يستضيف موقع الأئمة الإثني عشر جملة من العلماء والفضلاء لعرض آرائهم في مجالات الدين والفكر والثقافة، ويسر أسرة تحرير "موقع الأئمة الإثني عشر" أن تحاور أستاذ البحث الخارج في الحوزة العلمية سماحة العلامة السيد منير الخباز، للحديث عن شخصية أستاذه المرجع الأعلى للطائفة اية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الشريف):
[اشترك]
الأئمة الإثنا عشر: نود أن نستعلم من سماحتكم بحكم تتلمذكم على يدي المرجع الأعلى للطائفة اية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الشريف) ما هو شكل علاقته بالكتاب؟
لقد عرف سماحته (دام ظله العالي) ـ منذ طفولته ـ برغبته الشديدة في أن يقضي معظم أوقاته وحده والكتاب بيده، لا يعنى ولا يهتم بالأسفار الترفيهية والتلاحمات الاجتماعية، فهو قليل الأصدقاء وقليل الزيارة للمجالس المختلفة، وقليل المزاح، وهمه في أن يعمر مجلسه العلمي أو التحليلي دون أي شيء آخر، وهذا عاملاً مهماً في بناء شخصيته الثقافية، حتى أصبح موسوعة متنوعة المعارف، متعددة الثقافات، ومكتبة متجسدة في شخصه المبارك.
الأئمة الإثنا عشر: بعض المتصيدين بالماء العكر يحاولون توجيه الإتهام لشخص السيد المرجع (دام ظله) في أنه إبان فترة الإحتلال الأمريكي للعراق لم يفتِ بوجوب الجهاد لمحاربة الأمريكيين، فما هو سر عدم توجيهه للعراقيين لهذا الغرض؟
لقد كان بإمكان السيد المرجع (دام ظله) إستغلال ظرف الإحتلال الأمريكي للعراق في إصدار فتوى الجهاد والمقاومة المسلحة، ليحرز بذلك كبيراً في الأمة الإسلامية والعربية، ويكون بطلاً من أبطال العروبة، ولكنه تعامل مع الحدث بواقعية تامة، وركز على المصالح العامة للشعب العراقي، في إطار الممكن والميسور، فلم يفتِ بوجوب المقاومة المسلحة للإحتلال، ولكنه لم يحرمها ويمنع منها في نفس الوقت، وذلك لجهتين:
أ- فمن جهة، قد أدرك أن الشعب العراقي المظلوم على مدى خمس وثلاثين سنة قد نزف من الدماء والجراح عشرات الآلاف، وقدم من الضحايا والمآسي ما لا يحصى، فمقتضى حب القائد لشعبه وإخلاصه له، وحفظاً على دمائه وأعرضه وأمواله، أن لا يكلفه ويلزمه ببذل المزيد من الدماء، وتقديم الكثير من الضحايا، خصوصاً وأن قطاعاً كبيراً من هذا الشعب قد سئم كثرة الجراح والمآسي، وآثر أن يخلد الى الراحة وترميم الجراح.
ب- ومن جهة أخرى فإن التعامل مع الأمور بواقعية مجردة عن نداء العواطف والإنفعالات، أن تدرس المواقف ضمن قاعدة المهم والأهم، وقد رأس سماحته أن إخراج المحتل من العراق أمر مهم، ولكن إعطاء فرصة للشعب العراقي ليبني له كياناً سياسياً بإرادته واختياره أهم.
وقد شخص أنه لو أفتى بوجوب اخراج المحتل، وبذل الشعب العراقي آلاف الدماء والضحايا لمدة ثلاث سنوات فإن نتيجة المعركة وثمرتها لن يحصدها الشعب العراقي، حيث أن البعث الصدامي وتنظيم القاعدة كان في تلك الفترة قوة عسكرية واستخبارية، ممتدة في طول البلاد وعرضها، وبالتالي فهم قيادة جاهزة لركوب الموجة واغتنام الفرصة، بحيث متى ما خرج المحتل سيطروا على مقدرات البلاد من جديد، وحكموا بالحديد والنار وعاثوا في الأرض فساداً، ودونكم تجربة الشعب الجزائري وغيره من الشعوب التي بذلت آلاف الدماء في ثورات وحركات مستميتة، وكانت النتيجة أن حصد الثمرة فئة قليلة من المجتمع، وهي التي سيطرت على ادارته وقيادته.
فيتضح أن سماحة السيد (دام ظله الشريف) قدم ما هو أهم على المهم، وهذا التوجه وإن كان أمراً مراً وصعباً ومصادماً لغليان العواطف والمشاعر، إلا أنه هو المنسجم مع رشد القيادة وواقعيتها وإخلاصها.
مضافاً الى ذلك كله فإنه لم يحرم القيادة المسلحة، ولم يستقبل أي طرف يتعاون مع الإحتلال، أو يكون ممثلاً له، ولم يعبر عن الوجود الأمريكي والبريطاني في العراق إلا بالإحتلال، الى يومنا هذا، وأصر على اجراء الانتخابات، مع أن المخطط الأمريكي هو نصب حكومة موالية له بأساليب معينة، كما أصر على عدم عقد اتفاقية استراتيجية مع الجانب الأمريكي إلا إذا تضمنت عنصرين
ـ المحافظة على سيادة العراق واستقلاله.
ـ وتوفر الاجماع الوطني على قبولها والتفاعل معها.
الأئمة الإثنا عشر: مع أن سماحة السيد المرجع (دام ظله الشريف) هو المرجع الأعلى للطائفة، إلا أننا نرى أنه لا يمتلك أدنى مقومات الحياة المرفهة، فلم يلحظ عليه أنه عاش في بيت واسع أو ركب سيارة فارهة، فما السر في ذلك؟
لقد جاء على لسان أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في بيان وصف معيشته أنه قال (ألا وان لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن أمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه) وقد جسد السيد المرجع (دام ظله العالي) هذا العبارة بأدق تفاصيلها، فهو ـ منذ عشرات السنين ـ يسكن كوخاً من أكواخ النجف القديمة، بأجرة يدفعها في موعدها كل شهر، ويعيش عيشة الزاهد في المظاهر الدنيوية، من دون أن يعبأ بلذة أو إغراء.
وحاله في لباسه وأثاثه ومائدة طعامه بعد المرجعية، هو حاله عندما كان طالب علم في الثلاثين من عمره، يعيش على راتب قليل يستلمه من بعض أساتذته.
ثم إنه منع على نفسه وابنائه أن يتملكوا داراً أو سيارة أو أي جهاز مهم، كما منع نفسه وأبنائه قبول أي هدية توجب إنحيازاً نفسياً لأحد على حساب آخرين، ولم يقبل أن تخصه الحكومة العراقية بطاقة من الكهرباء، أو بإقامة معينة دون غيره من أبناء شعبه، مستشهداً بكلمات مثله الأعلى امير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) (إِنَّ اَللَّهَ فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ اَلْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ اَلنَّاسِ كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ) .
وإن البيئة التي عاشها في مشهد ـ منذ نعومة أظفاره، حيث كانت بيئة زهد وإنصراف عن زخارف الدنيا ومظاهرها ـ جعلته يأبى أن ينشغل بأي مظهر يشعر أن فيه زهواً وبروزاً دنيوياً، فذلك نأى بنفسه عن الظهور في الوسائل الاعلامية المختلفة، إلا بمقدار الضرورة القصوى، حفظاً لنفسه السامية برصيد التقوى والورع عن التلذذ بأي مظهر دنيوي أو مادي.
كما أبى على وكلائه ومقلديه رفع صوره، أو إبرازه دون غيره من مراجع التقليد، حرصاً على أن لا توسم القيادة العلوية الإمامية بسمة الإنشغال بالدعاية والإعلام المادح، فإن رأيته وجلست بين يديه وجدت أن المثل العلوي (يا دنيا.... غري غيري) هو مظهره العام والخاص.
الأئمة الإثنا عشر: ما هو السبب الرئيسي الذي يجعل المرجعية ترفض إنشاء قناة فضائية تشرح من خلالها مواقفها الدينية والسياسية للناس؟
ربما يرى بعض المحبين المخلصين، أن تعامل المرجعية مع الشعب والأمة، من خلال بيانات تصدر من بيت المرجع متضمن لنوع من الإحتقار والاستصغار للأمة، بينما لو إنشئت قناة تخص المرجعية، وتنهض بدور إبراز المرجع القائد، وهو يخاطب أبنائه بصوته وصورته واستعراض أخبار المرجعية بشكل يومي، وطرح بياناتها ورؤاها في جميع الظروف والمواقع، لكان ذلك مظهراً حضارياً للقيادة الأبوية، وعاملاً أساسياً في تعميق التواصل بين القائد وأمته.
إلا أن للسيد المرجع (دام ظله) نظرة أخرى تتضمن أموراً:
أ - إن المهم في احترام الأمة والإخلاص لها ليس في إنشاء القنوات والتحشيد الإعلامي، وإنشغال الناس بصور القائد وبياناته وكلماته، وإنما الإنجازات العملية على الأرض، فلذلك يرى (دام ظله) أن ما يقوم به المعتمدون من وكلائه، من إنشاء مراكز للعلوم العقائدية، ومراكز للتبليغ واعداد المبلغين ـ كما في مكتبه في قم ـ وما يقومون به من بذل آلاف الأموال على الفقراء لإنعاشهم وإنقاذهم، وإنشاء المستشفيات واعداد المؤسسات التنموية والمدنية العامة، ومن بعض الشواهد على ذلك:
ـ قناة هدهد للأطفال
ـ شبكة رافد للتنمية
ـ بناء المدن لطلبة العلم في النجف وقم
ونحو ذلك من الخدمات، مع كونه يعيش داخل بيته بنهج عيشة الفقراء، فهذا النهج هو المحقق لإحترام الأمة والإخلاص لها والمواساة لأوضاعها، وليس الإعلام.
ولذلك كان منهجه في كثير من الثورات والحركات تقديم خطوات عملية فاعلة، لا بإصدار البيانات النارية.
ب - أنه لو تصدى لإنشاء قناة تخصه، لكان ذلك سبباً لظاهرة قنوات المراجع، فسنرى بعد ذلك أن كل مرجعية تتبنى قناة تخصها وتعنى بشؤونها، وهو منا يخلق ساحة للإختلاف والتنافس المحموم، وإشغال الأمة بأمور ثانوية عن القضايا الأولية.
ج - إن في اختيار الظروف المناسبة للظهور، وتعويد الأمة على أن المرجعية لا تتحدث إلا في القضايا المهمة الشائكة، يجعل لبيان المرجعية وقعاً في النفوس أكثر تأثيراً، وأبلغ تحريكاً من كثرة البيانات واستهلاك الطرح.
ونعود لنقول: إن العامل المتجذر في شخصيته، في الرغبة عن الظهور، والإنصراف النفسي عن كل ما يراه مظهراً دنيوياً زائلاً، هو بالحقيقة سبب مؤثر في امتناعه عن البروز في وسائل الاعلام.
الأئمة الإثنا عشر: يجهل الكثير من الناس تعلق السيد المرجع (دام ظله) وولعه بالعبادة، فهل لسماحتكم أن تحدثونا عن هذا الجانب من حياته المباركة؟
- كثير من علمائنا الربانيين قد ظهر مدى تعلقهم بالعبادة، حتى أن جمعاً منهم قد برز في ساحة العرفاء والمتعلقين بعالم الملكوت، ولكن سيدنا المرجع (دام ظله) يتمثل في حركته وسلوكه بالمقالة المشهورة للعارف المقدس السيد علي القاضي (أعلى الله مقامه) (من وصل لم يقل، ومن قال لم يصل).
فهو الذي يقضي الكثير من وقته في الخلوة مع نفسه، وفوق سطح بيته، ناظراً لقبة جده أمير المؤمنين (عليه السلام) متذكراً سيرته متأملاً حياته ومنهجه، فهو مصداق لما ورد في مدح أمير المؤمنين(عليه السلام) (يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلب كفيه على ما مضى).
وهو الذي يعيش لذة خاصة بالذكر والنافلة، ومع ذلك كله فهو لم يظهر يوماً من الأيام انتسابه الى لعالم العرفاء، ولم يتشدق بكونه من أهل العبادة والذكر، بل كان ايام قدرته على الخروج من بيته يواظب على زيارة قبر جده أمير المؤمنين (عليه السلام) وزيارة مسجد الكوفة بالذات والسهلة، في أوقات لا يراه إلا القليل من الناس.
كما أن علاقاته بالعرفاء الصادقين في النجف الأشرف، لم يطلع عليها حتى بعض خواصه المقربين لديه، فالعبرة عنده بصدق اليقين بينه وبين ربه، لا بالصورة السائدة بين الناس.
ولكن خير شاهد يدلك على تجذر نفسه العبادي وروحه العرفانية، أنك إذا جلست عنده وجدته مصداقاً للحديث عن الصادق (عليه السلام) حين سئل عن قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) النظر في وجوه العلماء عبادة، قال (عليه السلام): العالم اذا نظرت اليه ذكرك الاخرة.
الأئمة الإثنا عشر: يتميز مراجع الطائفة بغزارة العلم وسعة الاطلاع، حتى عُد الكثير منهم أصحاب مدارس برأسها أمثال الشيخ الأعظم والمحقق صاحب الكفاية والشيخ النائيني والسيد الخوئي (قدست أسرارهم) وقد سار على خطاهم السيد المرجع (دامت بركاته) السؤال هنا: هل لكم أن تطلعونا على أهم ما تضمنته حركته الفكرية على مدى الثمانين عاماً التي قضاها في خدمة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)؟
مما لا شك فيه أن مقام المرجعية هو الإحاطة بجميع العلوم الدخيلة في الاستنباط، وتحديد الحكم الشرعي ومنها: اللغة والتفسير وعلم الكلام، بل لا بد من كون الفقيه صاحب رأي ونظر ثاقب في هذه العلوم كلها، وجميع المراجع الأعلام أساتذة الحوزة العلمية على هذه الصفة، من دون أن تنحصر مهارتهم في الفقه والأصول، وهذا يقتضي عرضاً تفصيلياً على العنصر العلمي لشخصية السيد المرجع (دام ظله).
والحديث عن المنهج العلمي الذي تبناه السيد المرجع (دام ظله) في محاضراته في الحقول الحوزوية الثلاثة: الأصول والفقه والرجال.
الحقل الأصولي
إن للسيد الأستاذ في علم الأصول منهجاً متميزاً، ومساراً يختلف عن مسار كثير من أرباب علم الأصول وأساتذته، ويتبين ذلك باستعراض معالم مدرسته الأصولية:
أ - إن الأستاذ قبل أن يشرع في بحث أي مسالة أصولية، وعرض تفاصيلها، يقرأ المسالة قراءة شمولية، من أجل اقتناص النكات العامة المؤثرة في بناء المسالة قبولاً أو رفضاً، وفرزها عن النكات الثانوية والجزئية، مما يعطي بصيرة لكل باحث يتناول المسألة، وهذا يختلف عن منهج كثير من الأساتذة الذين يتناولون كل مسألة بمنهج تجزيئي، والانتقال من فقرة الى أخرى بنحو تختلط فيه النكات العامة بالنكات الخاصة.
ب - تنوع الثقافات:
إن السيد الأستاذ كما هو فقيه متضلع وأصولي بارع ورجالي ماهر، وصاحب نظر ثاقب في الفلسفة والتفسير، فانه متعدد الثقافات أيضاً، فقد دأب على قراءة بعض العلوم الإنسانية : كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم القانون، ودقق النظر في القانون المصري والعراقي والفرنسي: كما أن له اطلاعاً وافراً بالتاريخ، وخصوصاً التاريخ السياسي للدول العربية والإسلامية، وهذا التنوع الثقافي تجلى أثره في بحوثه الأصولية، فقد استفاد من الألسنيات في تقسيم الدلالة في باب المفاهيم، وتقسيم الحكومة وتنوع ألسنة التنزيل في النصوص، كما استعرض ذلك في بحثه في قاعدة لا ضرر .
الحقل الفقهي
إن بحوثه الفقهية تتميز بسمات تشبع نهم الباحث، وتروي غليله باستيعاب نكات المسائل، والوصول لأفضل الآراء دقة ومتانة وهي عديدة:
السمة الأولى: تاريخ المسألة
إن السيد الأستاذ يستعرض المسالة منذ بداية طرحها في أول كتاب فقهي وصل إلينا، من كتب الخاصة أو العامة، ولاشك أن قراءة سير المسألة ونموها دخيل في تحقيق الأقوال، ومعرفة مدى ارتباطها أو بعدها عن لب المسالة وكنهها.
السمة الثانية: كتب القدماء
إن التركيز في بحثه على مراجعة كتب القدماء في المسألة، والتدقيق في عباراتهم عند تناول المسألة، له صلة وثيقة باستكشاف القرائن الارتكازية المعاشة عندهم، والتي لم تصل الينا بلحاظ أنهم أول من تلقى النصوص، وهم أقرب لزمان النصوص، وهم أقرب لزمان صدورها، وأكثر احاطة بقرائنها الحالية والارتكازية.
كما أن ذلك دخيل في معرفة حجم الحكم، وأنه بدرجة الشهرة، أو الإجماع، أو التسالم، أو الضرورة.
السمة الثالثة: أجواء النصوص
من الركائز الأساسية في بحثه قراءة الكتب الفقهية والحديثية للعامة، في كل مسألة، بلحاظ أن كثيراً من الروايات ما هي إلا تعليق على رأي الجمهور، لتخطئة أو إضافة.
فقراءة كلمات العامة في المسألة كاشف عن الأجواء المعاصرة للرواية الصادرة عن المعصوم، وقرينة من قرائن مفادها، كما تعرض لذلك جمع من الأعلام في وجوب الخمس في الأرض المشتراة من الذمي.
السمة الرابعة: الخبرة بكتب الحديث
فبحثه الفقهي يشتمل على مخزون وافر من الخبرة بالنسخ الخطية للكتب الأربعة، وغيرها من كتب الحديث والدقة في التتبع والمقارنة بيتن موارد الاختلاف فيها، والقدرة البارعة على ترجيح بعض النسخ على الأخرى، وهذا ما لاتجده في كثير من البحوث الحوزوية.
ومن مصاديق ذلك ما أشتهر من أن الكافي أشد ضبطاً من التهذيبين، لترجيح مصادر الكافي على مصادر غيره، فذهب (دام ظله) الى أنه هو لا شاهد عليه، بل الشواهد المتوفرة على عدمه بحسب نظره الشريف.
الحقل الرجالي
من سمات الشخصية العلمية للسيد الأستاذ أنه فارس في ميدان علم الرجال، لوضوح مهارته وبراعته الفائقة في عدة جهات من هذا العلم:
أ - خبرته بمختلف الكتب الرجالية لدى الخاصة والعامة، وتحديده للغرض من تدوين كل كتاب منها، لدخالة ذلك في قيمة التوثيق والتضعيف فيها .
ب - تمييز السابق من اللاحق، لتحديد كون الجرح أو التعديل تأسيساً أو موروثاً.
ج - التركيز على ألسنة التوثيق المتنوعة، من المدح أو الترضي أو التوثيق الصريح، أو النعت بأنه صحيح الحديث، أو صالح الرواية، أو أن حديثه لا ينكر، فان اختلاف العبارات ليس مجرد تفنن، وإنما هو دخيل في تقويم درجة الوثوق بالراوي، وقيمة الاعتماد على الرواية وفي اثبات حكم مخالف للقواعد، بل أن لكل رجالي مصطلحات خاصة به لا تعرف إلا بالخبرة بكتابه.
د - لقد ذهب السيد الأستاذ (أمد الله في عمره المبارك) الى أن قول الرجالي توثيقاً أو تضعيفاً، ليس شهادة وإنما هو رأي حدسي، فكلمات الرجاليين إحدى قرائن الوثوق، ومقتضى ذلك جمع القرائن المختلفة المتصيدة من كتب الحديث والفقه وكتب الأدب، كشهرة الراوي، أو كونه من مشائخ الإجازة، أو استحسان العامة له، أو رفضهم إياه، فان كل ذلك دخيل في تحديد وثاقته لدى الخاصة.
هـ - فن الترجيح: إن تقديم كلمات النجاشي على الشيخ، أو تقديم كلمات الكشي عليهما، يتقوم بالخبرة الاستقرائية لكتب الثلاثة، ومعرفة مدى الدقة والمهارة لكل منهما في مقام الجرح والتعديل، ومدى قيمة المصادر المعتمدة لدى مؤلفي هذه الكتب.
و - ثقافة الراوي: من جملة قرائن الوثوق بالراوي، استقراء رواياته المختلفة، لشهادة مضامينها بثقافته، وتحديد أن المتعارف في رواياته رواية ما هو مخالف للقواعد، أو ما هو منكر في علم الكلام، أو أن سنخ أحاديثه موافق للمضامين العامة للدين الحنيف والشرع المطهر.
ز - صفة الراوي: كما أن تحديد صفة الراوي وتمييز كونه من المجتهدين أو من الرواة، دخيل أيضاً في قيمة الوثوق بالمتن المروي من قبله عن المعصوم (عليه السلام).
ولا ننسى أن نشير الى أن من المواهب التي حباها تعالى لسيدنا الأستاذ (دام ظله) أن رزقه الله ولدين فقيهين جليلين هما من علية أساتذة حوزة النجف الأشرف، ولهما من النتاج العلمي ما يستفيد منه أهل الفضل والتدقيق.
حاوره: سماحة الشيخ أحمد الشبلي