الاستحالتين واضح جداً، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات غير أنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح، بخلاف المحال العقلي فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتي، فعلى سبيل المثال صدور القبيح منه سبحانه أمر ممكن بالذات بمعنى أنّه داخل في إطار قدرته، فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار جهنم والعاصي في نعيم الجنة، غير أنّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة، فإنّ مقتضى الحكمة إثابة المطيع لا تعذيبه.

وعلى هذا الأساس لا يعتبر «عدم القيام بالفعل» دليلاً على عدم القدرة عليه، فالفرد المعصوم وبسبب التقوى العالية والعلم القطعي بآثار المآثم والمعاصي وبسبب استشعاره بعظمة الخالق يتجنّب اقتراف الذنوب واكتسابها وإن كان قادراً على ذلك .

الرؤية القرآنية

يمكننا ومن خلال الآيات المباركة التالية أن نطّلع على نظرية القرآن الكريم في هذا المجال، فقد قال سبحانه: ( ...وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراط مُسْتَقيم * ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشآءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَعَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .( [1])

فلو كان الإنسان المعصوم غير قادر على ارتكاب الذنب، فما معنى قوله: ( ...وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ؟

إذ فرض كون المعصومين لا يقدرون على ارتكاب الذنب الذي هو أعم من الشرك وغيره يجعل الآية أجنبية عنها، كما أنّه ورد في آية البلاغ قوله سبحانه:

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ... ) .( [2])

فالآية تدلّ بوضوح لا ريب فيه أنّ النبي قادر على العصيان، وأنّه بالرغم من وجود صفة العصمة قادر على ترك الرسالة وعدم تبليغ ما أنزل إليه من ربّه.


[1] . الأنعام:87ـ 88.

[2] . المائدة: 67.

2019/09/22

تعدد أزواج النبي (ص): لماذا لم يكتفِ بأربع نساء فقط؟!

- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي

مما اعترضوا عليه تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: إن تعدد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره والانقياد لداعي الشهوة: وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقنع بما شرعه لأمته من الأربع حتى تعدى إلى التسع من النسوة.

نقول: من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أن قصة تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست على هذه السذاجة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالغ في حب النساء حتى أنهى عدة أزواجه إلى تسع نسوة بل كان اختياره لمن اختارها منهن على نهج خاص في مدى حياته فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان تزوج - أول ما تزوج - بخديجة رضي الله عنها و عاش معها مقتصرا عليها نيفا و عشرين سنة و هي ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة ثم هاجر إلى المدينة و شرع في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الدين، و تزوج بعدها من النساء منهن البكر و منهن الثيب و منهن الشابة و منهن العجوز و المكتهلة و كان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثم حرم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه، و من المعلوم أن هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء و الولوع بهن و الوله بالقرب منهن فأول هذه السيرة و آخرها يناقضان ذلك.

على أنا لا نشك بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أن المتولع بالنساء المغرم بحبهن والخلاء بهن و الصبوة إليهن مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج و الدلال حنين إلى الشباب و نضارة السن و طراوة الخلقة، و هذه الخواص أيضا لا تنطبق على سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه بنى بالثيب بعد البكر و بالعجوز بعد الفتاة الشابة فقد بنى بأم سلمة و هي مسنة، و بنى بزينب بنت جحش و سنها يومئذ يربو على خمسين بعد ما تزوج بمثل عائشة و أم حبيبة و هكذا.

و قد خير (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه بين التمتيع و السراح الجميل و هو الطلاق إن كن يردن الدنيا و زينتها و بين الزهد في الدنيا و ترك التزيين و التجمل إن كن يردن الله و رسوله و الدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}: [الأحزاب 28-29]، و هذا المعنى أيضا - كما ترى - لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن.

فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما بين أول أمره و آخر أمره بعوامل أخر غير عامل الشره و الشبق و التلهي.

فقد تزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض هؤلاء الأزواج اكتسابا للقوة و ازديادا للعضد و العشيرة، و ببعض هؤلاء استمالة للقلوب و توقيا من بعض الشرور، و ببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق و إدارة المعاش و ليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل و العجائز من المسكنة و الضيعة، و ببعضها لتثبيت حكم مشروع و إجرائه عملا لكسر السنن المنحطة و البدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوجه بزينب بنت جحش و قد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد، و قد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبني و كانت زوجة المدعو ابنا عندهم كزوجة الابن الصلبي لا يتزوج بها الأب فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزل فيها الآيات.

و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوج لأول مرة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة و قد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، و كانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة و لو رجعت إلى أهلها و هم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين و المؤمنات بالزجر و القتل و الإكراه على الكفر.

و تزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أحد و كانت من السيدات الفضليات في الجاهلية تدعى أم المساكين لكثرة برها للفقراء و المساكين و عطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها.

و تزوج بأم سلمة و اسمها هند و كانت من قبل زوجة عبد الله أبي سلمة ابن عمة النبي و أخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة و كانت زاهدة فاضلة ذات دين و رأي فلما توفي عنها زوجها كانت مسنة ذات أيتام فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و تزوج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير قتل زوجها يوم خيبر و قتل أبوها مع بني قريظة، و كانت في سبي خيبر فاصطفاها و أعتقها و تزوج بها فوقاها بذلك من الذل و وصل سببه ببني إسرائيل.

و تزوج بجويرية و اسمها برة بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق و قد كان المسلمون أسروا منهم مائتي بيت بالنساء و الذراري، فتزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم و أعتقوهم جميعا فأسلم بنو المصطلق بذلك، و لحقوا عن آخرهم بالمسلمين و كانوا جما غفيرا و أثر ذلك أثرا حسنا في سائر العرب.

و تزوج بميمونة و اسمها برة بنت الحارث الهلالية و هي التي وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى فاستنكحها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تزوج بها و قد نزل فيها القرآن.

و تزوج بأم حبيبة و اسمها رملة بنت أبي سفيان و كانت زوجة عبيد الله بن جحش و هاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك و ثبتت هي على الإسلام و أبوها أبو سفيان يجمع الجموع على الإسلام يومئذ فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أحصنها.

و تزوج بحفصة بنت عمر و قد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر و بقيت أرملة و تزوج بعائشة بنت أبي بكر و هي بكر.

فالتأمل في هذه الخصوصيات مع ما تقدم في صدر الكلام من جمل سيرته في أول أمره و آخره و ما سار به من الزهد و ترك الزينة و ندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمل موضع شك في أن ازدواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن تزوج بها من النساء لم يكن على حد غيره من عامة الناس، أضف إلى ذلك جمل صنائعه (صلى الله عليه وآله وسلم) في النساء، و إحياء ما كانت قرون الجاهلية و أعصار الهمجية أماتت من حقوقهن في الحياة، و أخسرته من وزنهن في المجتمع الإنساني حتى روي أن آخر ما تكلم به (صلى الله عليه وآله وسلم) هو توصيتهن لجامعة الرجال قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "الصلاة ، الصلاة ، و ما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم" الحديث.

و كانت سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في العدل بين نسائه و حسن معاشرتهن و رعاية جانبهن مما يختص به (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله و كان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصاته التي منعت عنها الأمة، و هذه الخصال و ظهورها على الناس هي التي منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربصهم الدوائر به.


*المصدر: تفسير الميزان

2019/08/25

هل انتفت الحاجة لوجود الأنبياء؟!

لقد اختار اللهُ الحكيم رجالاً صالحين لهدايةِ البَشَرِ وإرشادِهم، وحمّلهم رسالته إلى جميع أفراد النوع الإنساني، وهؤلاء الرجال هُمُ الأنبياء والرُسل الذين بواسطتهم جَرى فيضُ الهداية من جانب الحق تعالى إلى عباده.

وهذا الفيضُ المبارك بدأ بالنزول من جانب الله منذ أن تهيّأ البشرُ للاستفادة منه وإلى عصر النبي الأكرمِ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ.

ويجب أن نعلم بأنَّ دين كلّ نبيٍّ من الأنبياء يُعدّ بالنسبة إلى عصره وأُمّته أكملَ دين، وأتَمَّ شريعة، ولو أنّ هذا الفيض الرباني لم يستمرّ لما بلغ البشرُ إلى حدِّ الكمال.

وحيث إنّ خَلقَ الإنسان هو من فعل الله «الحكيم» فلا بّد أن يكون له من هَدَف وغرض، ونظراً إلى أن تركيب الكيان البشري ـ مضافاً إلى الغرائز التي هي مشتركة بينه وبين الحيوان ـ ينطوي على العَقل أيضاً، لهذا لابُدّ أنْ يكونَ لِخَلقه غرض عُقلائيٌ، وهَدَفٌ مَعْقولٌ. ومن جانب آخر، فإنّ عَقل الإنسان، وإنْ كان مؤثِّراً ومفيداً في سلوكه طريقَ الكمال، إلا أنّه غيرُ كاف لذلك.

ولو اكتُفيَ في هداية الإنسان بالعقل وحده لما عَرفَ الإنسان طريقَ الكمال بشكل كامل قط، ونذكر للمثال مسألة الوقوف على قضايا المبدأ والمعاد التي هي من أَهم مسائل الفكر البشري، وقضاياه على مدار التاريخ.

فإنّ البشر يريد أن يَعْلَم من أين جاء؟ ولماذا جاءَ؟ وإلى أين يذهب؟ ولكنّ العقلَ لا يقدر وحدَه على إعطاء الإجابات الصحيحة الكافية على كلّ هذه الأسئلة، ويشهد بذلك أنّه رغم كل ما أحرزته البشرية المعاصرة من التقدّم والرقيّ في ميادين العلم لا يزالُ قِسمٌ عظيمٌ من البشريّة وثنيّين.

إنّ عجز العَقل والعلم البشريَّين، وقصورهما لا ينحصر في مجال قضايا المبدأ والمعاد، بل الإنسان لم يتمكّن من أن يختار الطريقَ الصحيحَ في كثير من مجالات الحياة أيضاً.

إنّ اختلاف الرؤى والنظريات البشريّة في قضايا الاقتصاد، والأخلاق، والعائلة، وغير ذلك من مناحي الحياة ومجالاتها، خير دليل على قصوره عن الإدراك الصحيح لهذه المسائل، ولهذا ظهرت المدارس المتعارضة.

مع أخذ كلّ هذا بنظر الاعتبار يحكم العقلُ الصحيحُ بأنّه لابدّ ـ بمقتضى الحكمة الإلهيّة ـ من بعث وإرسال قادة ربانيّين، ومربّين إلهيّين، لِيعَلِّمِوا البَشّريّة النهجَ الصحيحَ للحياة.

إنَّ الّذين يَتصوَّرون أنّ في مقدور «الهدايات العقليّة» أنّ تحلَّ محلّ «الهدايات الإلهيّة السّماويّة» يجب أن يدركوا أمرين:

1 ـ إنّ العَقل والعلم البشريّين قاصران عن المعرفة الكاملة بالإنسان، وبمسيره في صعيد الماضي والمستقبل، في حين يعلم خالقُ البشر ـ بحكم كون كلّ صانع عارفاً بمصنوعه ـ بالإنسان، ومحيطٌ بأبعاده، وأسرار وجوده، إحاطةً كاملةً.

2 ـ إنّ الإنسان بمقتضى غريزة حبّ الذات المودَعة في كيانه، يحاول ـ عِلماً أو جهلاً ـ أن يُتابعَ منافِعَه الشخصيّة ويهتمّ بها، فيعجز ـ في تخطيطه وبرمجته ـ عن الخروج من دائرة منافعه الفرديّة أو الجماعية بشكل كامل.

ولهذا من الطبيعي أن لا تتسم البرامج البشرية بالجامعيّة والشموليّة الكاملة، ولكن برامج الأنبياء والمرسلين لكونها من جانب الله العالم، المحيط، الحق، المنزّه، مبرّأةٌ عن مِثل هذه النقيصة.

وبملاحظة هاتين النقطتين يمكن القولُ ـ على وَجه القطع واليقين ـ: بأنّ البشر ليس في غنىً قط عن الهدايات الإلهيّة، وعن برامج الأنبياء، لا في الماضي، ولا في المستقبل إنما هو في حاجة مستمرة إليها.

إنّ القرآن يُلَخصّ أهدافَ بعثة الأنبياء في الأُمور التالية:

1 ـ تقوية أُسُسِ التوحيد ومكافحة كلّ نوع من أنواع الانحراف في هذا الصعيد، كما يقول القرآن: (وَلَقَدْ بَعَثْنا في كلّ أُمّة رَسُولاً أنِ اعبُدُوا اللهَ واجتَنِبُوا الطّاغوتَ) ([1]).

يقول الإمام أمير المؤمنين عليٌ ـ عليه السَّلام ـ حول الهدف من بعث الأنبياء:

«ليعلم العبادُ ربّهم إذ جهلوه، وليقرّوا به بعد إذ جحدوه، وليثبتوه بعد إذ أنكروه»([2] ).

2 ـ إيقاف الناس على المَعارف والرسالات الإلهيّة وعلى طريق التزكية والتهذيب كما يقول: (هُوَ الّذي بَعَثَ في الأُميّين رَسُولاً مِنهُمْ يَتْلُوا عَلَيهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ) ([3]).

3 ـ إقامة القِسط في المجتمعِ البشريّ، كما يقول: (لقد أرْسَلْنا رُسُلَنا بالبيّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكتِابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ) ([4]).

ومن المُسلَّم أن إقامة القِسط رهنُ معرفة الناس للعدالة في جميع الأبعاد والمجالات، كما ويتوقف على أن يقوموا بتحقيق ذلك من طريق الحكومة الإلهيّة.

4 ـ الفَصل في الخُصُومات وحَلّ الخلافات، كما يقول: (كانَ النّاسُ أُمّةً واحِدةً فَبَعثَ اللهُ النبيّينَ مُبَشِّرينَ ومُنْذِرِينَ وأنزلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقّ ليَحكُمَ بينَ النّاسِ فِيما اْخَتَلفُوا فيه) ([5]).

ومن البديهي أنّ اختلافات الناس لا تنحصر في مجال العقائد، بل تشمل شتّى مجالات الحياة المتنوعة.

5 ـ إتمام الحجّة على العباد كما يقول: (رُسُلاً مُبَشّرينَ وُمنْذِرينَ لئَلاّ يَكُونَ للِنّاس عَلىَ اللهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وكانَ اللهُ عَزيزاً حَكيماً) ([6] ). ومن المسلَّم أن لله تعالى في خلق الإنسان هدفاً وغرضاً، وهذا الهدف إنّما يتحقّق عن طريق تنظيم برنامج كامِل لجميع شؤون البشر.

وهذا البرنامج يجب أن يصل إلى البشرية، بحيث تَتُمُّ حُجّةُ الله على الناس ولا يبقى عذرٌ لأَحد ليقول: أنا لم أعرفِ البرنامجَ الصحيح للحياة.


[1]. النحل / 36.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 147.

[3]. الجمعة / 2.

[4]. الحديد / 25.

[5]. البقرة / 213.

[6]. النساء / 165.

2019/06/24