كثر الحديث بين أصحاب القصص والأساطير عن هذين الملكين، واختلطت الخرافة بالحقيقة بشأنهما، حتی ما عاد بالإمكان استخلاص الحقائق مما كتب بشأن هذه الحادثة التاريخية، و يظهر أن أصح ما قيل بهذا الشأن و أقربه إلی الموازين العقلية و التاريخية و الأحاديث الشريفة هو ما يلي:
[اشترك]
شاع السحر في أرض بابل و أدّی إلی إحراج النّاس و ازعاجهم، فبعث اللّه ملكين بصورة البشر، و أمرهما أن يعلما النّاس طريقة إحباط مفعول السحر، ليتخلصوا من شرّ السحرة.
كان الملكان مضطرين لتعليم النّاس اصول السحر، باعتبارها مقدمة لتعليم طريقة إحباط السحر. واستغلت مجموعة هذه الأصول، فانخرطت في زمرة الساحرين، وأصبحت مصدر أذی للناس.
الملكان حذرا النّاس- حين التعليم- من الوقوع في الفتنة، ومن السقوط في حضيض الكفر بعد التعلم، لكن هذا التحذير لم يؤثّر في مجموعة منهم١.
وهذا الذي ذكرناه ينسجم مع العقل والمنطق، و تؤيده أحاديث أئمّة آل البيت عليهم السّلام منها ما ورد في كتاب عيون أخبار الرضا (و قد أورده في أحد طرقه عن الإمام الرضا عليه السّلام في طريق آخر عن الامام الحسن العسكري عليه السّلام)٢.
أمّا ما تتحدث عنه بعض كتب التاريخ ودوائر المعارف بهذا الشأن فمشوب بالخرافات والأساطير، و بعيد كل البعد عمّا ذكره القرآن، من ذاك مثلا أن الملكين أرسلا إلی الأرض ليثبت لهما سهولة سقوطهما في الذنب إن كانا مكان البشر، فنزلا و ارتكبا أنواع الآثام و الذنوب و الكبائر!! والنص القرآني بعيد عن هذه الأساطير و منزّه منها.
لفظ هاروت وماروت
زعم بعض المحققين أن «هاروت» و «ماروت» لفظان فارسيان قديمان.
وقال: إن كلمة «هوروت» تعني «الخصب»، و «موروت» تعني «عديم الموت» واسما هاروت و ماروت مأخوذان، من هذين اللفظين٣. و هذا الاتجاه في فهم معنی الاسمين لا يقوم علی دليل.
و في كتاب «أوستا» وردت ألفاظ مثل: «هرودات» و يعني «شهر خرداد»، و كذلك «أمردات» بمعنی عديم الموت، و هو نفسه اسم «شهر مرداد»٤.
و في معجم (دهخدا) تفسير للفظين شبيه بما سبق.
و العجيب أن البعض ذهب إلی أن هاروت و ماروت من البشر و من سكنة بابل!، و قيل أيضا أنّهما من الشياطين!! و الآيات المذكورة ترفض ذلك طبعا.
كيف يكون الملك معلما للإنسان؟
يبقی السّؤال عن الرابطة بين الملك والإنسان، وهل يمكن أن تكون بينهما رابطة تعليمية؟ الآيات المذكورة تصرح بأن هاروت و ماروت علّما النّاس السحر، و هذا تمّ طبعا من أجل إحباط سحر السحرة في ذلك المجتمع. فهل يمكن للملك أن يكون معلما للإنسان؟
الأحاديث الواردة بشأن الملكين تجيب علی هذا السّؤال، و تقول: إن اللّه بعثهما علی شكل البشر، و هذه الحقيقة يمكن فهمها من الآية التاسعة لسورة الأنعام أيضا، حيث يقول تعالی: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا.
لا قدرة لأحد علی عمل دون إذن اللّه
نفهم من قول اللّه في هذه الآيات أن السحرة ما كانوا قادرين علی إنزال الضّر بأحد دون إذن اللّه سبحانه، و ليس في الأمر «جبر» و لا إرغام، بل إن هذا المعنی يشير إلی مبدأ أساس في التوحيد، و هو إن كلّ القوی في هذا الكون تنطلق من قدرة اللّه تعالی، النار إذ تحرق إنما تحرق بإذن اللّه، و السكين إذ تقطع إنما تقطع بأمر اللّه. لا يمكن للساحر أن يتدخل في عالم الخليفة خلافا لإرادة اللّه.
كلّ ما نراه من آثار و خواص إنما هي آثار و خواص جعلها اللّه سبحانه للموجودات المختلفة، و من هذه الموجودات من يحسن الاستفادة من هذه الهبة الإلهية و منهم من يسيء الاستفادة منها. و «الاختيار» الذي منحه اللّه للإنسان إنما هو وسيلة لاختباره و تكامله.
السحر و تأريخه
الحديث عن السحر و تاريخه طويل، و نكتفي هنا بالقول إن جذوره ضاربة في أعماق التاريخ، و لكن بداياته و تطوراته التاريخية يلفّها الغموض و لا يمكن تشخيص أول من استعمل السحر.
و بشأن معناه يمكن القول: إنه نوع من الأعمال الخارقة للعادة، تؤثر في وجود الإنسان، و هو أحيانا نوع من المهارة و الخفة في الحركة و إيهام للأنظار، كما إنه أحيانا ذو طابع نفسي خيالي.
و السحر في اللغة له معنيان:
١- الخداع و الشّعوذة و الحركة الماهرة.
٢- كل ما لطف و دقّ.
و الراغب ذكر للفظ السحر ثلاثة معان قرآنية:
الأوّل: الخداع و تخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يده، و ما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع.
الثّاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه.
الثّالث: هو اسم لفعل يزعمون أنه من قوّته يغيّر الصور و الطبائع فيجعل الإنسان حمارا، و لا حقيقة لذلك٥.
نستنتج من دراسة ٥١ موضعا من مواضع ذكر كلمة «سحر» في القرآن الكريم أن السحر ينقسم في رأي القرآن الكريم علی قسمين:
١- الخداع و الشعبذة و خفة اليد و ليس له حقيقة كما جاء في قوله تعالی:
فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعی٩ و قوله: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ٦ و يستفاد من هذه الآيات أن السحر ليس له حقيقة موضوعية حتی يمكنه التأثير في الأشياء، بل هو خفة حركة اليد و نوع من خداع البصر فيظهر ما هو خلاف الواقع.
٢- يستفاد من آيات اخری أن للسحر أثرا واقعيا، كقوله سبحانه:
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ، و قوله: وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ كما مرّ في الآيات التي نحن بصددها.
و هل إن للسحر تأثيرا نفسيا فقط، أم يتعدی ذلك إلی الجسم أيضا؟ لم تشر الآيات أعلاه إلی ذلك، و يعتقد بعض النّاس أن هذا التأثير نفسي لا غير.
جدير بالذكر أن بعض ألوان السحر كانت تمارس عن طريق الاستفادة من خواص المواد الكيمياوية و الفيزياوية لخداع النّاس. فيحدثنا التاريخ أن سحرة فرعون وضعوا داخل حبالهم و عصيّهم مادة كيمياوية خاصّة (و لعلها الزئبق)، كانت تتحرك بتأثير حرارة الشمس أو أية حرارة اخری، و توحي للمشاهد أنها حيّة. و هذا اللون من السحر ليس بقليل في عصرنا الرّاهن.
السّحر في رأي الإسلام
أجمعت الفقهاء علی حرمة تعلم السحر وممارسته، و جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام: «من تعلّم من السّحر قليلا أو كثيرا فقد كفر و كان آخر عهده بربّه»٧.
و لكن- كما ذكرناه يجوز تعلم السحر لإبطال سحر السحرة، بل يرتفع الجواز أحيانا إلی حد الوجوب الكفائي، لإحباط كيد الكائدين و الحيلولة دون نزول الأذی بالنّاس من قبل المحتالين. دليلنا علی ذلك حديث روي عن الإمام أبي عبد اللّه جعفر محمّد الصادق عليه السّلام: «كان عيسی بن شقفی ساحرا يأتيه النّاس و يأخذ علی ذلك الأجر فقال له جعلت فداك أنا رجل كانت صناعتي السّحر و كنت آخذ عليه الأجر و كان معاشي و قد حججت منه و منّ اللّه عليّ بلقائك و قد تبت إلی اللّه عزّ و جلّ فهل لي في شيء من ذلك مخرج فقال له أبو عبد اللّه حلّ و لا تعقد»٨.
و يستفاد من هذا الحديث أن تعلّم السحر و العمل به من أجل فتح و حلّ عقد السحر لا إشكال فيه.
السحر في رأي التوراة
أعمال السحر و الشّعبذة في كتب العهد القديم (التوراة و ملحقاتها) هي أيضا ذميمة غير جائزة. فالتوراة تقول: «لا تلتفتوا إلی الجان و لا تطلبوا التوابع فتنجسوا بهم و أنا الربّ إلهكم»٩.
و جاء في موضع آخر من التوراة: «و النفس التي تلتفت إلی الجان و إلی التوابع لتزني ورائهم اجعل وجهي ضد تلك النفس و اقطعها من شعبها»١٠.
و يقول قاموس الكتاب المقدس: «واضح أن السحر لم يكن له وجود في شريعة موسی، بل إن الشريعة شددت كثيرا علی أولئك الذين كانوا يستمدون من السحر».
و من الطريف أن قاموس الكتاب المقدس الذي يؤكد علی أن السحر مذموم في شريعة موسی، يصرح بأن اليهود تعلّموا السحر و عملوا به خلافا لتعاليم التوراة فيقول: «... و لكن مع ذلك تسرّبت هذه المادة الفاسدة بين اليهود، فآمن بها قوم، و لجأوا إليه في وقت الحاجة»١١.
و لذلك ذمهم القرآن، و أدانهم لجشعهم و طمعهم و تهافتهم علی متاع الحياة الدنيا.
السحر في عصرنا
توجد في عصرنا مجموعة من العلوم كان السحرة في العصور السالفة يستغلونها للوصول إلی مآربهم.
١- الاستفادة من الخواص الفيزياوية و الكيمياوية للأجسام، كما ورد في قصّة سحرة فرعون و استفادتهم من خواص الزئبق أو أمثاله لتحريك الحبال و العصيّ.
واضح أن الاستفادة من الخصائص الكيمياوية و الفيزياوية للأجسام ليس بالعمل الحرام، بل لا بدّ من الاطلاع علی هذه الخصائص لاستثمار مواهب الطبيعة، لكن المحرم هو استغلام هذه الخواص المجهولة عند عامة النّاس لإيهام الآخرين و خداعهم و تضليلهم، مثل هذا العمل من مصاديق السحر، (تأمل بدقة). ٢- الاستفادة من التنويم المغناطيسي، و الهيبنوتيزم، و المانيةتيزم، و التلهباتي (انتقال الأفكار من المسافات البعيدة).
هذه العلوم هي أيضا إيجابية يمكن الاستفادة منها بشكل صحيح في كثير من شؤون الحياة. لكن السحرة كانوا يستغلونها للخداع و التضليل.
ولو استخدمت هذه العلوم اليوم أيضا علی هذا الطريق المنحرف فهي من «السحر» المحرّم.
بعبارة موجزة: إن السحر له معنی واسع يشمل كل ما ذكرناه هنا و ما أشرنا إليه سابقا.
و من الثابت كذلك أن قوة الإرادة في الإنسان تنطوي علی طاقات عظيمة.
و تزداد هذه الطاقات بالرياضات النفسية، و يصل بها الأمر أنها نستطيع أن تؤثر علی الموجودات المحيطة بها، و هذا مشهود في قدرة المرتاضين علی القيام بأعمال خارقة للعادة نتيجة رياضاتهم النفسية.
جدير بالذكر أن هذه الرياضات تكون مشروعة تارة، و غير مشروعة تارة اخری.
الرياضات المشروعة تخلق في النفوس الطاهرة قوة إيجابية بناءة، و الرياضات غير المشروعة تخلق قوة شيطانية، و قد تكون كلا القوتين قادرتين علی القيام بأعمال خارقة للعادة، لكن الاولی إيجابية بناءة، و الاخری مخربة هدامة.
الهوامش:
١ مجمع البيان، في تفسير الآية المذكورة. الوسائل، ج ١٢، ص ١٠٦- ١٠٧.
٢ نفس المصدر.
٣ أعلام القرآن، ص ٦٥٥.
٤ نفس المصدر.
٥ مفردات الراغب، مادة سحر.
٦ طه، ٦٦.
٧ الأعراف، ١١٦.
٨ وسائل الشيعة، الباب ٢٥، من أبواب ما يكتسب به، حديث ٧.
٩ وسائل الشيعة، ج ١٢، ص ١٠٥، ح ٥.
١٠ الكتاب المقدس سفر لاويين الإصحاح، ١٩ الرقم ٣١.
١١ الكتاب المقدس سفر لاويين الإصحاح ٢٠ الرقم ٦.